المسيحيون يفرون من العنف وسط مخاوف من اختفائهم من العراق

كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد أصبحت مهجورة منذ الهجوم الأخير

TT

في بغداد، أصبحت كنيسة «سيدة النجاة»، التي كانت ذات يوم تعج بالمصلين، مكانا مهجورا. الشهر الماضي، وعلى امتداد أكثر من 4 ساعات من الحصار، شق مسلحون طريقهم إلى داخل الكنيسة وأطلقوا النار ليقتلوا 58 شخصا، على الأقل، ليبعثوا بذلك رسالة مفادها أن المسيحيين، بجانب كثيرين غيرهم، ليسوا بمأمن في العراق.

وكُتبت أسماء القتلى على منتصف أرضية الكنيسة وأحاطتها الشموع، بينما تحطم زجاج النوافذ من جراء التفجيرات والأعيرة النارية وامتلأت أرضية الكنيسة بحفر خلفها الرصاص لتذكر بالانتحاريين الأربعة الذين شنوا الهجوم الدموي، بجانب مسلحين آخرين.

وخلال 50 دقيقة تقريبا، ألقى القس مخلص شاشا خطبة خلال القداس الذي أقيم على أرواح القتلى الأسبوع الماضي، قال فيها: «نعم، ربما ذرفنا بعض الدموع. ربما يعتمل الحزن بداخلنا، لكننا لن نستسلم». وكان بعض من حضروا القداس من غير المسيحيين، من جيران الضحايا، قد حرصوا على حضور القداس لتقديم تعازيهم.

منذ أسابيع قليلة مضت، قبل مذبحة 31 أكتوبر (تشرين الأول)، كان أكثر من 350 شخصا يحضرون بانتظام قداس الأحد في الكنيسة. لكن الآن فر الكثير من أبناء هذه الطائفة السريانية الكاثوليكية القديمة من البلاد، بينما يخشى آخرون حضور قداس بمكان يعتقدون أنه مستهدف من قبل جماعات متطرفة وميليشيات عصفت بالبلاد خلال حرب استمرت لأكثر من 7 سنوات.

وقال شاشا: «يخبرني البعض بأن الكتاب المقدس يقول إنه إذا لم ترغبنا الأرض، فعلينا الرحيل. لكنني أقول لهم عليكم الصمود داخل هذا البلد. إذا رحلنا جميعا عن البلاد، من سيتذكر هذه المجزرة؟ من سيشهد إحياء هذه الكنيسة من جديد؟».

منذ الهجوم، تعرضت منازل المسيحيين عبر أرجاء العاصمة لهجمات بقنابل، وقتل اثنان من المسيحيين في الموصل وفرت أسر مسيحية من البلاد أو باتجاه شمال العراق الأكثر أمنا، حيث تسيطر قوات الأمن الكردية على المنطقة. ولم يكن المسيحيون الضحايا الوحيدين لأعمال العنف خلال الشهور الماضية، لكن تبقى الهجمات التي تستهدفهم غير متناسبة مع حجمهم كأقلية.

وبإمكان الموجة الجديدة من النزوح تدمير المجتمع المسيحي الآخذ في الانكماش بالفعل داخل العراق. ويساور البعض القلق من أنه حال حدوث تغيير في الوضع الراهن، سيختفي المسيحيون تماما من العراق قريبا. وقد دعت قيادات سياسية ودينية من مختلف الفئات العراقية والطائفية المسيحيين للبقاء في العراق، لكن الكثيرين من المسيحيين قالوا إنه بعد سنوات من العنف والدمار، بات يتحتم عليهم الرحيل. يُذكر أن أكثر من 46 كنيسة وديرا تعرضت لتفجيرات منذ بدء حرب العراق. وفي الوقت الذي تعرض كثير من المساجد والأضرحة الإسلامية أيضا لتفجيرات، أعرب مسيحيون مؤخرا عن اعتقادهم أن الحكومة عجزت عن إظهار قدرتها على الحفاظ على سلامتهم.

وطبقا لتقرير صدر عام 2010 عن «المفوضية الأميركية للحرية الدينية الدولية»، فإن «نصف الطائفة المسيحية العراقية فقط التي كانت موجودة بالبلاد قبل عام 2003 لا تزال داخل العراق، مع تحذير قيادات مسيحية من أن هذا الفرار ربما يضع نهاية المسيحية داخل العراق». ويقدر عدد المسيحيين في العراق بـ500.000 نسمة، لكن الأقليات بما فيها المسيحيون تشكل «نسبة مرتفعة على نحو غير متناسب من اللاجئين العراقيين المسجلين»، حسبما ذكر التقرير. من دون وجود قبائل أو ميليشيات تحميهم، تعتبر طوائف الأقلية هنا من بين الأكثر عرضة للخطر. وقد فشلت قوات الأمن العراقية الناشئة التي تعاني الفساد - وفي بعض الحالات اختراق أفراد من ميليشيات وجماعات متطرفة - في حماية الأقليات والكثير من العراقيين الآخرين.

وقد أوصت المفوضية بأن تدرج وزارة الخارجية العراق في قائمة الدول «محط الاهتمام الخاص» فيما يخص الحرية الدينية الدولية هذا العام. من جهته، قال يونادم كنا، النائب الآشوري في البرلمان العراقي: إن الرحيل ليس الحل. وأكد أن الكثير من المسيحيين سيبقون بالبلاد، مشيرا إلى أن تفجيرات استهدفت مسلمين بعد أيام من هجوم كنيسة «سيدة النجاة»، ما أسفر عن سقوط أعداد أكبر من الضحايا. واشتكى من حث دول أوروبية العراقيين المسيحيين على الرحيل. وعلى الرغم من أعمال العنف، أكد القس شاشا أن الكنيسة لن تغلق أبوابها قط. يذكر أنه عندما تعرضت منازل مسيحية الأسبوع الماضي لهجمات تفجيرية، جاءت 15 أسرة للمبيت داخل الكنيسة طلبا للأمان قبل أن تهرب إلى شمال البلاد.

من ناحية أخرى، توقف الكثير من المسيحيين عن حضور الشعائر الدينية بالكنائس. وعمدت المسيحيات داخل المناطق الأكثر محافظة في بغداد إلى ارتداء غطاء الشعر الإسلامي. وقال شاشا: «الخوف يعتمل في نفوس المسيحيين في كل مكان، لكن هذا لن يوهن إيماني أو يمنعني عن السعي وراء هدفي. لقد انتشرت المسيحية على أيدي 12 فردا. ونحن لا نحتاج سوى لـ12 فردا».

الأسبوع الماضي، انفجرت قنبلة في منزل حسام خيري يوسف، مما حطم الزجاج وحول إحدى غرف هذا المنزل المسيحي إلى كومة من الأطلال. وهرع الجيران المسلمون للمساعدة، ثم أزالوا الحطام مع أفراد أسرة يوسف وساعدوهم بأعمال إعادة البناء. وأكد يوسف أنه لن يرحل عن منزله.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»