أوضاع العراق تدفع اللاجئين العائدين إلى الفرار مجددا

أكد أغلبهم أنهم «نادمون» على عودتهم.. ويؤكدون: البلاد لم تعد بلادنا ولا أحد يساعدنا

TT

يشهد العراق هجرة جماعية ثانية للعراقيين، الذين عادوا بعد الهرب من مذابح الحرب، حيث دفعهم العنف والبطالة بعيدا عن خارج الوطن مرة أخرى.

أصبح عدد اللاجئين مقياسا لأحوال البلد غير المستقر منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003، حيث يندفعون إلى الخارج خلال فترات العنف، ويعودون كلما لاح استقرار في العراق. وتوضح هذه الهجرة الجديدة مدى بعد الدولة عن الأمان والاستقرار.

غادر أبو مريم العراق بعد أن قُتل زوج شقيقته في هجوم بقذائف الهاون عام 2005، بينما رحل عمار العبيدي عن البلاد عندما هدده بعض المتمردين بالقتل وهاجموا متاجره، وغادر حازم هادي محمد التميمي لأن الأطباء الذين عالجوا زوجته من سرطان المبيض رحلوا عن البلاد.انضم ثلاثتهم إلى موجة اللاجئين الذين عادوا مع انحسار وتراجع العنف، لكنهم الآن يريدون الرحيل ثانيا. يقول أبو مريم، الذي له ابنة تدعى مريم بالفعل ولم يكشف سوى عن جزء من اسمه خشية انتقام متطرفين في الحي الذي يسكنه «الشيء الوحيد الذي يمنعني هو عدم امتلاكي للمال. نحن عراقيون بالاسم فقط». وبحسب إحصاءات الحكومة العراقية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، عاد نحو 100.000 لاجئ عراقي منذ 2008 من بين أكثر من مليونين كانوا قد غادروا البلاد منذ الغزو. لكن يشعر الكثيرون منهم بعد عودتهم نتيجة تحسن الحالة الأمنية في العراق أو عدم الحصول على عمل في الخارج بأن وطنهم لا يزال غير ممهد بعد، فمنازلهم قد دمرت أو تم الاستيلاء عليها، والأحياء التي يسكنونها غير آمنة، والفرص المتوافرة أمامهم ضئيلة.

وطبقا لآخر مسح قام به مكتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فإن 61 في المائة من العائدين إلى بغداد شعروا بالندم لعودتهم، حيث يقول أغلبهم إنهم لا يشعرون بالأمان. ويقول أغلبية من شملهم المسح والذين يمثلون 87 في المائة إنهم لا يستطيعون جني المال الذي يقيم أودهم. وقد ازداد عدد طلبات اللجوء لسورية بنسبة تزيد على 50 في المائة منذ مايو (أيار).

وبينما يناضل العراق من أجل استعادة الاستقرار، يخاطر هؤلاء العائدون بالتحول إلى مواطنين بلا وطن، نازحين داخل وطنهم وكذا خارج وطنهم. ورغم تراجع معدل مغادرة البلاد منذ 2008، فإن الموجة الأخيرة من الهجمات ضد المسيحيين أدت إلى خروج جديد.

رحل العبيدي، الذي ذكر اسم قبيلته عوضا عن اسم والده، إلى سورية عام 2006، بعد انفجار قنبلة مصنعة يدويا بالقرب من ابن أخيه، مما أرهب الطفل، وهدد المتمردون بقتل العبيدي. وقد واجه مؤخرا صعوبة في التنفس ذات مساء خلال تحدثه عن الانفجارات اليومية التي تحدث في الحي الذي يسكن به. يقول العبيدي وهو يعد مرات مواجهته لأسلحة وقنابل عن قرب «لا يوجد أمان هنا، لقد كنت بالقرب من انتحارية منذ شهرين، ثم كنت في عربة شقيقي عندما فتح مسلحون النار على أحد الجسور، وقتل صديقي بسكين أمام عيني، لقد دمرت تماما. أمي بحاجة إلى إجراء عملية في عينيها ولا أملك المال اللازم لذلك. نحن بحاجة إلى من يساعدنا. تحسس معدتي، ستجدها جامدة كالصخر وتوشك على الانفجار». ويضيف أنه كان يجني 1000 دولار شهريا، وكان يعتزم الزواج قبل أن يسطو متمردون على متاجر الأدوات التي يملكها في 2006، لكنه لم يستطع العثور على وظيفة خلال أسفاره المتعددة وحاول جاهدا العثور على عمل نهاري يمكنه من جني 6 دولارات يوميا منذ عودته إلى بغداد، والمرأة التي كان ينوي أن يتزوجها مع رجل آخر الآن.

وقد أعطى لمهربين ضعف الأجر ليساعدوه على الذهاب إلى النمسا مرة، وإيطاليا مرة أخرى، لكنهم حصلوا على النقود من دون تقديم أي مساعدة له في المرتين. يقول العبيدي وهو من السنة «كانت الحياة في سورية أفضل، لكنني لا أستطيع العمل هناك. وكذلك كانت الأردن وتركيا، لكن بلدنا لم يعد بلدنا، فهو بلد الإيرانيين. نحن بحاجة إلى من يساعدنا».

تقدم الأمم المتحدة بعض تكاليف المواصلات وإعانات مالية ضئيلة لأسر عائدة، لكن أقل من 4 في المائة من العائدين يستفيدون من هذه البرامج، فأغلبهم لا يعلمون عنها شيئا أو يعتقدون أنهم لا يزالون يرغبون في العودة إلى البلدان التي لجأوا إليها ويريدون من الهيئة أن تساعدهم كلاجئين لا كعائدين. أما بالنسبة إلى أبو مريم وأسرته، الذين رحلوا إلى سورية في 2005 وعادوا العام الماضي، فالحياة أصبحت عملية اختيار بين خيارات جميعها سيئة. يقول أبو مريم إن سورية بدت آمنة لكنه شعر بـ«المهانة» لكونه أجنبيا عاطلا يبحث عن عمل ويبيع ما يملك لينفق على أسرته. لم يستطع أبو مريم الحصول على وظيفة عند عودته. أما الجيران، الذين كانوا يوما يكنون للعائلة الاحترام «فينظرون إلينا الآن بدونية».

وذات مساء قريب جلس أبو مريم في شقة تتكون من حجرتين ليس بها سوى أريكة على الأرض وبضعة مقتنيات في صناديق، ولا توجد بها ثلاجة ولا تتوافر الكهرباء سوى خلال ساعات قليلة في اليوم.

قال أبو مريم، وهو من السنة «لقد كان لدينا جيران شيعة من قبل، ولم تكن هناك مشكلات على الإطلاق. لقد اصطنعت الحكومة الطائفية»، مشيرا إلى أن تشكيل الأحزاب السياسية يتم على أسس عرقية أو دينية مما يثير الشقاق والخلاف، وقد أصبح الحي الذي يسكن به معقلا لمتطرفي السنة.

يجلس أبو مريم على حافة الأريكة، بينما تجلس والدته وراءه، ويقول إنه سيرسل شقيقتيه وأمه إلى سورية خلال الشهور القادمة ليكنّ في أمان، بينما سيلحق بهن هو وزوجته وأبناؤه الثلاثة وعمه الذي في العراق، مما يشتت شمل العائلة، ولا يستطيع تحديد متى يمكن أن يلتئم شمل الأسرة في سورية. ويقول «هذه هي النهاية. لن أعود، كيف لي أن أعود؟ لا أصدق أن العراق سينهض من جديد».

ويوضح حازم التميمي، الذي شارك في حرب الأعوام الثمانية ضد إيران، والتي تسببت في مقتل الكثيرين، إنه لم يكن راغبا في الرحيل عن العراق عام 2006، حيث يقول «إنني أحب بلدي، لكن بعد سنوات من العقوبات والغزو الذي قادته أميركا ندر وجود الأطباء والطب في البلاد، وهذا من الآثار السامة الكثيرة للنزوح من العراق».

ووجد التميمي في الأردن أطباء لمعالجة زوجته من السرطان، لكنه لم يجد عملا، حيث يقول «إنهم لا يعاملوننا جيدا». والآن بعد مرور شهرين على عودته إلى العراق، فإن التميمي مستعد للرحيل مرة أخرى، فرغم تحسن الحالة الأمنية والرعاية الصحية، التي كانت نموذجا يحتذى به في المنطقة، فإنها ليست بالقدر الكافي، ولم يعد الأطباء إلى البلاد. ويوضح التميمي قائلا «أريد الاعتناء بزوجتي حتى وإن اضطررت للنوم في الطرقات». ويعتزم التميمي التقدم بطلب لجوء إلى الولايات المتحدة، لكنه يعلم أن الظروف ضده. في هذه الأثناء يشعر التميمي بعدم الرضا عن تجربته في بلده الذي لم يعد يستطيع أن يطلق عليه بلده، حيث يقول «إنني آسف على العودة، لكن المشكلات المالية هي التي دفعتني إلى ذلك، فالعراقيون لا يساعدون العراقيين».

* خدمة «نيويورك تايمز»