جدل حول التسمية الإرشادية لمعلم تاريخي في قرطبة: مسجد أم كنيسة؟

أسقف المدينة يرفض الإشارة الإسلامية والسلطات المحلية لا تؤيده

المسجد الذي تم تحويله إلى كنيسة في قرطبة (نيويورك تايمز)
TT

بنى الخلفاء المسلمون مسجد قرطبة الكبير في القرن الثامن، وقد صمم صحن أعمدته والأقواس المطلية بالخطوط الحمراء والبيضاء لنقل إحساس قوي بالاستمرار لحقب طويلة، لكن مع خضوع إسبانيا للسيطرة المسيحية مرة أخرى في القرن الثالث عشر تحول المسجد إلى كاتدرائية.

واليوم تشير اللافتات الإرشادية في أنحاء المدينة الأندلسية التي يغمرها اللون الأبيض إلى هذا الأثر، الذي وضع على قائمة التراث العالمي لليونيسكو، بـ«مسجد قرطبة الكاتدرائي»، لكن هذا المصطلح يشهد جدلا في الوقت الراهن، بعدما تقدم أسقف قرطبة الشهر الماضي بطلب إلى مجلس المدينة يطلب فيه عدم الإشارة إلى الأثر كمسجد حتى لا «يربك» الزائرين.

وحتى ذلك الوقت لم يتجاوز الأمر حدود المعنى، نتيجة لرفض عمدة المدينة تغيير اللافتات الإرشادية. لكن الجدل يتجاوز اللافتات الإرشادية، فهو يمثل الفصل الأخير من التاريخ الثري لأعظم أثر في تاريخ العلاقات الإسلامية - المسيحية في أوروبا والصراع على إرث «الأندلس» عندما أصبح جزء من إسبانيا مكانا للتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في عهد الخلفاء المسلمين.

يتخذ هذا الجدل المزيد من الثقل قبيل زيارة البابا بنديكت السادس عشر إلى إسبانيا في نهاية هذا الأسبوع، وقد وصف البابا إسبانيا بأنها ساحة مهمة في صراعه من أجل دعم العقيدة المسيحية في أوروبا المتجهة نحو المزيد من العلمانية - وضمنيا نحو الإسلام.

بدأ الجدل في قرطبة في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما نشر الأسقف ديمتريو فرديناندز مقال رأي في صحيفة «إيه بي سي» الإسبانية اليومية ذات التوجه اليساري الوسطي، قال فيه «لا غضاضة في القول إن الخلفاء المسلمين بنوا هذا المعبد لله. لكن من غير اللائق الإشارة إليه اليوم باعتباره مسجدا، لأنه لم يكن كذلك لقرون، وإطلاق اسم مسجد عليه يربك الزائرين».

وأضاف مشيرا إلى المكان الذي شيد فيه المسجد الأموي في القرن الثامن فوق كنيسة بنيت في القرن الرابع ويقال إن بها رفات يوحنا المعمدان «كذلك من غير اللائق إطلاق اسم كنيسة سانت جون على مسجد دمشق حاليا، أو أن يصبح مكانا لعبادة المسلمين والمسيحيين في الوقت ذاته».

جذب مسجد أو كاتدرائية قرطبة، الأثر الذي يعد إحدى عجائب العالم المعمارية بما يضمه من صفوف من الأعمدة التي تخلب اللب وتسحر الناظر، 1.1 مليون زائر عام 2009، كان أغلبهم من السياح لا من المصلين، لكن مسؤولي الإبراشية انزعجوا من محاولة بعض المسلمين الصلاة هناك رغم تحول المكان إلى كاتدرائية.

وقال مانويل مونتيلا كاباليرو، الذي يشرف على الزيارات الليلية للأثر الذي توضح إضاءته القوية روعة معماره «في كل مرة يظهر أحد الأصوليين المسلمين في شريط مصور (على التلفزيون) ويدعو إلى استعادة الأندلس، التي كانت تحت حكم المسلمين قديما، مطالبا المسلمين باستخدام الكاتدرائية كمصلى».

التنافس على إرث الأندلس في أوجه الآن، حيث دعا أسامة بن لادن وغيره من المتشددين مرارا وتكرارا إلى عودة الأندلس إلى المسلمين، في حين نظر آخرون إلى الأندلس باعتبارها منطقة مثالية للتعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين واليهود.

وتعد المدينة غنية أيضا بالآثار اليهودية، فالفيلسوف والعالم الموسوعي اليهودي بن ميمون ولد في بيت أبيض متواضع في منطقة الجودرية بقرطبة والتي تعد حاليا منطقة آثار وكانت في السابق مكانا يعيش به سكان يهود قبل طرد فرديناند وإيزابيلا لليهود من شبه جزيرة أيبيريا عام 1492.

ويقال إنه عندما بدأ حكام إسبانيا الكاثوليك، في القرن التالي، تدمير أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين واليهود، افتتن تشارلز الخامس إمبراطور هابسبيرغ بسحر وجمال مسجد قرطبة فأمر بالحفاظ عليه.

وقالت إيزابيل روميرو، المتحدثة باسم جمعية قرطبة الإسلامية «يعد أثر قرطبة درسا في وحدة العالم وفي كيفية تلاقي الثقافات والأديان والتعايش بينها». ومما لا يسعد الإبراشية رغبة الجماعة أن يتم إفساح مكان في الكاتدرائية ليصلي فيه المسلمون. وأضافت روميرو «إن لهذا دلالة رمزية».

ومن التغيرات المعقدة الأخرى، التي تشير إلى المفارقات التاريخية التي تظهر على الساحة في إسبانيا اليوم، تحول روميرو من الكاثوليكية إلى الإسلام كما هو الحال مع 300.000 إسباني آخرين من بين مسلمي إسبانيا البالغ عددهم 2.2 مليون.

والأسبوع الحالي، وجه قاض في قرطبة تهما لثمانية مسلمين أستراليين بتكدير الأمن والسلام بدخولهم الأثر في يوم جمعة من العام الحالي، وبدء الصلاة بصوت مرتفع، والاشتباك مع رجال الأمن والشرطة الذين حاولوا منعهم. وفي هذه الأثناء، تقول جماعة تدعى جمعية مسلمي قرطبة وتمثل 2.500 مسلم في المدينة التي يزيد عدد مسلميها على 300.000 إنها لا تنوي المطالبة بحقوق أعضائها في الصلاة في المسجد - الكاتدرائية.

وقال كامل مخلف، أمين الجمعية، التي يصلي أعضاؤها في مسجد بقرطبة بناه جنود من شمال أفريقيا كانوا يقاتلون لحساب فرانكو في الأربعينات «كلا، كلا. المطالبة بالعبادة المشتركة تعني إذكاء النيران وزيادة التوتر». لكنه أوضح أنه وجماعته يعارضون بشدة اقتراح الأسقف بمحو كلمة «مسجد» من اللافتات الإرشادية. وقال «إنه اتجاه أشعر به في أنحاء إسبانيا وهو ميل نحو محو كل ما يمت لتاريخ الأندلس الإسلامي بصلة».

ويقول المسؤولون المحليون إنهم لا نية لديهم لتغيير اللافتات الإرشادية، حيث قال أندروس أوكانا، عمدة قرطبة المنتمي للحزب اليساري المتحد «إن تصريح الأسقف يثير جدلا لا ضرورة له ولا جدوى منه». وأضاف مشيرا إلى معارضة يمين الوسط «إن الناس لا تدعمه، وكذلك السياسيون. حتى الحزب الشعبي لا يسانده».

وقالت جوان جوزيه خيمينيز جيتيه، المتحدثة الرسمية باسم الإبراشية، إن الأسقف رفض إعطاء مزيد من التفسير لملاحظاته التي تم نشرها. وخلال زيارة مسائية، قال دانييل راميريز القادم من إشبيلية، وهو يقف أسفل أشجار البرتقال وقد وزعت قنوات الري بينها بمهارة «إنها كاتدرائية ويجب أن تسمى كاتدرائية. إنها ليست مسألة أسماء، بل مسألة ثقافة».

لكن صديقه كليستينو غونزاليس من ملقة لم يوافقه الرأي، حيث قال مشيرا إلى العمارة الإسلامية «إنه مسجد». وأضاف «إنني غير ملتزم (دينيا)، ولا أرى أي مشكلة في الجمع بين الاسمين، فالأمر سواء بالنسبة إلي». وقالت كونكي بيلو، وهي واقفة أمام باب منزلها القريب، إن الجدل أكاديمي محض. وأوضحت قائلة «من الطبيعي بالنسبة لنا ولكل من هم في قرطبة توضيح الاتجاهات للسياح. لا نشعر بالإهانة، بل على العكس إن هذا مثال رائع على تاريخ أرضنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»