ساركوزي يشكل حكومة جديدة يغلب عليها اليمين تحسبا لانتخابات الرئاسة

التجديد لفيون جعله «الأقوى» وأليو ماري تخلف كوشنير في الخارجية.. وألان جوبيه عاد للدفاع

ألان جوبيه يصافح هيرفيه موران بمناسبة تسلم مهام حقيبة الدفاع منه في باريس، أمس (أ.ب)
TT

وضع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2012 محط أنظاره مع تشكيل الحكومة الجديدة التي تسلمت مهامها أمس، برئاسة فرنسوا فيون. والمفارقة الأولى في حكومة فيون الجديدة (الثالثة منذ بداية عهد الرئيس ساركوزي) أن الخاسر الأول فيها قد يكون ساركوزي نفسه. ذلك أن الرئيس الفرنسي يجد نفسه «حبيس» فيون الذي سيكون أول رئيس حكومة (في غير زمن التعايش بين أكثرية رئاسية مختلفة عن الأكثرية النيابية) يفرض نفسه في قصر ماتينيون (مقر رئاسة الحكومة) طيلة عهد رئاسي بأكمله.

ساركوزي أعلن قبل خمسة أشهر أنه يريد تغيير الحكومة لإعطاء عهده انطلاقة جديدة، لكن النتيجة مختلفة كثيرا. إذ إن شعبية فيون التي تفوق شعبية ساركوزي، والدعم الذي لقيه من أركان اليمين، والرفض الذي واجه وزير البيئة السابق الذي كان يمني النفس منذ شهور بالحلول محل فيون، كل ذلك فرض على الرئيس الفرنسي أن يسلم مفاتيح الحكومة مجددا لرئيسها السابق، الذي يجد نفسه في موقع قوي في مواجهة ساركوزي، لا.. بل أقوى منه.

خلاصة القول إن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر الرئاسي. لذا يتعين على الرئيس ساركوزي، في الأشهر الـ17 التي تفصل فرنسا عن الانتخابات الرئاسية في ربيع عام 2012 مع رئيس حكومة «غير قابل للصرف»، بينما خطته الأولى كانت تهدف إلى تغيير رئيس حكومته من أجل «انطلاقة» جديدة تقوده مجددا إلى قصر الإليزيه في الانتخابات المقبلة. والمفارقة الثانية في الحكومة الجديدة عودة الشيراكيين إليها بقوة، بينما بنى ساركوزي عهده بمفهوم «القطيعة» مع عهدي الرئيس السابق في السياسة الداخلية والخارجية. وأفضل ممثلين للشيراكية السياسية هما وزير الدفاع، ألان جوبيه، وميشيل أليو ماري، التي تركت وزارة العدل إلى وزارة الخارجية. جوبيه وأليو ماري شغل كلاهما منصب رئيس الحزب الديغولي. الأول كان أقرب المقربين لشيراك الذي بدأ معه مسيرته السياسية في بلدية باريس في السبعينات ليصبح لاحقا أول رئيس حكومة لعهد شيراك في عام 1995، وكان شيراك يحضر جوبيه ليكون «خليفته» في قصر الإليزيه. غير أن الفضائح المالية التي أثيرت بوجهه زمن عمله في بلدية باريس أفضت إلى محاكمته، وإلى تجريده من حقوقه المدنية لفترة «انعزل» خلالها في كندا ليعود إلى احتلال موقعه عمدة لمدينة بوردو، وليدخل وزيرا للبيئة في أول حكومة لفيون في عام 2007. لكنه لم يبق فيها سوى أسابيع؛ إذ هُزم في الانتخابات التشريعية التي حصلت مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية، مما اضطره إلى الاستقالة. ومن منافس لساركوزي على الرئاسة، تراجع جوبيه إلى «قطب» سياسي محترم الرأي. لكنه لم يتردد في القول قبل أشهر إنه جاهز مجددا لخوض المنافسة الرئاسية في حال تعذر على ساركوزي التنافس. وفي التركيبة الجديدة، يحظى جوبيه بصفة «وزير دولة»، وهو بالتالي الشخصية الثانية في الحكومة بعد فيون، والثالثة في السلطة التنفيذية، تليه مباشرة ميشيل أليو ماري، وزيرة الدولة ووزيرة الخارجية والشؤون الأوروبية والتعاون الدولي.

وبوصولها إلى الـ«كي دورسيه»، تحقق أليو ماري «فتحا» جديدا، يضاف إلى فتوحاتها السابقة؛ فقد كانت أول امرأة تصل إلى قيادة الحزب الديغولي أو أي حزب سياسي فرنسي كبير، كما كانت أول امرأة يُعهد إليها بوزارة الدفاع. وتنقلت منذ ثماني سنوات في أرفع المناصب الوزارية (الدفاع، الداخلية، العدل، والآن الخارجية). وترث أليو ماري التي تعرف العالم العربي جيدا من مغربه إلى مشرقه، الخارجية من الوزير السابق برنار كوشنير، الذي يعد أحد أبرز الخارجين من الحكومة، إلى جانب وزير الدفاع هيرفيه موران؛ الأول «يدفع» ثمن انتقاداته المبطنة لساركوزي في مسألة معالجة موضوع الغجر والسياسية الأمنية المشددة التي فرضها الرئيس منذ أوائل الشهر الماضي، وأيضا ثمن «عزلته» الدبلوماسية، حيث الملفات السياسية الخارجية الأساسية كانت تعالج في قصر الإليزيه، مثل الملفات الأفريقية والأطلسية ومواضيع حساسة أخرى، مثل العلاقة مع سورية وليبيا وعدد من الدول الخليجية.

أما موران فقد سقط ضحية طموحه (الرئاسي). موران يرأس «حزب الوسط». وفي الأشهر الأخيرة، وبعد الضعف الذي مني به ساركوزي، لم يتردد موران في القول إنه يريد أن يحمل «راية» تيار الوسط في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما لم يهضمه ساركوزي، فأبقاه خارج الحكومة، وسارع موران إلى ضم صوته إلى الأصوات التي انتقدت الحكومة الجديدة؛ فوصفها بأنها «حكومة الحزب الحاكم»، إذ إنها أبقت شركاء الحزب المذكور في الخارج، بينما قاعدتها السياسية ضمرت، بخروج وزراء الانفتاح، مثل كوشنير الذي جاء إلى الحكم من الحزب الاشتراكي ووزراء الوسط، مثل موران، أو ممثلي التعددية الاجتماعية مثل وزيرة الرياضة السوداء، راما ياد، أو فاضلة عمارة، سكرتيرة الدولة لشؤون المدينة.

أما الخاسر الكبير في التركيبة الجديدة فهو جان لوي بورلو، وزير البيئة والطاقة والنقل في الوزارة السابقة الذي وعده ساركوزي بأن يكل إليه رئاسة الحكومة، وطلب منه أن «يتهيأ» لوراثة فيون. غير أن رفض نواب اليمين لرئيس حكومة يأتي من الوسط، وإدارته السيئة للإضرابات في قطاع النقل قضت على حظوظه على الرغم من أنه بدأ بتشكيل فريقه وتوزيع المقاعد الوزارية. ولقد عرض عليه ساركوزي لاحقا وزارة الخارجية أو أي وزارة أخرى. غير أنه رفض مفضلا الاحتفاظ بـ«حرية الكلام والتصرف» خارج الحكومة، مما جعل كثيرين يصفون الحكومة الحالية بـ«اليمينية الكلاسيكية»، بينما كان بورلو يمثل التيار «الاجتماعي» داخلها، وكان يراد له أن يشكل جسر العبور لساركوزي لاستعادة الطبقات الشعبية التي ابتعدت عنه بسبب سياسته «الإصلاحية» التي نُظر إليها على أنها «غير عادلة، وتخدم مصالح الطبقات الثرية»، ولا يستبعد أن يدفع إبعاد موران وبورلو إلى قيام حركة واسعة تضم كل مكونات الوسط، وتقدم مرشحا ينافس ساركوزي في عام 2012. وفي سياق مواز، يبدو ضعف ساركوزي في قبوله تسليم الحزب إلى رئيس كتلة نواب اليمين في البرلمان، جان فرنسوا كوبيه، الذي لا يخفي طموحاته الرئاسية، كما أنه أحد «أوفياء» الرئيس شيراك. وقال كوبيه أمس في لقاء مع مجموعة من الصحافيين إن الغرض اليوم هو أن تدفع الحكومة والنواب والحزب في الاتجاه نفسه، «من أجل توفير ظروف الفوز» في عام 2012. وبالفعل، فإن الحكومة الجديدة تبدو مسخرة لهدف واحد: استعادة اليمين وحشده تحسبا لهذا الاستحقاق الكبير، مما يفسر إعطاء بعض باروناته مناصب وزارية، بمن فيهم الأكثر تشددا، مثل الناطق السابق باسم الحزب الحاكم، فردريك لوفيفر، الذي عُين وزير دولة لشؤون السياحة. وألغيت وزارة الهجرة والهوية الوطنية، التي كان يشغلها الاشتراكي السابق أريك بيسون، وأعيد إلحاقها بوزارة الداخلية التي احتفظ بها بريس هورتفو، صديق الرئيس القديم.

هكذا ينظم ساركوزي أموره ويتحضر لمهماته المقبلة رئيسا لمجموعة العشرين الاقتصادية، ورئيسا لمجموعة الثماني، فضلا عن رئاسة الاتحاد من أجل المتوسط. وفي توقه استخدام مشاغله الجديدة لاستعادة شعبيته والفوز بولاية ثانية، باستطاعة ساركوزي أن يعول على رئيس حكومة مجرب ووزراء أقوياء لهم خبرة ودراية واسعتان، مثل الوزيرة كريستين لاغارد التي احتفظت بالاقتصاد، أو كزافيه برتراند الذي عاد إلى وزارة العمل بعد أن ترك أمانة عام الحزب الحاكم.