عمدة مقديشو يكافح لإعادة إعمار مدينة مدمرة.. مستلهما ذكريات الطفولة والشباب

نور ترك منزله وأسرته في لندن ليدير واحدة من أخطر العواصم على ظهر الأرض

مقديشو مدينة مدمرة تحتاج إلى إعمار (أ.ب)
TT

في الليلة التي سبقت مغادرة محمد أحمد نور لمنزله بالعاصمة البريطانية لندن، جمع نور أفراد أسرته. وكان يستعد لترك حياة مريحة وأبنائه الستة وسبعة أحفاد بالإضافة إلى زوجته، وهم الأشخاص الذين جعلوا منزله يبدو وكأنه «روضة من الجنة»، حسب وصفه. وكان نور يهم بترك كل هذا لكي يدير واحدة من أخطر العواصم على ظهر الأرض. وفي تلك الليلة، منذ أكثر من أربعة أشهر، أخبر نور أسرته بأنه قد لا يعود أبدا. ويتذكر نور أنه قال لأفراد أسرته: «قد أتعرض للقتل في أي وقت. ويجب أن تقبلوا هذا».

ويشغل نور منصب عمدة مقديشو. ويرى البعض أنه شخص مثالي يكافح لإعادة إعمار مدينة مدمرة، وأنه مسلح فقط بخطة محدودة الإمكانات بالإضافة إلى طموحه وذكرياته عن المكان الجميل الذي كان موجودا في يوم من الأيام. ويرى أشخاص آخرون بأنه يمثل مصدر إلهام، وبشرى للمستقبل الذي كان من الممكن أن تصل إليه الصومال، النموذج المثالي للشكل الذي يمكن أن تصبح عليه هذه الدولة الفاشلة، إذا كان هناك المزيد من الرجال على شاكلته. وفي صبيحة أحد الأيام الأخيرة، دخل نور مدرسة ابتدائية آيلة للسقوط محاطا بالعشرات من الحراس ذوي الوجوه العابسة. ومثل معظم الأيام، كان نور في مهمة رسمية. ونظر نور بسرعة إلى مخطط لمبنى سوف يتم تمويل عملية بنائه بواسطة الاعتمادات المالية لمنظمة الأمم المتحدة. وبعد ذلك، وقف الرجل النحيف الصريح البالغ من العمر 55 عاما بلحيته الفضية ووجهه المستدير وعينيه البنيتين الحادتين أمام حشد كبير من الأطفال، وارتفع صوته قائلا: «إذا أخبركم أي شخص أن تقتلوا، فلا تقبلوا ذلك. نحن جميعا مسلمون»، قالها باقتناع كبير. وأضاف: «سوف ترثون هذه الدولة. وينتظركم مستقبل جيد».

ولم يسمع نور أصوات هتافات تشجيع أو تصفيق حاد؛ ولكن كانت هناك نظرات فارغة وابتسامات خجولة وشعور بأن الكلمات لها أهمية محدودة في مدينة مقديشو التي تمزقها الحرب. نشأ نور في عاصمة كانت ذات يوم من بين أكثر الأماكن هدوءا في قارة أفريقيا. ولعب كرة السلة في مدرسة داخلية وفي الكلية. وكانت أحب اللحظات إلى نفسه عندما لعب كرة السلة في مباراة استعراضية عام 1972 مع لاعب الكرة السلة الأميركي العملاق كريم عبد الجبار، الذي يبلغ طوله 7 أقدام وبوصتين والذي زار مقديشو مع زملائه في فريق ميلووكي باكس لكرة السلة. ويتذكر نور - الذي يبلغ طوله خمسة أقدام و10 بوصات - هذه المباراة بقوله: «لقد كان عبد الجبار طويلا جدا».

وحلم نور بالانتقال للعيش في الولايات المتحدة، حتى إنه كان يمتلك خريطة للولايات المتحدة معلقة على حائط غرفة نومه، ولكنه لم يحقق ذلك مطلقا.

وبدلا من ذلك، رحل نور إلى المملكة العربية السعودية في عام 1977 بعدما زاد قلقه إزاء السياسات الاشتراكية للديكتاتور السابق محمد سياد بري. وفي بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، سعى نور وأسرته للحصول على حق اللجوء السياسي إلى إنجلترا، واستقر في لندن. ومثل العديد من الصوماليين المنفيين، بقي نور مرتبطا بوطنه. ورأس مجموعة خيرية يمولها الاتحاد الأوروبي قدمت استشارات تجارية للمهاجرين الصوماليين. وراقب أيضا الأحداث التي كانت تجري في مقديشو من خلال المواقع الإلكترونية الإخبارية الصومالية. وعندما دخلت القوات الإثيوبية إلى الصومال في نهاية عام 2006 من أجل قمع ثورة إسلامية، أسس نور جماعة عارضت الغزو. وقد جعله هذا يدخل في تواصل مع القيادات السياسية في الصومال؛ وقام برحلات استكشافية إلى مقديشو لرؤية ما إذا كان يمكنه لعب دور في الحكومة الانتقالية الجديدة التي تدعمها الولايات المتحدة. وشعر نور بمسؤولية تجاه رد الدين إلى وطنه. وقال نور: «أردت أن أحدث تغييرا».

وخلال فصل الصيف الماضي، اختار الرئيس الصومالي، شيخ شريف أحمد، نور لكي يصبح عمدة لمدينة مقديشو. وفي البداية، كان نور مترددا إزاء ما يمكن أن يفعله لكي يغير مسار الأمور في مقديشو. وكانت هناك مهلة أيضا: وهي أن فترة تفويض الحكومة تنتهي خلال شهر أغسطس (آب) المقبل. وقبل نور المهمة فقط بعد أن حصل على ضمانة بأنه سوف يحصل على 15% من كل الرسوم التي يحصلها ميناء مقديشو لاستخدامها في إدارة العاصمة.

وكل ما حصل عليه نور، حتى الآن، هو ميزانية قيمتها 50,000 دولار أميركي لعاصمة لم يتم جمع القمامة منها خلال 20 عاما، وحيث لا تتوفر الكهرباء إلا إذا كان الفرد يمتلك مولدا كهربائيا أو إذا اشترى واحدا من شخص يمتلك مولدات كهربائية. وقال نور: «لم تفِ الحكومة بوعدها».

ولكن هذا الأمر لم يوقفه، فقد أقنع مشغل مولد كهربائي بإضاءة شوارع قليلة أثناء الليل عبر تهديده بجلب مولدين كبيرين وإبعاده عن أداء هذا القطاع. واستأجر نور 10 شاحنات لجمع القمامة؛ وهو ما حقق تقدما محدودا في ضاحية واحدة، واستبدل المسؤولين الذين تم اختيارهم بسبب الروابط القبلية وعين أفرادا يمتلكون الخبرة. وفي بعض الضواحي، استحدث نور وحدات شرطة من المجتمع لمنع الجواسيس من حركة الشباب، وهي ميليشيا ترتبط بتنظيم القاعدة وتسعى لفرض سيطرتها على البلاد، من اختراق المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الصومالية. وصرح نور، الذي كان يشع بالتفاؤل: «لقد تحسن الوضع الأمني». ويعبر أنصار نور عن إعجابهم بإنجازاته: ويقول عبد الرحمن عمر عثمان، وزير الإعلام الصومالي: «إنه نشيط، ويوجد في كل مكان، ويعمل بجد. إنه الشخص المناسب لإدارة العاصمة».

ولكن ثمة أشخاص آخرون يقولون إن نور يحتاج إلى جرعة من الواقعية. وقال ظاهر محمد غيلي، وزير الإعلام الصومالي السابق إن التركيز على جمع القمامة أو إنارة الشوارع في إحدى أكثر مناطق الحرب خطورة بالعالم يجب ألا يحتل الأولوية، وأضاف بأن الأفكار التي نمت في الخارج لا يمكنها أن تعمل بشكل جيد هنا. وقال غيلي: «كان الناس يتوقعون أن يتحسن الأمن عندما جاء نور، ولكن هذا لم يحدث».

ويعترف نور بأن هناك قصورا فيقول: «ليس لدينا الأدوات ولا الشاحنات. ولا نمتلك المعدات التي يجب أن تكون موجودة لدى أي مدينة». ولكنه أصر على أنه كلما طالت فترة حرمان العاصمة - التي كانت تؤوي في يوم من الأيام 2.5 مليون شخص، رغم فرار الآلاف منها بفعل الحرب - من خدمات الكهرباء وجمع القمامة والخدمات الأساسية الأخرى، فسوف تصبح الحكومة أكثر ضعفا وسوف تصبح حركة الشباب أكثر قوة؛ حسب قوله. وقال نور: «إنهم يهزموننا نفسيا». وبعد مغادرته للمدرسة، سارت قافلة نور مسرعة في شوارع العاصمة قاطعة طرقا مليئة بتلال من القمامة، وعبرت تقاطعا كان قناصة حركة «الشباب» يطلقون النار منه بشكل روتيني على الشاحنات المارة. وفي تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، وصل نور إلى ضاحية المدينة، إحدى الضواحي القليلة التي تسيطر عليها الحكومة الصومالية، من أجل حضور اجتماع حاشد لتأييد رئيس الوزراء الصومالي المعين حديثا، محمد عبد الله محمد، وهو مواطن صومالي أميركي من نيويورك. وقدم نور التحية لمفتش الشرطة في المنطقة، الذي كان هدفا لمحاولة اغتيال من قبل مسلحي «الشباب» مؤخرا، والذي فقد رجله اليسرى خلال الهجوم.

وتحدث الاجتماع عن الصومال الضائعة. وغطت الأقمشة الملونة وصور الشخصيات الوطنية الصومالية، التي حافظت على وحدة الصومال في يوم من الأيام، جدران المجمع. وكان هناك صوماليون من عدة عشائر مختلفة يرفعون العلم الصومالي الملون باللون اللبني ويتوسطه نجمة بيضاء. وراقب حراس نور البوابة والمباني المرتفعة فوق المجمع لأن المفجرين الانتحاريين من حركة الشباب كانوا قد هاجموا تجمعات مثل هذه خلال الشهور الأخيرة.

وتقدم نور إلى الميكروفون، وعبر عن غضبه الشديد من أعضاء حركة الشباب واصفا إياهم بمدمري الإسلام. وحث الصوماليين على رد الدين لبلادهم، والاعتماد على أنفسهم من أجل إعادة إعمارها. وبعد ذلك أرسل رسالة إلى رئيس الوزراء الجديد فقال: «لا بد أن تقدم الخدمات التي ينتظر الناس من الحكومة تقديمها. ونحن بحاجة إلى خطة واضحة يا رئيس الوزراء. نحن نحتاج إلى الوظائف. ولا توجد بالعاصمة أي مياه نظيفة، رغم أنها تمثل مركز الصومال».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»