واشنطن تواجه حرجا دوليا من تسريب 251 ألف وثيقة سرية ترفض بحث تفاصيلها

كلينتون: تسريب وثائقنا السرية هجوم على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي * العدل الأميركية تفتح تحقيقا جنائيا بالتعاون مع البنتاغون

خافيير مورينو رئيس تحرير صحيفة «الباييس» الإسبانية يعرض نسخة من عدد أمس الذي احتوى على سجل وثائق «ويكيليكس» (رويترز)
TT

تواجه الولايات المتحدة حرجا دوليا كبيرا بعد نشر موقع «ويكيليكس» وثائق حساسة تعود إلى وزارة الخارجية الأميركية وتتناول العلاقات الخارجية والانطباعات الأميركية حول قضايا عدة، على رأسها الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. وانشغلت وزارة الخارجية الأميركية خلال الأيام الماضية بالاتصال بدول حليفة وطمأنتها حول الوثائق المنشورة التي تتناول فترة ما بين 1966 و2010، وتشمل برقيات من 274 سفارة أميركية حول العالم. ومن اللافت أن 15652 وثيقة هي التي وصفت بـ«السرية» والتي تشكل أكبر حرج للحكومة الأميركية وقدرتها على الحفاظ على ثقة حلفائها. وهذا هو الأمر الأكبر الذي يواجه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، في الفترة المقبلة.

وبينما ندد مسؤولون مثل رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي الأدميرال مالون، ووزير العدل الأميركي إريك هولدر، بنشر الوثائق، وتهديدها لـ«الأمن القومي الأميركي»، كان دبلوماسيون أميركيون يعملون خلف الكواليس للتصدي لتداعيات البرقيات المنشورة على موقع «ويكيليكس» ووسائل الإعلام حول العالم.

واعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أمس أن نشر موقع «ويكيليكس» الوثائق الأميركية السرية «هجوم» على الولايات المتحدة و«المجتمع الدولي». وفي تصريحات شديدة اللهجة حول تسريب الوثائق، قالت كلينتون: «لا يوجد أمر يجب الإشادة به عندما يهدد حياة الآخرين». وفي إقرار بأن هذه التسريبات تشكل حرجا حقيقيا للسياسة الخارجية الأميركية، وصفت وزيرة الخارجية الأميركية الحادثة بأنها «تحدّ»، ولكن أردفت قائلة إن «شراكاتنا ستصمد أمام هذا التحدي».

ونددت كلينتون بـ«الكشف غير القانوني.. الذي يهدد قدرتنا على العمل مع حكومات أخرى لحل مشكلات مشتركة». وقد قضت ساعات خلال الأيام الماضية تتحدث مع نظرائها من دول عدة لبحث هذه التسريبات ومحاولة التقليل من تأثيرها على العلاقات الخارجية الأميركية. وفي حين أكدت كلينتون أنها ستواصل مشاوراتها مع نظرائها حول العالم لضمان سلامة «شراكاتنا» بعد كشف الوثائق المحرجة، لفتت وزيرة الخارجية الأميركية إلى أن أحد نظرائها التي لم تسمّه قال لها: «لا تقلقلي، يجب أن ترين ما نقوله نحن عنكم». وأضافت: «هذه أمور متعارف عليها في الأوساط الدبلوماسية».

وكررت كلينتون الموقف الأميركي بـ«عدم التعليق على الادعاءات أو تأكيدها، بأن هذه وثائق تابعة لوزارة الخارجية». ولكنها علقت على الوثائق المسربة حول المخاوف العربية من البرنامج النووي الإيراني، قائلة: «يجب أن لا يفاجأ أحد من أن إيران تشكل قلقا كبيرا ليس فقط للولايات المتحدة؛ بل في كل اجتماع لي في أي مكان في العالم تثار هذه القضية». وأضافت: «هذه التقارير تؤكد أن إيران تشكل تهديدا حقيقيا في نظر دول جوار إيران وتشكل قلقا لدول كثيرة أخرى»، موضحة: «سنواصل العمل مع دول تفكر مثلنا» لمعالجة هذا الملف.

وخصصت وزيرة الخارجية الأميركية جزءا كبيرا من تصريحاتها للدفاع عن الدبلوماسيين الأميركيين ودعوة الأميركيين لـ«الفخر» بعملهم، معتبرة أن الدبلوماسيين الأميركيين يعملون لمصلحة السلم العالمي.

وأكدت كلينتون اتخاذ إجراءات مشددة لمنع حدوث مثل هذا التسريب مستقبلا. وفي وقت أعلن فيه وزير العدل الأميركي اريد هولدر أمس عن إطلاق تحقيق جديد في كيفية تسريب ونشر أكثر من 251 ألف وثيقة حكومية أميركية على موقع «ويكيليكس» الإلكتروني، أعلنت إجراءات مشددة جديدة لجميع الدوائر الحكومية الأميركية لتناول المعلومات السرية.

ووصفت الإدارة الأميركية نشر الوثائق السرية بأنها عملية «استهتار» وعملت يوم أمس على التصدي لتداعياتها الدبلوماسية الواسعة. وقال مدير مكتب الإدارة الموازنة الأميركية جيكوب لو في بيان أمس إن «النشر غير المسؤول الأخير لـ(ويكيليكس) قد أدى إلى ضرر كبير لأمننا الوطني»، مضيفا: «أي فشل من قبل الدوائر لحماية المعلومات السرية غير مقبول ولن نتحمله».

وفي عملية سميت بـ«كيبلغيت»، في إشارة إلى قضية «ووترغيت» التي كشفت تجسس الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، على الحزب الديمقراطي، بدأ موقع «ويكيليكس» نشر 251 ألف وثيقة تابعة لوزارة الخارجية الأميركية، أول من أمس. وعلى الرغم من أن الوثائق لم تظهر اختلافا كبيرا بين المواقف الأميركية الرسمية ومحتوى البرقيات السرية، فإن نشر هذا الكم الهائل من الوثائق يشكل إحراجا كبيرا للولايات المتحدة من حيث قدرتها على حماية أسرارها، ومن حيث مضمون البرقيات التي تحمل عبارات تسخر من عدد من قادة العالم. وتصف إحدى البرقيات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأنه «إمبراطور من دون ملابس»، بينما تتحدث برقية أخرى عن «الحفلات الصاخبة» لرئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني.

وهناك قضايا عدة تسلط وثائق «ويكيليكس» الضوء عليها، على رأسها الأوضاع في العراق، وتدخل دول الجوار في شؤونه، بالإضافة إلى المخاوف العربية من برنامج إيران النووي والكشف عن قصف أميركي لمواقع تابعة لـ«القاعدة» في اليمن. وبالإضافة إلى إحراج المسؤولين الأميركيين بسبب عدم مقدرتهم على الحفاظ على أسرار الاجتماعات الخاصة، هناك إحراج خاص بسبب تعليقات دبلوماسيين أميركيين على مسؤولين حول العالم في الوثائق المسربة.

وربما مصدر الإحراج الأكبر بالنسبة للأميركيين هو الكشف عن خطط الولايات المتحدة للتجسس على مسؤولي الأمم المتحدة، خصوصا بعد أن كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أعلن عزمه على العمل بالتعاون مع المنظمة الدولية بعد أن أحرق سلفه، جورج بوش، الكثير من الجسور مع الأمم المتحدة بسبب حرب العراق عام 2003، وعدم التعاون مع المنظمة الدولية. ولم تنف المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سوزان رايس، أمس، صحة البرقية التي توثق التعليمات من وزيرة الخارجية، كلينتون، لبعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة لجمع المعلومات حول الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، و«طريقة قيادته وعلاقاته»، بالإضافة إلى رصد معلومات حول كبار مسؤولي المنظمة الدولية التي تشمل عناوين بريدهم الإلكتروني وحساباتهم المصرفية. وقالت رايس أمس: «دبلوماسيونا يفعلون ما يفعله الدبلوماسيون حول العالم»، رافضة الخوض في تفاصيل إضافية حول هذه القضية.

ومن اللافت، أن الناطق باسم بان اكتفى بالقول إن «الأمم المتحدة بطبيعتها منظمة شفافة مما يجعل الكثير من المعلومات حول نشاطاتها متوفرة للعامة». وحرصت الأمم المتحدة على عدم التنديد بفحوى البرقية، إلا أن رايس عملت على التقليل من حدة تداعيات هذا الخبر في مقر الأمم المتحدة.

وكان هناك تخبط صباح أمس في الرد الأميركي الرسمي على نشر الوثائق السرية، فكان من المرتقب أن تلقي وزيرة الخارجية، كلينتون، خطابا حول القضية في الساعة العاشرة والربع صباحا، إلا أن في الدقيقة الأخيرة تم تأجيل هذا الخطاب حتى الساعة الواحدة بعد الظهر. وتم تأجيل موعد المؤتمر الصحافي اليومي للناطق باسم الخارجية، بي جي كراولي، مرتين، بينما تضارب موعد المؤتمر الصحافي للناطق باسم البيت الأبيض، روبرت غيبس، مع موعد مؤتمر كلينتون الصحافي في الواحدة بعد الظهر.

وكان أول رد أميركي رسمي على نشر وثائق «ويكيليكس» من الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بي جي كراولي، الذي اختار موقع «تويتر» الإلكتروني كوسيلة للرد على أكبر تسريب لوثائق دبلوماسية. وقال كراولي: «على عكس الادعاءات في بعض تقارير (ويكيليكس)، دبلوماسيونا هم دبلوماسيون، وليسوا مخبرين»، مضيفا: «الدبلوماسيون يجمعون المعلومات التي تحدد سياساتنا وتصرفاتنا، دبلوماسيو كل الدول يفعلون الأمر ذاته».

وهذه مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لوزارة الخارجية، التي تريد حصانة سمعة دبلوماسيها، حيث ظهر عدد كبير منهم من خلال برقياتهم وكأنهم يتناقلون أخبارا استخباراتية، بالإضافة إلى الحرج من التعليمات الأميركية للدبلوماسيين الأميركيين لدى الأمم المتحدة بجمع المعلومات الشخصية عن موظفي المنظمة الدولية.

وقال كراولي على صفحته بموقع «تويتر»: «مسؤولون رفيعو المستوى حول وزارة الخارجية (الأميركية) يتصلون بالدول ويحذرونها حول نشر الوثائق». وأضاف: «وزيرة الخارجية، كلينتون، تحدثت مع قادة من ألمانيا والسعودية والإمارات وبريطانيا وفرنسا وأفغانستان».

وأصبح وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، أول مسؤول أجنبي يناقش كلينتون، وجها لوجه، حول محتوى الوثائق المسربة. وعلى الرغم من أن كلينتون امتنعت عن التعليق على تسريب الوثائق عند التقاط الصور لها وهي تستقبل داود أوغلو في مقر وزارة الخارجية الأميركية، قال الوزير التركي: «هناك قضايا كثيرة على أجندتنا اليوم، بما فيها الوثائق المسربة». وأضاف: «أريد أن أعبر عن شكرنا بسبب المشاورات مسبقا»، في إشارة إلى المشاورات التي قام بها عدد من المسؤولين الأميركيين مع دول حليفة عدة منها تركيا وفرنسا لإطلاع حكوماتهم مسبقا على طبيعة الوثائق المسربة.

ومن بين الوثائق المسربة برقية من السفير الأميركي السابق لدى تركيا، جيمس جيفري، (الذي يمثل واشنطن في بغداد الآن)، يبلغ وزارة الخارجية الأميركية بأن الجيش التركي على استعداد للتدخل في الحكم في تركيا. وقال جيفري في البرقية إن «هناك حريقا وراء الدخان، فمن الواضح أن الجيش ينوي التدخل إذا اعتبر الأمر ضروريا في المسائل السياسية، ويمكنه الاستناد إلى دستور عام 1982 الذي يعطي الجيش دورا رئيسيا في الإشراف على التزام الحكومة الديمقراطية بمبادئ (مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال) أتاتورك».

وكان البيت الأبيض قد نشر بيانا صحافيا قبل ساعات من نشر الوثائق المسربة، قائلا إن هذه البرقيات «قد تهدد المحادثات الخاصة مع الحكومات الأجنبية وقادة المعارضة».

وقال الناطق باسم البيت الأبيض، روبرت غيبس: «هذه قضية أخذت الكثير من وقتنا خلال الأيام الماضية.. هذه التسريبات تشكل خطرا على مقدرتنا للقيام بأعمال السياسة الخارجية لدعم أمننا، ويحمي هؤلاء الذين يجرون نقاشات صريحة مع حكومات أجنبية». وهناك قلق أميركي من تداعيات هذه التسريبات على ثقة المسؤولين حول العالم بالحديث بصراحة مع دبلوماسييها في الفترة المقبلة. وبعد أن نشر «ويكيليكس» محادثات خاصة مع مسؤولين من دول مع السعودية والإمارات والبحرين حول الملف النووي الإيراني وضرورة اتخاذ واشنطن إجراءات أشد، منها بحث خطوات عسكرية، ضد إيران، هناك مخاوف من غضب عربي تجاه المسؤولين الأميركيين.

وفي تطور لاحق ذكر وزير العدل الأميركي إريك هولدر، أمس، أن تحقيقا جنائيا «جار» حول نشر موقع «ويكيليكس» آلاف الوثائق الأميركية السرية. وقال الوزير خلال مؤتمر صحافي حول الملكية الفكرية: «فتح تحقيق جنائي ولسنا في موقع الآن يسمح لنا بكشف أي نتائج لكن التحقيق جار». وذكر أن التحقيق جار بالتعاون مع البنتاغون. وقال هولدر: «الأمر لا يتعلق باستعراض قوة، بل بتحقيق جنائي يتحمل بموجبه كل شخص انتهك القانون الأميركي مسؤولية أفعاله».

وأوضح أنه إذا لم ينص القانون الأميركي على هذا النوع من الملاحقات «فإننا سنحرص على تسوية هذا الأمر». وأضاف: «لا يمكننا القول إن أي شخص لن يكون موضع تحقيق بسبب جنسيته أو مكان إقامته»، في إشارة إلى مؤسس موقع «ويكيليكس» الاسترالي، جوليان أسانج.

وتابع: «أدين، شأني في ذلك شأن أعضاء آخرين في الإدارة الأميركية، نشر» موقع «ويكيليكس»، أول من أمس، لـ251 ألف برقية دبلوماسية. وأوضح أن ذلك «يعرض أمننا القومي للخطر، وبالتحديد كل الذين يخدمون هذا البلد سواء كانوا دبلوماسيين أو مكلفين من الاستخبارات».

وتابع: «هذا الأمر يهدد العلاقات التي نقيمها مع حلفاء أساسيين في العالم». وعلى الرغم من أن المسؤولين الأميركيين حرصوا خلال الأيام الماضية بعد الاعتراف بصدقية الوثائق أو الإشارة إليها على أنها حقيقية، إلا أن رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «نيويورك تايمز»، بيل كيلر، أكد، أمس، أن «في محادثاتنا المطولة مع الحكومة الأميركية - في هذه الحالة وفي المرتين السابقة التي نشرت «ويكيليكس» فيها وثائق سرية - لم يشكك أي مسؤول في صدقية الوثائق أو اقترح أنه تم التلاعب فيها بأي شكل من الأشكال».