هولبروك.. دبلوماسي لامع طرح اسمه مرة لنوبل ومرتين لوزارة الخارجية

مسيرة حافلة بين دبلوماسية إنهاء الحروب و«وول ستريت»

هولبروك يدلي بإفادة أمام لجنة تابعة لمجلس النواب الأميركي في 28 يوليو (تموز) 2010 (أ.ب)
TT

الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هولبروك، الذي توفي في الولايات المتحدة مساء أول من أمس، كان مبعوث إدارة أوباما إلى أفغانستان وباكستان، وهو معروف بأنه صانع اتفاق دايتون للسلام الذي وضع حدا لحرب البوسنة عام 1995. وكان لافتا أن اسم هولبروك، (69 عاما)، الملقب «كيسنجر البلقان»، طرح مرة لنيل جائزة نوبل للسلام عقب نجاحه في إحلال السلام في البلقان، لكنه لم يحظ بالجائزة المرموقة، ومرتين لشغل منصب وزير الخارجية الأميركي، إحداهما في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون (وراح المنصب في الأخير لمادلين أولبرايت) ثم في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما (وراح المنصب في الأخير لهيلاري كلينتون). وقبل وفاته بأسبوع، انتقد هولبروك تسريب وثائق الخارجية الأميركية عن طريق موقع «ويكيليكس» التي تنتقد التدخل الأميركي في باكستان وأفغانستان وغيرهما. لكن هولبروك لم ينتقد ما حدث قبل أكثر من أربعين سنة عندما سربت صحف أميركية تقرير البنتاغون عن حرب فيتنام، وكان هو من الذين كتبوه. ولد هولبروك في سنة 1941، في نيويورك، لعائلة يهودية تخلت عن اليهودية. وفي وقت لاحق، قالت والدته: «كنت ملحدة، وكان زوجي ملحدا. لهذا، لم نرب ريتشارد تربية يهودية». ولهذا، كانوا يأخذونه إلى اجتماعات طائفة «كويكر» التي تروج لتقديس كل شخص لنفسه. وربما لهذا، تربي هولبروك مناكفا، أو على الأقل، متمردا. وفي صغره، واجه هولبروك مشكلتين: دينه الحقيقي.

وثانيا اسمه الحقيقي. وذلك لأن والده اليهودي الذي هاجر من روسيا، غير اسمه إلى هولبروك عندما وصل إلى ميناء نيويورك. وقد فعل ذلك بعد أن هرب من بولندا عندما أعلنت ألمانيا الهتلرية نية التوسع شرقا (في وقت لاحق، بعد هجرة العائلة، احتلت ألمانيا بولندا). كان الابن يريد الاسم اليهودي، غير أن والده رفض حتى أن يقوله له. ورفضت والدته أن تسمح له بأن يتبنى اسم عائلتها. وبينما هربت عائلة الوالد من بولندا، هربت عائلة الوالدة من ألمانيا (أيضا قبيل زيادة قوة هتلر) إلى الأرجنتين. ومن هناك إلى نيويورك. حيث تقابلا وتزوجا. درس الابن وحصل على شهادة البكالوريوس في جامعة براون، ثم الماجستير في جامعة برنستون.

ويذكر زملاؤه أنه كان «مناكفا». غير أن أغلبيتهم استعمل أوصافا مثل «يتمتع باستقلالية في الرأي» و«لونلي رينجر» (انعزالي). لكن، كان حبه للسياسة واضحا منذ أن كان في مدرسة سكارديل الثانوية في نيويورك. وهو في جامعة براون، أيد وأحب الرئيس الأسبق جون كيندي، وخاصة حماس آل كنيدي للعمل السياسي، ودعوتهم للجيل الجديد لينخرط في السياسة ويغير أميركا والعالم. وبعد جامعة براون، التحق هولبروك بوزارة الخارجية. ولهذا، يمكن القول إنه ظل دبلوماسيا منذ سنة 1962، لقرابة خمسين سنة تقريبا، غير سنوات قليلة. (درس في برنستون وهو دبلوماسي). في ذلك الوقت، كانت حرب فيتنام في بدايتها. وكان كيندي أرسل «مستشارين عسكريين» إلى فيتنام الجنوبية لمساعدة حكومتها في مواجهة فيتنام الشمالية الشيوعية، التي كانت تدعم ثوار «فيات كونغ» الشيوعيين الذين، بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات، انتصروا على فيتنام الجنوبية، وضموها إلى الوطن الأم. في سنة 1968، كان هولبروك في رئاسة البنتاغون عندما اشترك في كتابة ما صار يعرف باسم «أوراق البنتاغون». كانت تقييما سلبيا للتدخل الأميركي في حرب فيتنام. وسربها الأستاذ الجامعي دانيال ألسبيرغ، الذي كان يعمل مستشارا في البنتاغون، مع هولبروك. لكن هولبروك انتقد أستاذه الذي سرب الأوراق. ودافع كثيرا عن التدخل الأميركي في فيتنام، على الرغم من أنه، في وقت لاحق، غير رأيه. وعلى أي حال، ساعد كشف الوثيقة على إطلاع الشعب الأميركي على مزيد من أسرار الحرب، وعلى زيادة معارضة الحرب (انسحب آخر جندي أميركي من فيتنام سنة 1975). تنقل هولبروك دبلوماسيا في دول كثيرة، غير فيتنام، منها المغرب وروسيا وألمانيا وبلجيكا. وخلال تلك السنوات تعلم السياسة الخارجية من عمالقتها مثل: أفريل هاريمان، وسايروس فانس، ودين راسك، وفيليب حبيب. وفي عهد الرئيس الأسبق كلينتون، صار سفيرا لدى ألمانيا (بعد أن اتحدت). ثم عاد إلى واشنطن، مساعدا لوزير الخارجية للشؤون الأوروبية. وعندما سقطت الدولة اليوغوسلافية وتفككت، قام بزيارات كثيرة إلى هناك. وعندما توتر الوضع، وبدأت حروب بين الجمهوريات اليوغوسلافية، اختاره كلينتون مبعوثا له إلى هناك. وتركزت مهمته في وقف حرب البوسنة بين الأغلبية المسلمة والأقليتين الصربية والكراوتية. وفي سنة 1997، قدم إنذارا إلى الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش بأن حلف الناتو سيبدأ القصف لوقف تدخل الصرب في البوسنة. وفي سنة 1998، دعا الأطراف إلى مؤتمر في دايتون (ولاية أوهايو)، حيث تم الاتفاق على وقف الحرب، وسط تراجع واضح من ميلوشيفتيش. وفي ذلك الوقت، رشحه مراقبون لجائزة نوبل للسلام، لكن منافسين له في وزارة الخارجية لم يتحمسوا. وذلك لأنه، خلال سنوات الوساطة في البوسنة، خلق أعداء كثيرين داخل الوزارة، وكان يقول: «عندي تليفون الرئيس»، كلما حدثت مواجهات. وعندما كان مساعدا لوزير الخارجية، كانت علاقته مع الرئيس كلينتون قد قويت. وكان يتوقع أن يخلف وزير الخارجية وارين كرستوفر. لكن، كلينتون اختار مادلين أولبرايت. وبعد نهاية وساطته في البوسنة، اختاره كلينتون سفيرا لدى الأمم المتحدة. وبعد الأمم المتحدة، عمل في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك). وكان عمل هناك لفترات قليلة بين وظائفه الدبلوماسية. ثم كتب كتاب «نهاية حرب» عن وساطته في حرب البوسنة. ثم عمل في مشاريع دولية لمحاربة مرض الإيدز، ومساعدة الدول الفقيرة. وفي سنة 2007، عندما قال السيناتور باراك أوباما إنه سيترشح لرئاسة الجمهورية، كان من بين مستشاريه. واستمر مستشارا له خلال الحملة الانتخابية، ورشح ليكون وزيرا للخارجية، ويحقق حلم عمره. لكن، بسبب اعتبارات سياسية، وصفقة في آخر لحظة بين أوباما ومنافسته هيلاري كلينتون، صارت هيلاري وزيرة.

ومن المفارقات أن الرئيس كلينتون، صديق هولبروك، والذي كان وعده بوزارة الخارجية قبل ذلك بعشر سنوات، وقف إلى جانب زوجته، وحرم هولبروك، مرة أخرى، من المنصب. ومثلما حاول كلينتون ترضيته واختاره سفيرا لدى الأمم المتحدة، حاول أوباما ترضيته واختاره مبعوثا إلى باكستان وأفغانستان. غير أن وثائق «ويكيليكس» كشفت ما كان يقال عن هولبروك. وهو أنه مناكف، وبسبب مناكفاته، أغضب قادة في باكستان وأفغانستان، وأكثر من ذلك، أغضب السفير الأميركي لدى أفغانستان، والسفيرة الأميركية لدى باكستان، والجنرالات الأميركيين. تزوج هولبروك ثلاث مرات. آخر زوجاته هي كاتي مارتون، صحافية. كانت زوجة بيتر جننغز، نجم تلفزيون «إي بي سي»، حتى تطلقا سنة 1993، وسط إشاعات علاقة جنسية بين هولبروك والزوجة. وأشارت الإشاعات إلى شخصية المذيع المتناقضة تماما لشخصية هولبروك، بأنه هادئ جدا. وتندر الناس وقتها بأن هولبروك كسب كاتي بعد «مواجهة» فاز فيها المناكف على الهادئ.