الحداثة تغزو فيتنام وتهدد مهنها التقليدية بالانقراض

آخر حداد في هانوي: عندما أترك شارع الحدادين سيصير اسما من دون مسمى

نغيون فونغ هونغ، ابن وحفيد حداد، قال إنه آخر من ظل يمارس المهنة في هانوي (نيويورك تايمز)
TT

إنه آخر حداد في شارع الحدادين. لونه أسمر ويعلوه الرماد ويتساقط العرق من يديه المليئتين بآثار الحروق، يضرب بمطرقته في ورشته الموجودة على جانب الطريق، بينما يمر بجانبه العالم الحديث. نغيون فونغ هونغ، وهو ابن وحفيد لحدادين، نما عندما كان هذا الشارع يعج بالحدادين الذين كانوا ينتجون معدات المزارع وحدى الخيل والآلات اليدوية قبل أن تحولها الصناعات الحديثة إلى منتجات بالية.

ويقول هونغ (49 سنة): «ما زلت أتذكر كيف كانت الشوارع فارغة عند تتساقط الأمطار ولا يسمع فيها سوى صوت المطارق وهي تضرب على الحديد الساخن. لقد كانت تخلق جوا خاصا للحدادين. كانت تخرج من كل محل رائحة النيران، وكل ما تسمعه هو صوت المطارق».

يبدو أن هذا هو ما كان يحدث منذ فترة طويلة في هذه المدينة، التي امتلأت الآن بأصوات الدراجات النارية والمصانع والمحال التجارية. إن صوت مطرقة وسندان هونغ هو صدى صغير لماض كانت سرعته أقل. فقد حلت محلات الملابس ومستحضرات التجميل ومصرف ومحال لحام وصالتا عرض لمنحوتات المصنوعة من الأحجار الكريمة، مكان ورش الحدادة الأخرى التي كانت موجودة في هذا الحي.

ويشير هونغ إلى أن الرجال الذين كانوا يعملون في هذه الورش انتقلوا إلى أعمال أخف وأكثر ربحا، لأنه يقال إن أي امرأة عصرية لا يمكن أن تقبل الزواج بحداد. وقال إنه قد يكون هناك حدادون آخرون في فيتنام، لكن ليس في العاصمة. وقال هونغ: «الآن لم يعد سواي» من يصنع هذه المنتجات المعدنية الثقيلة مثل العتلات ورؤوس المطارق والمبارد ورؤوس المثاقب. وأضاف: «أنا فخور بأن أكون الأخير. لا يوجد أحد مثلي، أبدو كما لو كنت أستطيع التحدث بلغة أفريقية، يجيدها عدد قليل جدا».

ولم يسع هونغ لنقل مهنة العائلة إلى ابنه، الذي يدرس في الجامعة والذي لا يملك على أي حال ما يسميه هونغ يدَي حداد. أما ابنته فتدرس أيضا في الجامعة، وهي لا تعرف حتى ما هو الفرن أو «المنفاخ». ويقول هونغ: «بعد أن أمضي وأترك هذا الشارع، لن يكون له أي معنى. شارع الحدادين سيكون (اسما على غير مسمى)».

وكان هذا هو نفس مصير نحو 36 شارعا ضيقا في الربع القديم الذي تظلله الأشجار في مدينة هانوي، حيث كان كل من هذه الشوارع يسمى باسم المهنة المنتشرة فيه، مثل: شارع المراوح، وشارع الأواني المصنوعة من الصيني، وشارع البطاطا، وشارع القبعات.

ولا يوجد مثل هذا الركن الصغير من الماضي في أي مكان آخر في فيتنام الحضرية. ويقول نغوين فينه فوك، وهو أحد كبار المؤرخين في هانوي، إن أربعة فقط من الشوارع احتفظت بجزء من أعمالها الأصلية. وهناك الآن محلات مجوهرات في شارع الفضة وحلويات ومعجنات في شارع السكر، وورق وألعاب في شارع الورق وأواني ومقالي في شارع المقالي.

وأضاف فوك (84 سنة): «بالطبع، عندما يتوقف الجميع عن صنع وبيع مثل هذه المنتجات، فإن كل هذا التاريخ يختفي. أنا رجل عجوز، وأشعر بالأسى لرؤيتنا نفقد هذه الشوارع العريقة». وأضاف فوك أن التجار كانوا يقومون بالتجارة والصناعة في هذه البقعة منذ القرن التاسع. وأنشأت 36 نقابة للعمال في بداية القرن التاسع عشر في هذه المنطقة.

وبدأ العالم الخارجي يحدث تأثيرا لأول مرة في هذه الشوارع عندما بدأ التجار القادمون من مختلف أنحاء أوروبا وأجزاء أخرى من آسيا في الوصول إلى هذه المنطقة جالبين معهم الأحجار الكريمة والتلسكوبات والساعات والأسلحة. وأخذوا في البداية صناعات السكر والحرير والتوابل والأخشاب الثمينة والأرز والسيراميك إلى بلدانهم.

واليوم في الحي القديم، فإن العالم الخارجي يعني السياحة، وهذه الأعمال الجديدة جلبت الفنادق والمطاعم ومحلات الحرير ووكالات السفر إلى كل هذه الشوارع.

ويقول فوك إن شارع الحدادين سمي بهذا الاسم في بداية القرن التاسع عشر، عندما دعت سلطات الاستعمار الفرنسية عمال المعادن للمساعدة في بناء جسر طويل فوق النهر الأحمر (ريد ريفير)، الذي صممه المهندس المعماري الفرنسي غوستاف إيفل وأصبح هدفا للغارات الأميركية خلال حرب فيتنام. وكانت عائلة هونغ هنا منذ البداية، ومثل والده وجده، دعي إلى المساعدة في العمل بهذه الورشة عندما كان صبيا، في سن السادسة. لكنه تمرد وغادر الشارع ليعمل كسائق وعامل في مصنع إلى أن بلغ سن الخامسة والثلاثين، عندما طلب منه والده العودة مجددا. وقال هونغ: «قال لي والدي هذه هي مهنة الأسرة، وأنا المتبقي للقيام بذلك. وقال: فقط راقبني وأنا أعمل وستعرف ما يجب عليك عمله». وقد اكتشف هونغ أنه يحب هذه المهنة، وأن قدره هو أن يكون حدادا. ويتذكر كلمات والده: «عندما يسخن الحديد ويتحول إلى اللون الأحمر، يمكنك كسب المال، هذه هي حياتك».

وكلما كانت تغلق واحدة من ورش الحديد، كان هونغ يجد المزيد من العمل لدى من يقومون بهدم وإعادة بناء وتجديد المباني في الحي القديم. وتقول دو ثي نغيوت، التي تعمل كعاملة هدم، وتأتي كل أسبوع لإعادة إصلاح أدواتها الخاصة بثقب الصخور في ورشة هونغ: «إنني أخشى أن يتوقف هو الآخر عن العمل. نطلب منه العثور على شخص يواصل العمل بعده، لكنه يقول إنه لا يوجد من يحل محله. ماذا سنفعل من دونه؟».

وقد وضع هونغ طاولة صغيرة للشاي على الرصيف، وأعاد تعبئة «التُرمس» الضخم الذي يتأرجح بلطف فوق الجمر. مع نارجيلة ضخمة من الخيزران معلقة على الطاولة، يدعو هونغ المارين للاستمتاع معه بتوليفة التبغ القوية التي لديه.

وفي صباح معظم الأيام يأتي والده، ونغوين هوو ثينه (88 عاما)، لزيارته على دراجته الهوائية ويجلس بصمت لفترة من الوقت وهو يقرأ الصحف ويتطلع إلى ابنه وهو يضرب بمطرقته على الحديد الساخن. ويضرب هونغ بثقة على الحديد الساخن وهو يعمل بيديه من دون قفازات. ويقول إن القفازات تؤثر على عمله.

يرتدي هونغ صندلا من البلاستيك، ويقول إنه يتجاهل الشظايا التي تصيب قدميه وتثقب قميصه، وألسنة اللهب والدخان المتصاعدة من المعدن الساخن بينما يضعه في دلو من الزيت. وبحلول نهاية اليوم، فإن السواد يلف ذراعيه ووجهه، ويعلوهم الرماد.

ويقول هونغ إن زوجته أخبرته أنها ما كانت لتتزوجه لو كانت تعلم أنه سيصبح حدادا. لذلك يقوم هونغ بما يتعين عليه فعله عندما يترك ورشته ويذهب مرة أخرى إلى العالم الحديث. ويقول هونغ: «أنا أغسل وأغير ملابسي في نهاية كل يوم، وأعود إلى المنزل رجلا وسيما ونظيفا وتكون زوجتي سعيدة بي». وقام هونغ بسحب الأكمام ليظهر أعلى ذراعه. وقال: «انظر كيف أن بشرتي بيضاء، وأشد بياضا منك. لو رأيتني هكذا ما كان لك أن تعرف أنني حداد».

* خدمة «نيويورك تايمز»