«ضمير لبنان».. يعالج في الرياض

الحص ترأس 5 حكومات.. وأخلص لمبادئه رافضا توقيع أحكام إعدام

TT

يغادر لبنان اليوم «ضميره» الرئيس الأسبق للحكومة الدكتور سليم الحص في رحلة علاجية إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي وجه بأن ينقل الحص إلى الرياض لمتابعة علاجه.

ويعاني الحص الذي يكمل عامه الـ81 في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، من عدد من المشكلات الصحية بالإضافة إلى مرض قلبي. وقال السفير السعودي في بيروت على عواض عسيري لـ«الشرق الأوسط» إن خادم الحرمين وجه بأن يتم نقل الرئيس الحص إلى مستشفى الرياض التخصصي بطائرة خاصة فور علمه بوضعه الصحي، مشيرا إلى أن الحص سوف يحل ضيفا على خادم الحرمين خلال فترة وجوده في المملكة. وأبلغ عسيري «الشرق الأوسط» أن الحص كان مسرورا جدا عندما أبلغه بالأمر، وأنه أبدى ترحيبه بمبادرة «الملك - الإنسان» وكرر عبارات الثناء والتقدير للملك، ولم يستغرب هذه البادرة من الملك عبد الله.

ويرفض عسيري التطرق إلى مواقف الحص السياسية التي حملت بعد حرب عام 2006 كثيرا من الانتقادات للسياسة السعودية وللقادة العرب بشكل عام، مؤكدا أن لا ارتباط بين هذه المواقف وهذه المبادرة. وكان الحص قد وجه نداء إلى القادة العرب خلال تلك الحرب واصفا إياهم بالـ«جبناء». وقال: «ونحن إذ نطلق عليكم هذا الوصف، إنما نتوخى أن ندرأ عنكم نعوتا أخرى يكيلها آخرون؛ إذ يتهمونكم بدعم العدوان أو التواطؤ معه.. وأنتم، في تخليكم عن لبنان في محنته، شركاء في هذا المشروع المشؤوم».

ولد سليم الحص في 20 ديسمبر (كانون الأول) 1929 في حي زقاق البلاط في بيروت، وكان «آخر العنقود» في عائلة من 5 أولاد. توفي والده وله من العمر سبعة أشهر، تاركا لعائلته مصدرا للرزق هو مبنى من طابقين في محلة زقاق البلاط قوامه شقتان وثلاثة محال تجارية، كلها مؤجرة، فعاشت العائلة في حال من الضيق؛ إذ كان على والدته أن تتحمل من الدخل المحدود جدا نفقات المعيشة والأقساط المدرسية للأطفال الخمسة.

كان الحص يعتزم التخصص في الأدب العربي، لكن والدته وشقيقتيه فاتحوه برغبتهم في تغيير اختصاصه، مبررين ذلك بالقول: «نحن في انتظار الفرج ماديا مع تخرجك من الجامعة، فماذا ستجني من دراسة الأدب العربي؟»، فكان أن اختار خط الاقتصاد وإدارة الأعمال وانتسب إلى دائرة العلوم التجارية في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها عام 1952 بتفوق مستعينا بمنحة دراسية والعمل في الجامعة.

بدأ الحص حياته المهنية محاسبا في شركة «التابلاين»، ثم انتقل إلى غرفة التجارة والصناعة حيث تعرف إلى ليلى فرعون. ونمت بينهما صلة محبة فكان أن تزوجا عام 1957 رغم الاختلاف الديني بينهما، فهو مسلم، وهي بقيت مسيحية إلى ما قبل وفاتها بقليل حيث أعلنت إسلامها رغبة منها في أن تدفن معه «في جدث واحد». وله منها ابنة وحيدة هي وداد التي تتمحور حياته العائلية حولها، والتي قيل خلال الانتخابات النيابية عام 2000 أنه انتقل إلى المذهب الشيعي (على الورق) من أجل ضمان حصولها على كامل الميراث. وقد وزعت آنذاك صور لإخراج قيد عائلي يفيد بهذا، غير أن الحص صحح الوضع في وقت لاحق.

بعد سنة في غرفة التجارة، عرض عليه التدريس في الجامعة الأميركية فقبل، ثم نال منحة من «مؤسسة روكفلر» لاستكمال دراساته العليا، فسافر مع زوجته وطفلته للإقامة في الولايات المتحدة. وبعد عودته من الولايات المتحدة درس مجددا في الجامعة الأميركية، لكن لبضعة أشهر فقط؛ إذ سافر إلى الكويت حيث تولى مهمة المستشار المالي لصندوق التنمية الكويتي. ثم عاد إلى بيروت رئيسا للجنة الرقابة على المصارف، وهناك توطدت علاقته بالرئيس إلياس سركيس، حاكم مصرف لبنان يومذاك، مما مهد لوصوله إلى العمل السياسي مع بداية عهد سركيس رئيسا للجمهورية عام 1976، فكان الحص رئيسا لحكومة تكنوقراط، ثم عاد فاستقال عام 1978، ليفسح للرئيس سركيس مجال الإتيان بحكومة فعاليات كلفه بتشكيلها، ولكن الحص اصطدم سريعا باستحالة قيام مثل هذه الحكومة، فعاد في خطوة غير مسبوقة، عن استقالة الحكومة. وقام بهذه الخطوة مرة ثانية في منتصف الثمانينات خلال عهد الرئيس أمين الجميل. وفي عام 1979 ترأس الحص حكومة سياسيين إلى أن شعر «بعقم استمراره في موقع المسؤولية» فاستقال عام 1980.

ونجا الحص من الموت عند انتخاب بشير الجميل رئيسا؛ إذ هاجم فريق من المسلحين منزل النائب عثمان الدنا، زوج ابنة خالته، وكان الحص داخله مع زوجته وابنته.. وتعرض الحص لمحاولة اغتيال أخرى في اليوم الأول من عيد الأضحى عام 1984، فقتل العسكري الذي كان يقود سيارته، وأصيب هو بحالة اختناق شديد جراء الصدمة والدخان. ورغم إحالة القضية إلى المجلس العدلي، فإنه لم يحدث أي تحقيق جاد في الحادث، «نظرا لضلوع بعض الأشخاص المرموقين في التخطيط للمحاولة» كما كتب الحص لاحقا.

بعد مؤتمري جنيف ولوزان في سويسرا، اتفق على إلغاء اتفاق 17 مايو (أيار)، وقيام حكومة اتحاد وطني برئاسة الرئيس رشيد كرامي، وتولى الحص فيها حقيبتي التربية والعمل. وبعد اغتيال الرئيس كرامي عام 1987، تداعت القيادات الإسلامية إلى لقاء في دار الفتوى، وجرى إجماع على أن يتولى الحص رئاسة الحكومة فورا، فورث عن الرئيس كرامي قطيعته مع الرئيس أمين الجميل، فلم يلتقه، ولم يعقد مجلس الوزراء أي اجتماع حتى نهاية عهد الجميل، الذي انتهى من دون انتخاب خلف له. فكان أن رفض الحص تسليم قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، الذي سماه الجميل رئيسا للحكومة الانتقالية، «لأن الدستور لا ينص على تأليف حكومة عند شُغور سدة رئاسة الجمهورية».وبعد اتفاق الطائف، كلف الرئيس الجديد رينيه معوض الحص تأليف الحكومة الأولى في عهده، لكن معوض اغتيل في عيد الاستقلال، فانتخب الرئيس إلياس الهراوي الذي اعتمد نتائج المشاورات النيابية التي كان أجراها الرئيس معوض، فكلف الحص تأليف الحكومة الأولى في عهده من دون إجراء مشاورات. في عام 1992، رشح نفسه للانتخابات النيابية عن بيروت على رأس لائحة الإنقاذ والتغيير ففازت بالكامل، أما في عام 1996، فقد فاز وعضو واحد من لائحته، إلى أن خسر انتخابات عام 2000 أمام لوائح الرئيس الراحل رفيق الحريري وكان أول رئيس لحكومة يفشل في الفوز في انتخابات نظمتها حكومته.

لقب الحص بـ«ضمير لبنان» نظرا للمكانة والاحترام اللذين يكنهما له الخصوم قبل الأصدقاء، ومعروف عنه تواضعه الشديد ومثاليته الزائدة أحيانا رفض الحص خلال ترؤسه الحكومة توقيع أي من مراسيم الإعدام، بالإضافة إلى أنه نباتي لا يأكل اللحوم.