أفغانستان حرب لا تنتهي: أفغانستان تترك تعاليم طالبان إلى تعلم الإنجليزية والكومبيوتر

كابل الجديدة: تخلع «البرقع» وترتدي الجينز.. والجميع يشرب «الكابتشينو» ويلعن أيام الملا عمر

أفغانيات يشاركن في عرض أزياء في مزار شريف («الشرق الأوسط»)
TT

لقد تغيرت أفغانستان كثيرا منذ سقوط نظام طالبان عام 2001. فقد أقيمت ثاني انتخابات تشريعية ديمقراطية في البلاد منذ أكثر من 30 عاما وأعلنت نتائجها النهائية الأسبوع الماضي.

كما تمكنت النساء في بعض المناطق من التحرر من البرقع بعد سنوات أمضتها في شبه سجن داخل منازلهن. واكتسبت الأفغانيات حرية التجول في الخارج من دون رفقة رجل من العائلة. كما اكتسبن حق التصويت والعمل وحتى قيادة السيارات. ويمكن للفتيات الذهاب إلى المدرسة، على الأقل في المدن الكبرى كـ«هيرات» وكابل, وهناك 7 ملايين طالب في المدارس، بحسب وزير التعليم فاروق ورداك، ثلثهم من الإناث. لكن ذلك لم يمنع نساء كـ«رويا» التي تعلم الإنجليزية، أو «مكاداس»، الطالبة الجامعية التي تعمل في مجال الإغاثة، من التسجيل لتعلم القيادة. فقد مررن بأسوأ من التمييز بكثير خلال حياتهن، ولن يوقفهن أي شيء، على ما يبدو، من استغلال كل فرصة متاحة اليوم للنساء في أفغانستان. وتترك كابل، بلا استحياء، اليوم تعاليم الملا عمر وبن لادن زعيم «القاعدة» إلى أغاني الـ«روك أند رول»، والأفلام الأميركية والهندية التي تكتسح ساحات العاصمة الأفغانية في محلات بيع شرائط الفيديو, وفي أحد تلك المحلات المتخصصة في منطقة شهرانو بوسط كابل, كانت الأقراص المدمجة «المقلدة» الأفلام كاميرون دياز ودنزيل واشنطن وبراد بيت وميشيل فايفر وجيم كاري وآندي غارسيا وجوليا روبرتس تنتشر إلى جانب أفلام الممثل الأفغاني حشمت خان، خريج الأكاديمية الهندية للفنون، الذي التقته «الشرق الأوسط» بالقرب من مسجد شاه جيهان وحدائق بابر التي أنشأها الملك ظهير الدين محمد بابر، مؤسس الإمبراطورية المغولية، وتعود إلى القرن الـ16 الميلادي.

* اختفى البرقع من العاصمة كابل وحل محله الحجاب، وأدمنت البنات الأفغانيات نزهة العصاري، أي بعد صلاة العصر، سافرات، وفي الأغلب محجبات يمشين بدلال بوجه صبوح إلى المحلات والبوتيكات الجديدة، حيث توجد المقاهي التي تقدم الإكسبريسو والكابتشينو والأيس كريم في مول جديد اسمه «صافي لاند مارك» وبداخله فندق من ذوات الـ5 نجوم على أحدث طراز وبه 130 حجرة وحمام تركي وساونا في الدور الثامن, وعشرات المتاجر الصغيرة في الدورين الأرضي والأول تبيع الروائح والعطور النسائية والبلوزات الملونة لمالكه الحاج عبد القدوس، وهو من قدامى المجاهدين الأفغان من هراة. وعلى بوابات المول التجاري وكذلك الفندق الذي يحمل الاسم نفسه إجراءات أمنية مشددة خوفا من هجمات المتمردين, وقبل أيام من حلول عيد الأضحى المبارك أو عيد القربان شاهدت «الشرق الأوسط» العشرات من الأفغانيات في المول التجاري من دون محرم كما كان معروفا أيام الحركة الأصولية أن تخرج المرأة من باب منزلها بصحبة محرم من أقارب الدرجة الأولى من أشقائها أو زوجها, وازدحم شارع شهرانو بوسط المدينة بالأفغانيات اللاتي يبحثن عن شراء مستلزمات العيد لأولادهن بأسعار مناسبة, وفي الشارع نفسه هناك العديد من المتاجر التي تبيع العطور وأدوات التجميل وغير بعيد في شارع جانبي بالقرب من مطعم هراة هناك صالون تجميل أو كوافير تذهب إليه السيدات الأفغانيات حتى المرتديات للبرقع لإضفاء لمسة جمالية على وجوههن قبل حلول العيد.

أما العمامة السوداء التي سادت في كابل أيام الحركة الأصولية، فقد حل محلها «الباكول» الأقرب إلى الطاقية أو «البيريه» الذي أصبح يغطي تقريبا الرؤوس كلها، أو «القراقولي» الذي يغطي رأس كرزاي ويرتديه أهل الشمال, مستعيدا مكانته التي أزاحتها عنه حركة طالبان، أما اللحية التي كانت طالبان تشترط أن يكون طولها قبضتين, فقد بات الشباب يتفنون اليوم في موضات قص شعورهم, والبعض يترك شعره على الغارب يتدلى فوق الكتفين، وأغلب صغار السن اليوم من دون لحية، وما زلت أتذكر محمد طيب آغا، مدير مكتب الملا عمر، المطلوب أميركيا، الذي كان يتحدث العربية بطلاقة عندما طلبت لقاء في قندهار قبل الهجمات بـ8 شهور تقريبا لإجراء مقابلة مع الملا محمد عمر, قال لي بالحرف الواحد: كيف تدخل على أمير المؤمنين ولحيتك أقل من قبضتين؟ هذا عيب وليس من تقاليدنا, ابق معنا حتى يدبر الله أمر لحيتك.

أما البرقع الأزرق الذي غطى وجوه النساء وأجسامهن، فلا يزال ثابت القدم في خارج كابل، في باميان ولشكر غاه وهلمند وقندهار وأرزوغان وأسعد آباد وهراة، أي في الولايات البعيدة عن العاصمة لكنه لم يعد الزي الوحيد في الشارع، وإنما سارت إلى جانبه أزياء أخرى تراوحت بين الاعتدال والتطرف في الاتجاه المعاكس. تقول شميم أحمد زاي، وهي حسناء بشتونية الأصل مديرة مدرسة اقرأ لعلوم الرياضيات والكومبيوتر في شارع ماكرويان بوسط العاصمة كابل التقتها «الشرق الأوسط» وهي تعتمر حجابا أسود رقيقا: إن البرقع ليس تقليدا أفغانيا، بل جاء إلينا من الهند. وتشير إلى أن الجديد أن أغلب البراقع اليوم تأتي إلينا من الصين، أي تصنع هناك. وتوضح أن أغلب الجيل الجديد من فتيات الثانوية العامة أو طالبات الجامعة حاسرات وكاشفات عن الرؤوس. أما طالبان، التي استولت على السلطة عام 1996، فقد فرضت وضعا دينيا واجتماعيا يحتم على الجميع الالتزام به وعدم الخروج عن مساره, وإلا تعرض لسلطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقد كانت من الوزارات السيادية, ولمسؤوليها كلمة نافذة في التعامل مع المخالفين لحدود الشريعة الإسلامية, وقد ينتهي الأمر للمخالفين بالإحالة إلى ديوان الجزاء, أو بيت التأديب في المحبس العمومي أو السجن المركزي, لتنفيذ التعزير وحدود القصاص, وهناك سوط من الجلد المقوى, بني اللون كان معلقا وراء مكاتب مسؤولي الحركة الأصولية في محكمة التمييز العليا أو «ستور محكمة» كما يسميها الأفغان, وجاهزة لتنفيذ الحدود مثل الزنى وقذف المحصنات وشرب الخمر, وقد لمست هذا السوط أو الكرباج الجلدي، وتفحصته بعد أن أجريت لقاء مع مفتي الديار الأفغانية أيام طالبان مولوي السيد رحيم, واقتنعت أن أي إنسان مهما بلغت قوته البدنية, لا يمكن أن يتحمل أكثر من 20 جلدة, لا يحتاج بعدها سوى تأشيرة دخول إلى الدار الآخرة.

أما اليوم فإن كابل الجديدة تشهد انقلابا في الظروف العامة التي تمر بها, فبدلا من أيام طالبان التي كانت تحظر التجول ليلا وتفرض ارتداء البرقع على النساء وتمنع التدخين وتعليم البنات، وتحظر أيضا اقتناء جهاز التلفزيون والاستماع إلى الموسيقى، تنتشر في شوارع منطقة «شهرانو»، وتعني المدينة الجديدة وسط العاصمة الأفغانية، بنات جميلات متبرجات من جورجيا وبكين وتايلاند يرتدين الجينز ويتدثرن بالشادر الأفغاني من الحرير كنوع من الموضة الجديدة. وترحب العاصمة كابل اليوم بزوارها الأوروبيين من دبلوماسيين وموظفي المنظمات غير الحكومية وممثلي الهيئات الدولية, وأغلب هؤلاء يبحثون عن الأمن والأمان خوفا من هجمات الانتحاريين العشوائية, وهناك اليوم فنادق في العاصمة كابل محصنة أشبه بقلاع مترسة يتم تفتيش السيارات قبل السماح لها بالدخول, وذلك بعد أكثر من هجوم مدمر على فنادق فخمة مثل سارينا هوتيل على بعد أمتار من بوابة القصر الجمهوري وفندق صافي لاند مارك على ناصية شارع شهرانو.

والأفغان أنفسهم في أحاديثهم الخاصة لا يتحسرون على أيام الملا عمر، حاكم حركة طالبان المخلوعة، الذي حرم عليهم متع الحياة وفرض عليهم معيشة قاسية من القرون الوسطى.

ومطاعم كابل الجديدة تقدم اليوم «البيتزا» والهامبورغر والاسكالوب والاستيك الأميركي والماكروني بولونيز الإيطالي، كذلك الأكل العربي في مطعم لبناني يخضع لحراسة مشددة، لكنه أيضا يجذب زوار كابل الجديدة بأطباقه الشهية مثل التبولة والبابا غنوج والحمص والمناقيش، إضافة إلى أنواع من المشويات, ويعتبر صاحبه كامل حمادة، وهو من قضاء الشوف، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن طالبان ليست على خصومة مع الأكل العربي. وعلى الرغم من أن المطعم يوجد في حي آمن نسبيا، وهو حي السفارات, وزير أكبر خان، الذي كانت تسكنه قيادات «القاعدة» أيام طالبان, فإن المطعم يحرسه على مدار الساعة مجموعة من الحراس الأشداء من جنود وزارة الدفاع الأفغانية.

إن ما يحدث اليوم في الشارع الأفغاني، خلال ما شاهدته «الشرق الأوسط» في الزيارة الأخيرة للعاصمة كابل وعدد من المدن الأفغانية مثل مزار شريف ولشكر غاه عاصمة ولاية هلمند، يعتبر ردة عنيفة عما عاناه المواطنون في عهد الحركة الأصولية التي تسعى اليوم في هلمند وأرزوغان وموسى قلعة ومارغا إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء, فالموسيقى والرقص والغناء والتلفزيون والتدخين في المدن الأفغانية كان حراما بيِّنا، فجميعها محظور بأمر الملا عمر عبر بيانات إذاعة صوت «الشريعة» التي كانت تصدر بيانات وفتاوى كل ليلة عبر موجات الأثير، ومنذ وصول طالبان إلى الحكم عام 1996 تم إغلاق دور السينما وتحويلها إلى مساجد, كذلك تم إغلاق مراكز الفيديو, ومنع البث التلفزيوني, أما المصورون الفوتوغرافيون واسمهم «عكاسي» فقد انقرضوا تقريبا, وتخصص الباقي منهم في التقاط صور جوازات السفر فقط, المسموح بها طبقا لـ«فقه الضرورات» المستمد من قواعد الشريعة الإسلامية, ويمنع طبقا لفتاوى رسمية تصوير ذوات الروح؛ لأنه يخالف العقيدة والسنة, ولا يسمح لسائقي التاكسيات أو عربات الركشا، وهي عبارة عن دراجة نارية, بها صندوق يحمل شخصين من الخلف, حمل سيدات مكشوفات الوجه, وإلا تعرض للعقاب من قبل مسؤولي وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واعتبارا من العاشرة مساء يلزم الجميع بيوتهم، باستثناء مسلحي طالبان الذين كانوا يجوبون الشوارع المظلمة وفي أيديهم الكلاشينكوف والجرينوف الخفيف, ولكن يتم السماح للمرضى بالمرور وكذلك حالات الولادة العسرة بالتوجه في أي وقت من الليل إلى المستشفيات, وتنتهي ساعات الحظر الليلي مع صوت الأذان لصلاة الفجر، أي في الرابعة صباحا.

معاناة المرأة الأفغانية لم تنتهِ بعدُ؛ لأنها ميراث قرون من العادات والتقاليد التي لن يتم تغييرها بين ليلة وضحاها، فالخروج من المنزل للدراسة أو العمل، أو حتى التحدث مع الرجال، كان ممنوعا بحكم الدين بالمفهوم الطالباني والقانوني؛ إذ منعت الحركة ذات الفكر الأصولي النساء من الذهاب إلى المدارس التي أغلقت أبوابها بأعداد كبيرة منذ سيطرة طالبان على العاصمة كابل في سبتمبر (أيلول) عام 1996، وفرضهم تفسيرهم الخاطئ للشريعة الإسلامية بالقوة على الناس. ولكم أن تتصوروا أن شرطة طالبان أصدرت مرسوما ينص على منع النساء من الخروج من المنازل ومنعهن من أي حركة من شأنها لفت انتباه الناس. وعلى الرغم من أن وصول طالبان للحكم وضع بشكل كبير حدا للحرب الأهلية بين الفصائل في العاصمة الأفغانية التي قسمت البلاد وأراقت الدماء، لكنه شكل أيضا بداية مرحلة من البؤس والشقاء للأفغان، خاصة الأطفال والنساء اللائي دفعن الفاتورة الكبرى؛ حيث توقفت حياتهن تماما، وكان ظهور جزء صغير من القدم يعرض المرأة للضرب من قبل الشرطة الدينية. لكن تقلصت مع اختفاء طالبان نهاية عام 2001 قائمة الممنوعات وأصبح بمقدور الكثير من النساء الاستمتاع بوقتهن، وبات، بالنسبة لكثير من الأفغانيات، بمقدورهن مساعدة أزواجهن في تحمل أعباء الحياة. وأصبحت لنساء كابل حديقة تقام في أرجائها معارض خاصة بأعمال النساء ولا ينسى المنظمون إبراز هذه اللوحة التي تذكر بمعاملة طالبان للنساء وزادت في العاصمة الحوانيت التجارية الخاصة بالنساء، التي تحرص على استيراد أحدث الأزياء والعطور، مع مراعاة خطوط الموضة والماكياج.. ملامح المرأة بدأت تتغير، لكنه كما يرى البعض منهن ليس مجرد تغيير نابع من مساحيق التجميل. عموما.. البرقع بدأ ينحسر تدريجيا لصالح الموضة التي تنتشر الآن في أفغانستان إلى درجة أن المرأة أصبحت في بعض الأحيان سلعة لتسويق البلاد، فالكثير من الفتيات والنساء يرتدين البرقع في الشارع ويسارعن إلى خلعه في المدارس أو أماكن العمل. تقول طالبة أفغانية في جامعة كابل لـ«الشرق الأوسط»: الحروب كثيرة، وعندما كنا ننتقل من مكان إلى آخر كان البرقع ضروريا؛ لأنه يوفر نوعا من الأمان. إن المعاناة المريرة التي عانتها المرأة الأفغانية على مدى ربع قرن من الحروب والاقتتال سببت لها مشكلات أكبر مقارنة ببقية شرائح المجتمع. ونظرا لهذه الأوضاع الصعبة والمشكلات المريرة التي كانت تعيشها المرأة الأفغانية جاء القرار بإنشاء وزارة لرصد ومعالجة هذه المشكلات والنهوض بالمرأة, وفعلا تقلدت المرأة مناصب قيادية في الحكومة؛ فحبيبة سورابي امرأة تبلغ من العمر نحو 50 عاما، وهي أول حاكمة لولاية في تاريخ أفغانستان، حبيبة تعقد اجتماعات مع جنرالات من قوات التحالف لبحث أمور ولاية باميان وتلتقي قادة الشرطة ورجال الأمن وأعضاء مجلس الولاية، تتفقد مشاريع الولاية وتسعى إلى تحويلها إلى منطقة سياحية، مستغلة الآثار التي تزخر بها وتماثيل بوذا العملاقة التي يجري العمل على إعادة بنائها. وتعلم حبيبة سورابي أن العمل الذي كُلفت به هو كونها أول امرأة تحكم إقليما أفغانيا على الإطلاق. ومن بين المهام التي تتطلع للقيام بها عملية صعبة لإصلاح الحكومة المحلية وإعادة بناء مرافق البنية الأساسية التي دمرتها الحرب واتخاذ قرارات بشأن مصير أشهر موقع تاريخي في أفغانستان، بل وتحويل المدينة التي اشتهرت باسم «مدينة الصرخات» إلى نقطة جذب سياحي. من الواضح أيضا أن وزيرة شؤون المرأة السابقة لا تخشى التحدي بعد أن شنت حملات للدفاع عن حقوق المرأة في مخيمات اللاجئين وأدارت مدارس سرية لتعليم الفتيات خلال نظام طالبان. وترى تعيينها لإدارة إقليم باميان بوسط البلاد فرصة ذهبية لزيادة مكانة المرأة وتشجيع احترام حقوق المرأة التي يكفلها الدستور، والتي ما زال أمامها طريق طويل لتتحول إلى واقع. وفي أحياء شيربور، بالقرب من وسط العاصمة وكردي بروان جنوب كابل، هناك حضور كبير لجنرالات الحرب يتمثل في العمارات الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية الزرقاء والفلل الفخمة، والأرض تعود للحكومة، لكن أمراء الحرب استولوا عليها في غفلة من الزمن بعد سقوط طالبان, وهناك اليوم صالات الأفراح والأعراس بوسط العاصمة بألوان زجاجية زرقاء تعلن عن مرحلة وتاريخ جديدين, ليس فيهما للعنف موطئ قدم. وعلى الرغم من الحذر الأمني فهناك حركة ومطاعم تحمل علامات جديدة تفتح الباب لعصر كابلي يتزين بالشارات الأميركية والنكهة الأوروبية, وينفق الأميركيون بسخاء شديد, وينافسهم موظفو هيئات الإغاثة الدولية الذين يحصلون على رواتب خيالية. وتتحدث العاصمة الأفغانية عن أعضاء فرق الحراسة الأميركية من شركات الأمن أو المقاولين الجدد, ويحصل الحارس الأفغاني منهم والمدجج ببندقية «إم 60» والمستعد لإطلاق النار عند أول إشارة اشتباه على ألف دولار يوميا. وتعطي الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية أعضاءها رواتب مرتفعة تسمح لهم بالتعامل مع سوق كابل التي تشهد موجة ارتفاع أسعار ساخنة للغاية.

ويشتكي أهل كابل من أن المعونات السخية التي ترسلها الدول المانحة تذهب إلى جيوب موظفي شركات الحراسة الخاصة، وخبراء الشركات الدولية, وتتدفق هذه الأموال على سوق كابل, فتنشط عادات جديدة جاءت مع القادمين من واشنطن ولندن وباريس. وهناك مطاعم تصل إليها عبر ممرات خاصة تحميها الشرطة وشركات الأمن، ومطاعم أخرى تبدو وكأنها كالخنادق محفورة في باطن الأرض بعيدا عن عيون الفضوليين من المتطرفين ودعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ينتشر على الطرف الآخر في قندهار وهلمند.

وكشف مرافق إعلامي تابع للسفارة الأميركية في العاصمة كابل عن أن قادة الجهاد الأفغاني يمتلكون فيلات فخمة في حي بروان جنوب كابل، بالإضافة إلى منازل أخرى في منطقة شيش دراك بوسط العاصمة، وكذلك حي وزير أكبر خان الذي توجد فيه معظم السفارات الغربية، وكان يقطنه أيمن الظواهري، زعيم «الجهاد» المصري الحليف الأول لابن لادن وكبار قادة «القاعدة» قبل سقوط حركة طالبان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001.

وقد تمكن الوافدون الجدد إلى العاصمة الأفغانية من تغيير مناخ كابل، لكن لا يزال الأمن والقلق والحذر ظاهرة موجودة على الرغم من الأموال الكثيرة والبضائع وعلب البيرة الموجودة في محلات السوبر ماركت التي تتحدث بالإنجليزية إلى جانب الداري والبشتو وتتعامل باليورو والدولار.

وبعد أن كانت العاصمة الأفغانية تزدحم بمسلحي طالبان، الذين ينتشرون عند مفارق الطرق والدبابات الروسية والملتحين وأصحاب الجلابيب القصيرة والعمائم السوداء, دخلت الموضة المقبلة من أوروبا وأميركا بلا استحياء, فالعصر الجديد يدخل بتأشيرة العولمة, وكابل راضية، بل سعيدة، بتوديع عصر الملا عمر و«الأفغان العرب», والدولار هو سيد الموقف، فكل السلع تتداول بالعملة الأميركية, والحساب في فندق هيتال بلازا بوسط العاصمة أيضا بالدولار.

وكشف أحد كبار قادة الجهاد الأفغاني لـ«الشرق الأوسط» عن أن الفندق الفخم يعود إلى نجل البروفسور برهان الدين رباني، رئيس لجنة المصالحة رئيس حكومة المجاهدين الأسبق, وداخل السوبر ماركت تستطيع الحصول على علب البيرة من طراز هاينكن وسان ميغيل وبد وايزر وبيكس وكارسبرغ وزجاجات الخمر المقبلة من لندن وباريس، وفي شوارع حي شهرانو تتجول الحسناوات من الأفغانيات بحثا عن البضائع المقبلة من الخارج، إلى جانب العشرات من الشحاذين الذين يتسولون قوت يومهم. وتشهد كابل انتشار البنايات الحديثة, ويعرف المواطنون أن أصحابها هم وزراء سابقون ومجاهدون تحولوا من الكفاح المسلح إلى الجهاد في سوق المال والعقارات. وتعرف كابل اليوم أن المالك الجديد لعشرات البنايات هو هذا المجاهد السابق الذي حارب الروس وطردهم من بلاده, وهو المجاهد نفسه الذي كان يركب الدبابات ويطلق صواريخ ستنغر على الطائرات الروسية, ولكنه اليوم يسعى إلى استقطاب وكالات التجارة العالمية وشراء الأراضي والسيارات الفخمة. والوقت اليوم في كابل ليس للجهاد وإنما للثراء وجمع الدولار, وكابل تتغير بسرعة وأسعار العقارات تصل إلى الآلاف، وإيجار شقة صغيرة يصل إلى 3 آلاف دولار, أما الفيلا المعقولة فإيجارها يصل إلى 30 ألف دولار في الشهر، والشوارع التجارية تزدحم بالمشترين من كل صنف، خصوصا من نساء يرتدين الملابس الحديثة بلا برقع أو حجاب. وتزدحم العاصمة الأفغانية بآلاف السيارات الحديثة والماركات المشهورة المقبلة من دبي وأوروبا وأميركا.