«والدي فلان».. رمز لسوء استغلال السلطة في الصين

الرقابة الإعلامية تفشل في حجب قضية قتل تورط فيه ابن مسؤول نافذ في البلاد

والد تشين تشياوفنغ يحمل صورتها بعد أن قتلها رجل مخمور بسيارته (أ.ب)
TT

في إحدى الليالي أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانت طالبة جامعية تدعى تشين تشياوفنغ تمارس التزلج على الجليد مع صديقة لها على أرض جامعة هيبي في وسط الصين. كانتا تسيران بالزلاجات أمام متجر بقالة داخل الحرم الجامعي عندما ظهرت سيارة سيدان «فولكس فاغن» مسرعة من شارع ضيق واصطدمت بهما من الأمام. ونتيجة التصادم، طار جسد تشين في الهواء بعيدا، بينما انكسرت ساق المرأة الأخرى. وحاول سائق السيارة، 22 عاما، الذي كان مخمورا، الفرار، لكن أفراد الحرس تصدوا له، لكنه لم يرتدع، وصاح فيهم محذرا: «إن والدي لي غانغ».

وقال أحد شهود العيان في تصريح له هذا الأسبوع، وهو طالب اكتفى بالإشارة لنفسه باسم دوان: «كانت الفتاتان بلا حراك، وكانت هناك بركة صغيرة من الدماء». في اليوم التالي، توفيت تشين.

كانت تشين تشياوفنغ فتاة ريفية فقيرة. أما الرجل المتهم بقتلها فهو لي كيمينغ، نجل لي غانغ، نائب رئيس الشرطة بمقاطعة بيشي في باودنغ. وتحولت وفاتها إلى قصة درامية اجتماعية مثيرة تدور حول فتاة من العامة تتعرض لظلم شخص معتدٍ من الطبقة المتميزة يحاول الهرب من العقاب، الأمر الذي دق أجراس الإنذار داخل مكاتب أجهزة الرقابة التابعة لـ«الحزب الشيوعي». في الواقع، سارع مسؤولو الحزب إلى تعقب أنباء الحادث لضمان عدم اجتذابها اهتماما واسعا.

المثير أن النقيض تماما هو الذي حدث، فبعد شهر على الحادث، أصبح الكثير من أرجاء الصين على علم بالحادثة، وتحولت عبارة «إن والدي لي غانغ» إلى نكتة مريرة وعبارة ترددها الألسن لتعبر عن محاولة للتخلص من أي مسؤولية مع التمتع بحصانة كاملة. وحتى المحاولات الحكومية الدؤوب للسيطرة على انتشار القصة أصبحت مثار سخرية بين الأجيال الشابة الأكثر معرفة.

وقال أحد الطلاب بجامعة هيبي، اكتفى بذكر اسم الأسرة، وانغ، خلال مقابلة أجريت معه الأسبوع الماضي: «لم يذكر سوى القليل عن الحادث في قناة الجامعة الإخبارية بادئ الأمر، لكن بعد ذلك سادت حالة من الصمت التام حول الأمر. نشعر بخيبة أمل حقيقية إزاء توقف الصحف عن تغطية أنباء مثل هذا الحادث المهم».

في الكثير من جوانبها، تمثل قضية لي غانغ، حسبما باتت تعرف، كيف تتعرض الآلة الدعائية الصينية - القادرة على تشويه أو قتل أي أنباء في عصر الصحافة المطبوعة والتلفزيون - للإعاقة عن العمل أحيانا في عصر الإنترنت، خاصة عندما تحاول السيطرة على الأحاديث القوية الدائرة حول إساءة استغلال السلطة.

وقال ديفيد باندورسكي، المحلل لدى «تشاينا ميديا بروجكت» التابع لجامعة هونغ كونغ: «نعاين باستمرار صدور توجيهات بخصوص أسلوب التغطية الصحافية، لكنها لا تعني بالضرورة عدم توافر تغطية مطلقا؛ فهي ليس بهذا القدر من الفعالية. ونحن ندرك حجم افتقاد الرقابة للشعبية بما يدفعهم للإبقاء على التوجيهات قيد الكتمان». واستطرد قائلا: «تفتقر الرقابة إلى التأييد العام على نحو متزايد داخل الصين».

وبدأت إحدى المدونات، التي تطلق على نفسها من باب السخرية «وزارة الحقيقة»، في كشف الغموض المحيط بالرقابة، ونشر توجيهات حكومية سرية جرى تسريبها على يد نشطاء معنيين بحرية التعبير. وطبقا لمصادر هذه المدونة، أصدرت وزارة الدعاية المركزية توجيها في 28 أكتوبر الماضي، أي بعد 10 أيام من الحادثة، ينص على ضرورة «ضمان عدم إثارة مزيد من الجلبة المبالغ فيها بشأن الاضطراب المروري الذي وقع داخل جامعة هيبي».

وخلال اليوم ذاته، فرض مسؤولو الرقابة حظرا على تغطية أنباء 6 حوادث أخرى، بينها وفاة فتاة كانت محتجزة داخل قسم شرطة. ومن بين الحوادث الأخرى تحقيق مع مسؤول أمني بإقليم هونان، وانحرافات أخلاقية لنائب عمدة ماومنغ، وإهمال الأجنحة المغلقة داخل «شنغهاي وورلد إكسبو»، وتزايد الرقابة على غرف الدردشة على الإنترنت.

إلا أن قضية لي غانغ كان من العسير كبتها، الأمر الذي يرجع إلى أسباب عدة، منها أنها تجسد شكوى قائمة منذ أمد بعيد: الاعتقاد أن القوي بإمكانه الاستخفاف بالقواعد التي يجبر المواطنون العاديون على الإذعان لها. وتركز هذه الشكوى على ما يطلق عليه الصينيون من باب السخرية «غوان إر داي» و«فو إر داي» - أي «الجيل الثاني» - وهم أبناء المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى وفائقي الثراء.

وإدراكا منها لحساسية القضية، حاولت الحكومة صياغة رد الفعل العام عبر العديد من السبل الأخرى بخلاف مجرد تقييد التغطية الصحافية. بعدما بدأت التعليقات عبر الإنترنت تموج بالغضب، أذاعت شبكة التلفزيون الصيني الوطني «سي سي تي في»، في 22 أكتوبر، مقابلة مع لي غانغ ونجله قدما خلالها اعتذارات كثيرة عن الحادث. وفي 24 أكتوبر، أعلنت وسائل الإعلام أن لي كيمينغ، الذي احتجزته الشرطة في اليوم التالي للحادث، ألقي القبض عليه.

وتمنع القواعد الخاصة بالشرطة عقد مقابلات مع المحتجزين. وقالت متحدثة باسم شرطة باودنغ، أشارت إلى نفسها باسم زهو، عبر رسالة بالبريد الإلكتروني: إن الشبكة التلفزيونية أجرت المقابلة لحصولها على تصريح بذلك من مكتب الدعاية المحلي التابع للحزب. إلا أن أقارب تشين لم يحظوا بالأمر ذاته. وفي مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أذاعت «فنغهوانغ ستالايت تلفيجن»، وهي قناة إخبارية مقرها هونغ كونغ ومتاحة لبعض المقيمين في الأجزاء الرئيسية من الصين، مقابلة مع شقيق تشين، تشين لين، بدا فيها غاضبا. وفي 4 نوفمبر، منعت وزارة الدعاية المركزية نشر مزيد من الأنباء حول المقابلة.

والملاحظ أن مسؤولي الرقابة حاولوا بالفعل السيطرة على رسالة بدأت بالانتشار على نطاق واسع.

وفي 20 أكتوبر، أعلنت مدونة في شمال الصين تطلق على نفسها «بيغي فيت بيتا» عن مسابقة لدمج عبارة «إن والدي لي غانغ» في شعر كلاسيكي صيني. وأجابها 6 آلاف شخص، عدل أحدهم قصيدة مشهورة لماو بحيث أصبحت «إنهم جميعا في الماضي، يتحدثون عن الأبطال، إن والدي لي غانغ».

وظهرت في أرجاء أخرى مختلفة من الإنترنت مسابقات باستخدام شعارات إعلانية وكلمات أغان. وفي مدينة تشونغكينغ، جنوب البلاد، استخدم أحد الفنانين العبارة كأساس لعمل فني كامل. وفي 9 نوفمبر، توقفت فجأة الضجة على الإنترنت حول العبارة، لكن البعض استمر في مراوغة مراقبي الشبكة، مثل الفنان والناشط أي ويوي، من بكين، الذي نشر على موقعه على الشبكة منذ مطلع نوفمبر مقابلة مع والد تشين وشقيقه، رفضا خلالها طلبات بالتفاوض للتوصل إلى تسوية. وقال تشين لين: «في المجتمع يقولون إن الجميع متساوون، لكن بكل جانب هناك غياب للمساواة». وأضاف: «كيف يمكن للمرء العيش في هذه البلاد وهذا المجتمع من دون أن يساوره القلق؟».

وقد تلقى زهانغ كاي، محامي تشين، الخميس الماضي، اتصالا هاتفيا من عملائه. وقال: «شكروني على الجهود التي بذلتها في القضية، لكن أخبروني أنهم سووا الخلاف مع أسرة لي غانغ. وبعد نصف ساعة، حضروا لمكتبي حاملين عقد إنهاء للقضية. وبعد ذلك، اختفوا».

وأوضح زهانغ أن الكثير من القضايا التي يكلف بها تدور حول خصومات بين مواطنين عاديين وأفراد أصحاب نفوذ انتهت بالصورة ذاتها. وعلق قائلا: «في إطار المجتمع الصيني الراهن، يولي الناس اهتماما بالنفوذ أكبر من الحرية الفردية».

إذا كانت التسوية ترمي إلى إيقاف الضجة حول قضية لي غانغ، فيبدو أنها حققت العكس تماما. ففي باودنغ، شكك طلاب من جامعة هيبي، أجريت معهم مقابلات عشوائية، بأسلوب التعامل مع قضية تشين. وقال أحدهم، أشار إلى نفسه بلقب أسرته فقط، زهانغ: «لو كنت في هذا الموقف، لكنت سأتابع القضية حتى نهايتها. كنت سأمضي عبر العملية القانونية وأسعى إلى نيل العدالة». وأبدى طالب آخر، يدعى زهاو، قسوة شديدة، بقوله: «هذا هو نمط المجتمع الذي نعيش به. الذين يملكون النفوذ بمقدورهم حجب السماء ذاتها. نريد تسوية هذه القضية تبعا لما يقتضيه القانون».

* خدمة «نيويورك تايمز»