هجوم الكنيسة: ضربة في قلب العراق تثير تساؤلات حول مستقبل الوجود المسيحي فيه

ناجون وأقارب ضحايا: فقدنا جزءا من روحنا ولا يعرف أحد ما يقوله بشأن مصيرنا

TT

يوم الاثنين كانت الدماء لا تزال تغطي جدران كنيسة «سيدة النجاة» وبقيت أشلاء القتلى بين صفوف الكراسي، وذلك بعد أسوأ مذبحة تعرض لها مسيحيو العراق منذ الغزو عام 2003. وبالنسبة إلى الناجين، فإن المأساة تتجاوز مجرد الخسائر البشرية، فوابل القذائف والرصاص والأحزمة الناسفة فك خيطا آخر في بنية دولة اشتهرت بالتنوع العرقي والطائفي.

ويقول رودي خالد، وهو مسيحي يبلغ من العمر 16 عاما يعيش في منزل في نفس الشارع: «الآن فقدنا جزءا من روحنا، ولا يعرف أحد ما يقوله بشأن مصيرنا».

وهذه المذبحة، التي يقف وراءها تنظيم القاعدة تبدو شيئا هينا بالمقارنة مع مشاهد أسوأ أعمال العنف التي وقعت داخل العراق. فمنذ بدء الغزو الأميركي مات عشرات الآلاف من العراقيين - سواء من المسلمين السنة أو الشيعة - ولكن لم تتسبب الكثير من عمليات القتل في إثارة حالة الغضب مثلما حدث يوم الاثنين.

في السابق كان العراق يضم مزيجا متنوعا من العقائد والعادات والتقاليد، ووضعت مذبحة يوم الأحد حدا آخر داخل دولة تشتهر بالحرب والاحتلال والحرمان.

ومنذ وقت طويل رحل عن العراق تقريبا جميع اليهود الذين كانوا فيه وتراجعت أعداد المسيحيين، فبعد أن كان عددهم يتراوح ما بين 800 ألف و1.4 مليون نسمة، يعتقد أن نصف هذا العدد على الأقل رحل منذ 2003، حسب ما تقوله قيادات مسيحية.

ويقول بسام سامي، الذي بقي داخل غرفة لأربع ساعات قبل أن تتمكن القوات الأمنية من إطلاق سراحه: «جاءوا لقتل العراق وليس لقتل العراقيين. وجاءوا ليقتلوا روح العراق، وليقضوا على سبب العيش وكل حلم تريد أن تحققه».

وقال آخر اسمه خالد بينما كان يقف في أسفل الطريق يحدوه شعور بالضيق بقدر شعوره بالقلق على دولة بدت وكأنها استعادت الحياة الطبيعية ولكن سرعان ما ظهرت فيها أعمال عنف من جديد «لا يوجد من يستطيع الإجابة علينا».

ولم تكن ثمة إجابة خلال الصباح الذي تلا اقتحام القوات الأمنية لكنيسة للسريان الكاثوليك ليحرروا رهائن تاركين أعدادا من القتلى والجرحى أكثر ممن حرروهم. ولم تظهر إجابة في بيانات غضب أدلى بها قادة عراقيون يتحملون أنفسهم مسؤولية المشكلات التي تعاني منها الدولة العراقية، ولا من البابا بنديكتوس السادس عشر الذي أدان «أعمال العنف الوحشية والعشوائية»، ولا من مسؤولي الأمن، الذين تتناقض تقاريرهم وأثاروا شكوكا في أنهم ربما فاقموا الوضع من غير قصد، ولا من الناجين، الذين قال أحدهم واسمه سامي إن الرجال المسلحين الذين سيطروا على الكنيسة مساء الأحد كانت لهم مهمة واحدة فقط؛ «لقد جاءوا ليقتلوا ويقتلوا ويقتلوا»، ولا حتى من الشرطة التي وقفت لحراسة الكنيسة ووضعت أسلاكا شائكة حول أبوابها، فيما تحيط حوائطها الأزهار وأشجار البرتقال ونبات يطلق عليه العراقيون «أذن الفيل». ويصف سامي المشهد قائلا: «دماء وأشلاء وعظام. لا يمكن أن تتحمل الرائحة».

وقف بعض الناجين مع أصدقائهم وأفراد عائلاتهم في الشارع وسط، وكان البعض منهم يصرخ. وكان القس ميسر بطرس معهم فقد كان قريبه وسيم صبيح من بين اثنين من الكهنة قتلا. وقال الناجون إن الأب صبيح دُفع إلى الأرض بينما كان يطلب من المسلحين أن يرحموا المصلين. ولكنه قتل بعد ذلك، وترك جسمه به الكثير من طلقات الرصاص. ويقول الأب بطرس: «يجب أن نموت هنا، لا يمكن أن نترك هذه البلاد». وكرر بعض الناجين نفس المشاعر. وقال راضي كليميز، وهو شاب يبلغ من العمر 18 عاما وضع ضمادة على جبهته إثر إصابته بشظايا قنبلة ألقاها مسلحون: «لو لم نكن نحب هذه الدولة، لما بقينا هنا».

ولكن بدا كثيرون متشككين عندما سئلوا هل سيبقون في مكان يعاني من هذا القدر من الاضطراب وبه هذه المخاطر. وقال ستيفن كرومي، الذي جاء إلى بغداد قبل يوم من قرقوش وهي مدينة مسيحية تعاني من مشكلات في الشمال: «لماذا؟ يريد الجميع أن يرحلوا لسبب واحد وهو حماية أنفسنا والمحافظة على سلامة عقولنا».

واستمر الارتباك يوم الاثنين بشأن ما حدث تحديدا خلال الهجوم الذي تبنى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين المسؤولية عنه. وقال مسؤول أميركي، شريطة عدم ذكر اسمه، إن القوات الأمنية اتخذت قرارا باقتحام الكنيسة بعدما حسبوا أن المعتدين بدأوا بالفعل قتل الرهائن. وأضاف أنه لو لم يقوموا بذلك لكانت الحصيلة أكبر. وأضاف: «كانت المعلومات التي لدينا أن المعتدين بدأوا بإعدام الرهائن بصورة ممنهجة». ولكن ذكر مسؤولون من وزارة الداخلية وناجون كلاما آخر. وقال مسؤول إن 23 من الرهائن قتلوا عندما قام اثنين من الرجال بنزع فتيل أحزمة ناسفة بينما كانت قوات الأمن تقتحم الكنيسة. وأكد آخر ذلك، ولكنه قال إن الكثير من الرهائن قتلوا فور سيطرة المسلحين على المبنى. ويعتقد أن عدد المسلحين تراوح ما بين 6 إلى 15 مسلحا.

ويقول جهاد الجابري، وهو مسؤول بارز في وزارة الداخلية: «جاءتنا أوامر باقتحام الكنيسة، ولذا قمنا بذلك، ولكنهم فجروا أنفسهم وقتلوا الكثيرين. ومع ذلك، لقد قتلوا بالفعل عددا من المدنيين قبل الهجوم. إنهم جبناء».

ويقول الكثير من الناجين إن مقدارا كبيرا من الخسائر وقع عندما دخل المسلحون وبدأوا إطلاق النيران بصورة عشوائية على الناس والرموز الكنسية وحتى على النوافذ. وتحدثوا عن وحشية المسلحين، الذين كان بعضهم يتحدث بلهجات من دول عربية أخرى، بمجرد أن رأوا الكنيسة من الداخل.

وتقول بان عبد الله (50 عاما) بعد نجاتها من المذبحة: «لقد بدوا مثل مجانين». وقد أصيبت ابنتها ماريا فريج برصاص في القدم اليمنى عندما دخل المسلحون. وبقيت الابنة في بركة دماء لأكثر من ثلاث ساعات. وقالت ماريا وهي على سرير لها داخل مستشفى ابن النفيس: «كنت داخل الكنيسة، وكان من المفترض أن تسير الأمور على ما يرام». وقبل أن يدخل المسلحون تمكن الراهب رافائيل قوتايمي من أن يقود الكثير من الناجين الآخرين إلى غرفة خلفية، حيث احتموا خلف رفين من الكتب. وتضرع البعض قائلين: «سلام عليك يا مريم»، «ليساعدنا الله الذي في السماء». وعرف المسلحون أنهم في هذا المكان. وبعد أن عجزوا عن اقتحام الغرفة، ألقوا أربع قذائف من خلال نافذة ليقتلوا أربعة ويجرحوا آخرين كثرين، بحسب ما يقوله ناجون.

وكان سامي محظوظا، فقد تمكن من الهرب من الغرفة الخلفية من دون أن يصاب بأي أذى واضح. ولكن يوم الاثنين ذكر أسماء أصدقائه الذين ماتوا يوم أمس: رغدة وجون وريتا والأب وسيم وفادي وجورج ونبيل وأبو سبا. وأضاف: «إنها قائمة طويلة»، بعدها هز رأسه في غضب. وقال: «لماذا قُتل الأب وسيم؟ لا أعرف. ولماذا قتل نبيل؟ لا أعرف». صمت عن الكلام وترقرقت الدموع في عينيه.

* خدمة «نيويورك تايمز»