الصين مستعدة للتخلي عن كوريا الشمالية

الوثائق المسربة كشفت وجها آخر لبكين وأخفقت في التنبؤ بسياسات جونغ إيل المتقلبة

شريط أخبار يشير إلى وثيقة ويكيليكس حول الصين وكوريا الشمالية على مبنى وزارة الاتصالات الأميركية أمس (إ.ب.أ)
TT

في وقت تترنح فيه كوريا الشمالية تحت وطأة مصاعب اقتصادية وأزمة الخلافة على الحكم، شرع مسؤولون أميركيون وكوريون جنوبيون سرا في وقت مبكر من هذا العام في محاولة التكهن بما سيحدث في حال انهيار الشطر الكوري الشمالي الذي تقوده واحدة من أكثر العائلات الحاكمة وحشية في العالم.

خلال مأدبة غداء رسمية في أواخر فبراير (شباط)، تحدث دبلوماسي كوري جنوبي بثقة أمام السفيرة الأميركية كاثلين ستيفينز حول أن سقوط كوريا الشمالية سيقع في «غضون عامين أو ثلاثة» من وفاة كيم جونغ إيل، الزعيم الكوري الشمالي العليل، حسبما ذكرت ستيفينز لاحقا في برقية بعثت بها لواشنطن. وتوقع الدبلوماسي، ويدعى تشون يونغ وو، أن جيلا جديدا أصغر من القادة الصينيين «سيشعر بارتياح إزاء ظهور كوريا موحدة من جديد بقيادة سيول ومرتبطة بالولايات المتحدة في إطار تحالف لا يشكل خطرا».

غير أنه في حال هيمنة سيول على شبه الجزيرة الكورية بأكملها للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فسيتعين تهدئة مخاوف الصين، الحليف القوي الذي يبقي كوريا الشمالية على قيد الحياة عبر إمدادها بالغذاء والوقود. وعليه، عكفت كوريا الجنوبية بالفعل على وضع خطط لطمأنة الشركات الصينية بأنها ستتمتع بفرص تجارية كبيرة في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة الكورية الغني بالثروات المعدنية.

وذكرت برقية مسربة أنه بالنسبة للولايات المتحدة، فإن «من الواضح أن الصين لن ترحب بأي وجود عسكري أميركي شمال المنطقة منزوعة السلاح»، وهو خط التقسيم الفاصل الآن بين الكوريتين. وانتهت هذه المجموعة من البرقيات في فبراير الماضي، قبيل شروع كوريا الشمالية في سلسلة من الإجراءات العسكرية أثارت أزمة لدى بعض أكثر الدول الآسيوية رخاء. وبعد شهر من مأدبة الغداء سالفة الذكر، من المعتقد أن كوريا الشمالية شنت هجوما بطوربيد ضد «تشيونان»، وهي سفينة حربية كورية جنوبية، مما أسفر عن مقتل 46 بحارا. ومنذ 3 أسابيع ماضية، كشفت كوريا الشمالية النقاب عن وجود منشأة لتخصيب اليورانيوم، الأمر الذي ربما يوفر لها سبيلا جديدا لإنتاج مواد تدخل في صناعة قنبلة نووية. والأسبوع الماضي، أطلقت قذائف ضد جزيرة كورية جنوبية، مما أسفر عن مقتل اثنين من المدنيين ومثلهم من قوات البحرية، بجانب إصابة الكثيرين. والملاحظ أن أيا من ذلك لم تتوقعه عشرات البرقيات الصادرة عن وزارة الخارجية بخصوص كوريا الشمالية التي حصل عليها موقع «ويكيليكس»، بل وحتى الصين، أقرب حلفاء كوريا الشمالية، غالبا ما كانت تخطئ بشدة في تقديراتها، حسبما تشير البرقيات. ومع ذلك، تساعد هذه الوثائق في تفهم السبب وراء اشتباه بعض المسؤولين الكوريين الجنوبيين والأميركيين في أن النشاط العسكري الشمالي الأخير ربما يمثل الحشرجة الأخيرة لنظام ديكتاتوري يحتضر. وتكشف الوثائق أيضا أن الحديث حول انهيار كوريا الشمالية ربما يقوم على الأمل أكثر من ارتباطه بأي استراتيجية فعلية. يذكر أن تكهنات مشابهة ظهرت عام 1994 عندما وقعت الوفاة المفاجئة لمؤسس البلاد، كيم إيل سونغ، تاركا نجله لإدارة شؤون البلاد الأكثر عزلة في آسيا. وحذر خبير صيني، طبقا لما ذكره دبلوماسي أميركي، من أن واشنطن تخدع نفسها مجددا إذا اعتقدت أن «الأوضاع في كوريا الشمالية ستتفجر بعد وفاة كيم جونغ إيل».

والملاحظ أن البرقيات التي تتناول كوريا الشمالية ـ والتي ورد بعضها من سيول، والبعض الآخر من بكين، ويعتمد الكثير منها على مقابلات مع مسؤولين حكوميين، وأخرى مع علماء ومنشقين وخبراء آخرين ـ تضم الكثير من التكهنات والقليل من الحقائق، مما يوضح السبب وراء تسمية كوريا الشمالية «ثقب آسيا الأسود». ولأنها وثائق صادرة عن وزارة الخارجية، وليست تقارير استخباراتية، فإنها لا تتضمن أكثر التقديرات الأميركية سرية، أو الخطط العسكرية الأميركية للاستجابة في حال انهيار كوريا الشمالية أو شنها هجوما. وتتضمن البرقيات كلاما مرسلا وتكهنات واثقة حول نهاية الأسرة التي تحكم كوريا الشمالية منذ 65 عاما. وانطلقت هذه المناقشات نتيجة سلسلة من الانشقاقات التي كشف عنها من قبل في صفوف دبلوماسيين كوريين شماليين رفيعي المستوى، والذين سعوا سرا للحصول على اللجوء في الجنوب.

غير أن هذه البرقيات تأثرت بفترة من الفوضى عمت كوريا الشمالية، شملت وقوع أزمة اقتصادية جراء الجهود الحكومية الفاشلة لإعادة تقييم العملة وتقديرات استخباراتية سطحية لإمكانية رفض المؤسسة العسكرية الكورية الشمالية لصعود نجل كيم، كيم يونغ أون، الذي تمت ترقيته مؤخرا لرتبة جنرال يحمل 4 نجوم رغم افتقاره إلى أي خبرة عسكرية. وتكشف البرقيات عن أنه على الصعيد غير المعلن، يمد الصينيون، الذين ينظر إليهم منذ أمد بعيد باعتبارهم آخر حماة كوريا الشمالية من الغرب، إدارة أوباما من حين لآخر بتقديرات تنبض بالحياة للأوضاع في الشطر الكوري الشمالي، بل وفي بعض الأحيان يضحك المسؤولون الصينيون أنفسهم على الإحباطات المرتبطة بالتعامل مع جنون الارتياب الذي تبديه كوريا الشمالية.

عندما جلس جيمس بي. ستينبرغ، نائب وزيرة الخارجية الأميركية، في سبتمبر (أيلول) 2009 مع أحد أقوى المسؤولين الصينيين، داي بينغو، مستشار الدولة للشؤون الخارجية، مزح داي حول أنه خلال زيارة قام بها مؤخرا لكوريا الشمالية «لم يجرؤ» على التحلي بصراحة شديدة في حديثه مع الزعيم كوري الشمالي ذي الصحة المعتلة والشخصية المتقلبة. إلا أن المسؤول الصيني أشار إلى أنه رغم أنه من الواضح معاناة كيم يونغ إيل من سكتة دماغية وفقدانه وزنه، فإنه لا يزال يتمتع «بذهن متوقد» ويحتفظ بسمعته بين المسؤولين الصينيين باعتباره «شاربا شرها للخمر». (من الواضح أن كيم أكد لداي خلال محادثتهما التي دامت ساعتين في بيونغ يانغ، العاصمة، أن وهنه لم يجبره على الإقلاع عن الخمر). غير أن المعلومات الاستخباراتية الموثوق بها بخصوص عادات كيم في تناول الخمر لا تمتد إلى برنامجه النووي، الذي يبدو أن حتى الصينيين يجهلون تطوراته.

في 13 مايو (أيار) 2009، وبينما أظهرت أقمار صناعية أميركية نشاطات غير عادية بموقع نووي كوري شمالي، اعترف مسؤولون في بكين بأنهم «على غير ثقة» مما إذا كانت كوريا الشمالية «جادة في تهديداتها بإجراء اختبار نووي جديد». وبعد ذلك بأيام، أجرى الكوريون الشماليون اختبارا نوويا. بعد ذلك بفترة قصيرة، توقع مسؤولون صينيون أن المفاوضات الجارية للضغط على كوريا الشمالية لنزع تسليحها «سيجري تجميدها لبضعة شهور». ولم تستأنف هذه المفاوضات قط. وتكشف البرقيات أنه تقريبا بمجرد تولي إدارة أوباما مقاليد السلطة، شرعت في دق أجراس الخطر حول أن كوريا الشمالية تشتري عناصر لتخصيب اليورانيوم وتفتح طريقا ثانيا لبناء أسلحة نووية. (حتى الآن، اعتمدت الترسانة الكورية الشمالية على إنتاج البلوتونيوم، لكن قدرتها الإنتاجية له تعطلت).

في يونيو (حزيران) 2009، خلال مأدبة غداء في بكين بعد الاختبار النووي بفترة قصيرة، ذكر اثنان من كبار مسؤولي الخارجية الصينية أن خبراء صينيين يعتقدون أن «عملية التخصيب لا تزال في مراحلها الأولى». في الواقع، بناء على ما كشفه الكوريون الشماليون هذا الشهر، فإن منشأة تخصيب يورانيوم على مستوى صناعي كان يجري بناؤها بالفعل. والواضح أن الاستخبارات الأميركية والصينية لم تدرك ذلك.

وتوضح البرقيات اعتقاد الكوريين الجنوبيين بأن التوترات الداخلية بكوريا الشمالية لم تصل لنقطة الغليان. ففي يناير (كانون الثاني) هذا العام، أخبر وزير الخارجية الجنوبي، الذي استقال لاحقا، مسؤولا أميركيا كان في زيارة لبلاده أن الكوريين الجنوبيين يرون أوضاعا «فوضوية على نحو متزايد» في الشمال. وأضاف أمام المسؤول الأميركي، روبرت آر. كينغ، المبعوث الخاص للإدارة لشؤون حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، بثقة أن عددا من «كبار مسؤولي كوريا الشمالية العاملين بالخارج» انشقوا مؤخرا إلى الجنوب. وقد فرضت السرية على عمليات الانشقاق تلك لمنح الاستخبارات الأميركية والكورية الجنوبية وقتا كافيا للحصول على معلومات من المنشقين.

وتكشف البرقيات أيضا أن الكوريين الجنوبيين ينظرون لمصالحهم الاستراتيجية باعتبارها في تعارض مباشر مع الأخرى الصينية، مما قد يخلق توترات دبلوماسية كبرى حول مستقبل شبه الجزيرة الكورية. ويشكو الكوريون الجنوبيون بمرارة من أن بكين راضية عن الوضع القائم المتمثل في وجود كوريا شمالية نووية، لأنها تخشى أن يسفر انهيار الأخيرة عن تدفق سيل من اللاجئين الكوريين الشماليين عبر الحدود الصينية وفقدان «منطقة عازلة» بين الصين والقوات الأميركية بكوريا الجنوبية.

وفي إحدى البرقيات لواشنطن، أشارت السفيرة ستيفينز إلى أن مسؤولا كوريا جنوبيا رفيع المستوى أخبرها أنه «إذا لم تدفع الصين كوريا الشمالية لحافة الانهيار» فسيبقى الشمال رافضا اتخاذ أي خطوات حقيقية باتجاه التخلي عن برنامجه النووي. واشتكى تشون، الذي يعمل حاليا مستشار كوريا الجنوبية للأمن القومي، للسفيرة ستيفينز خلال مأدبة غداء جمعتهما من أن الصين لا تبدي التزاما كبيرا للمحادثات متعددة الأطراف الرامية لإجبار كوريا الشمالية على تفكيك ترسانتها النووية. وقال إن الصينيين اختاروا وو داوي لتمثيل بكين في المحادثات. وطبقا لما ورد بالبرقية، وصف تشون وو بأنه «أكثر مسؤولي البلاد افتقارا إلى الكفاءة»، وبأنه متغطرس وهو عضو سابق بـ«الحرس الأحمر» ومتأثر بشدة بآراء ماركس و«لا يدري شيئا عن كوريا الشمالية ولا عن جهود منع الانتشار النووي».

وتوضح البرقيات أنه فيما يتعلق بقضية خلافة الحكم بكوريا الشمالية، فإنه حتى الصينيين لا يعرفون سوى القليل عن قائد كوريا الشمالية المقبل: كيم يونغ أون. وفي فبراير 2009، بعثت القنصلية الأميركية في شنغهاي ـ وهي نقطة تجميع مهمة للاستخبارات حول كوريا الشمالية ـ ببرقيات حول أن الصينيين أصحاب الخبرة في الشأن الكوري الشمالي لا يصدقون الشائعات حول أن كيم يونغ أون يجري إعداده لإدارة البلاد. وأعرب الكثير من الخبراء الصينيين ممن يتمتعون بصلات جيدة مع كوريا الشمالية عن اعتقادهم أنه من المحتمل أن «تتولى مجموعة من كبار المسؤولين العسكريين» إدارة البلاد، وأنه «في الوقت الراهن على الأقل، من غير المحتمل أن يرشح أي من أبناء كيم يونغ إيل الثلاثة لخلافته». واستبعدوا النجل الأكبر باعتباره «منغمسا في الملذات على نحو مفرط»، أما النجل الأوسط فيبدي «اهتماما أكبر بألعاب الفيديو» عن الحكم، بينما كيم يونغ أون «فهو شديد الصغر ويفتقد الخبرة». غير أنه في غضون شهور، أخبر دبلوماسي صيني رفيع المستوى، وو جيانهاو، نظراءه الأميركيين بأن كيم يونغ إيل يستغل الاختبارات النووية وإطلاق الصواريخ كجزء من جهوده لتصعيد نجله الأصغر لخلافته، رغم صغر سنه. وذكرت برقية من السفارة لواشنطن بتاريخ يونيو 2009 أن «وو أعرب عن اعتقاده بأن الوتيرة السريعة للأعمال الاستفزازية لكوريا الشمالية تأتي نتيجة اعتلال صحة كيم يونغ إيل وربما كانت جزءا من مقامرة سيعمد في إطارها كيم يونغ إيل لتصعيد التوترات مع الولايات المتحدة بحيث يتمكن خليفته، من المفترض أنه كيم يونغ أون، من التدخل وتهدئة التوترات». غير أن تنفيذ خطط لتحقيق عملية انتقال يسير للسلطة ربما يكون أصعب مما كان متوقعا، حسبما رأى البعض. في فبراير من هذا العام، أشارت القنصلية الأميركية في شينيانغ إلى شائعات حول أن لكيم يونغ أون «يدا» في قرار إعادة تقييم عملة كوريا الشمالية الذي قضى على المدخرات الشحيحة لدى غالبية الكوريين الشماليين وأثار موجة احتجاج عنيفة دفعت بالسلطات لإعدام أحد المسؤولين لدوره في التحول المالي المفاجئ. كما تصف البرقية تقارير غير مباشرة حول وجود مؤامرات في كوريا الشمالية داخل الحاشية المحيطة بالقائد، مع استعداد أعضاء آخرين بأسرة كيم للعمل كأوصياء على كيم يونغ أون، أو الإطاحة به بعد وفاة كيم يونغ إيل.

(شارك في التقرير من نيويورك أندرو دبليو. ليهرين)

* خدمة «نيويورك تايمز»