الجياد تموت كمدا في آيرلندا

الآلاف منها يتخلى عنها أصحابها لعجزهم عن إطعامها أو إعالتها

خيول تخلى عنها أصحابها في منطقة دنسنك على أطراف العاصمة الآيرلندية (نيويورك تايمز)
TT

في هذه البلاد ذات المساحات الخضراء المزدهرة، التي تشتهر بعشقها للجياد ومحاولاتها تربية سلالات منها تعينها على غزو سباقات الجياد العالمية، تبدو منطقة دنسنك على أطراف العاصمة الآيرلندية مكانا يدمي القلب. ففي منطقة وحلة ممتدة لمئات الأفدنة وفي خضم شتاء قارس يعد الأقسى من نوعه منذ سنوات كثيرة، تجوب المنطقة عشرات الآلاف من الجياد التي هجرها أصحابها في خضم الكابوس المالي الذي تعيشه البلاد. على بعد أميال قليلة من قلب دبلن، تقع هذه المنطقة التي كانت بها من قبل حفرة ضخمة تستخدم للتخلص من النفايات، لكن تغطيها الآن طبقة رقيقة من العشب. وتعد المنطقة الآن نهاية المطاف أمام الجياد، المكان الذي ينتظرها فيه الموت بسبب الظروف المناخية والجوع والأمراض والإصابات.

بجانب طريق للنقل السريع، على أحد أطراف المنطقة، توجد أكوام صغيرة من الوحل تشير إلى قبور الجياد الأضعف التي ارتاحت من معاناتها على أيدي المفتشين المعنيين برفاهية الحيوانات عبر إطلاق أعيرة نارية على رؤوسها. في السماء، تحلق طائرات منطلقة من مطار دبلن الدولي، الذي اكتسب مبنى لامعا جديدا يتوافق مع تزايد الأبراج المصنوعة من الصلب والزجاج في العاصمة المقامة لخدمة سيل الاستثمارات الذي تدفق على البلاد خلال سنوات الازدهار.

بدأت معاناة الجياد في آيرلندا منذ أكثر من عامين، عندما انهارت سوق العقارات. وكان هذا بمثابة مؤشر مظلم على بداية الطريق الذي أفضى بالبلاد إلى الأزمة التي عصفت بها هذا الشهر، عندما قبلت آيرلندا حزمة إعانات مالية دولية بقيمة 90 مليار دولار، وتعهدت في المقابل بإقرار أقسى إجراءات التقشف على مستوى أوروبا.

تشير تقديرات اقتصادية إلى أن تقليص الإنفاق وزيادة الضرائب بقيمة 20 مليار دولار على مدار السنوات الأربع المقبلة مثلما وعدت حكومة بريان كوين، رئيس الوزراء، ستسفر عن تقليص الدخول المتاحة للطبقة الوسطى الآيرلندية، وتخلق مزيدا من المصاعب أمام الكثير من الفقراء. وسيتضرر الآيرلنديون بتقليص الإعانات الاجتماعية، وخسارة وظائف في القطاع العام والتقليص الحاد للحد الأدنى للأجور، بجانب انحسار اقتصادي أوسع نطاقا، علاوة على انكماش الاقتصاد بالفعل بنسبة 15% منذ عام 2008، في حال إخفاق إجراءات الطوارئ في استعادة النمو الاقتصادي.

إلا أن الجياد التي تشكل جزءا راسخا من الثقافة الآيرلندية تتكبد هي الأخرى الثمن. فعلى مدار سنوات، أبدى الآيرلنديون ولعا بتربية الجياد، ومنهم من كان يرغب في المشاركة بها في سباقات، بينما رغب آخرون في الاحتفاظ بها لأغراض ترفيهية، مثل الصيد ومناسبات تتعلق بالفروسية، وفريق ثالث ينظر إلى امتلاك الجياد كدليل على الثراء، تماما مثلما يجد آخرون سعادة في امتلاك سيارات فارهة.

ولا تتوافر إحصاءات دقيقة حول عدد الجياد التي هجرها أصحابها. يذكر أن القانون الآيرلندي يلزم الجميع بتسجيل الحيوانات التي يملكونها، وأن يجري إلصاق شرائح إلكترونية بالغة الصغر بها لتحديد هويتها. ويحتفظ الكثير من الآيرلنديين بالحيوانات في حدائقهم أو مناطق محاطة بأسوار أو في أراض عامة مثل دنسنك.

ومع حدوث انحسار اقتصادي، وجد كثيرون أنفسهم عاجزين عن إطعام أو إعالة حيواناتهم، حيث كانت التكاليف تصل إلى 40 دولارا يوميا أو أكثر. وعليه، اضطروا إلى التخلي عنها وتركها تطوف بلا هدى حول مناطق البناء وعبر المدن والقرى وعلى امتداد الطرق في المناطق الريفية. من جهته، وضع جو كولينز، رئيس «المجلس البيطري الآيرلندي»، واحدا من التقديرات الشائعة تشير إلى وجود ما بين 10000 و20000 «حصان فائض عن الحاجة» في البلاد. إلا أن تيد والش، أحد أبرز الخبراء المعنيين بالجياد في البلاد، ووالد أحد أشهر الفرسان الآيرلنديين، روبي والش، أعلن أن العدد قد يصل إلى 100000.

ومن بين السبل الأخرى لتقدير حجم المشكلة زيارة دنسنك. ويذكر التاريخ المكان باعتباره مقر أحد أشهر المراصد الفلكية الأوروبية، الذي أقيم عام 1785. وفي عصور لاحقة، تحول المكان إلى نقطة التقاء لتجار المخدرات ولصوص السيارات واليائسين الذين قدموا إلى المكان للانتحار شنقا. ويتعزز المناخ العام المظلم للمكان بمنظر مواسير خرسانية متفرقة في أرجائه تسحب غاز الميثان من أكوام من القمامة المتحللة بباطن الأرض.

إلا أن دنسنك اشتهرت أيضا بكونها مكانا مخصصا لرعي الجياد لمن لا يملكون إسطبلات أو أرضي خاصة بهم كي تطوف بها حيواناتهم. وكانوا يطلقون حيواناتهم في دنسنك، ثم يعودون لاستعادتها لاحقا. وبالنسبة لبعض ملاك الحيوانات، لم يتبدل هذا الحال. ولا تزال دنسنك بالنسبة لهم مكانا يوفر فرصة جيدة مجانية لرعي حيواناتهم. إلا أنه بالنسبة لآخرين، أصبح المكان مثاليا للتخلي عن جيادهم التي لم يعودوا قادرين على إعالتها.

والملاحظ أنه ليس من اليسير التمييز بين الأنماط المتنوعة من مالكي الجياد، مثلما اتضح خلال مقابلة مع توماس بويد، أحد الأشخاص القلائل، بخلاف المفتشين، الذين جاءوا إلى دنسنك مساء أحد الأيام الماضية حيث سادت برودة شديدة. كان بويد (33 عاما)، قد أطلق سراحه مؤخرا من سجن ماونتيوي في دبلن بعد إدانته بما وصفه بـ«جرائم تتعلق بالقانون والنظام»، بجانب معاناته من مشكلات ترتبط بتناول الكحوليات وتعاطي المخدرات. وقدم بويد للمنطقة برفقة حصان له.

كانت القصة التي رواها عن نفسه مليئة بالثغرات، وربما اختلقها لتبدو مناسبة أمام المفتش توني مكغفرن، من «جمعية دبلن لمنع القسوة ضد الحيوانات». وحسب رواية بويد، فإنه قدم إلى دنسنك بصحبة جواده البالغ 3 أعوام لتوفير «تغذية أفضل» له عما يتوافر في الإسطبلات القريبة من منزله بضاحية فينغلاس، الخاصة بالطبقة العاملة. وقال إنه سيترك حصانه لأسبوعين، ثم يعود لاستعادته.

واحتج مكغفرن بالقول إن المنطقة ليس بها سوى قليل من العشب. وعلى أي حال، رحل بويد، وأطلق حصانه في جزء من المنطقة ظنا منه أن المفتش لن يراه، وسعى إلى اصطياد حصانين قزمين. ولاحقا، برر بويد ذلك برغبته في الحصول على الحصانين القزمين من أجل أطفاله، لكن مكغفرن أعرب عن اعتقاده بأن بويد كان يرمي إلى هجر حصانه، بينما أمل في اصطياد الحصانين الصغيرين لبيعهما في سوق سميثفيلد للجياد، التي تعقد شهريا في منطقة ريفر ليفي بدبلن، ولا تخضع لمستوى مناسب من التنظيم. وفي هذه السوق، كان يجري بيع الجياد بأسعار زهيدة تصل إلى 15 دولارا، بعضها يباع بغرض الاحتفاظ بها كحيوانات أليفة، وأخرى لذبحها.

من ناحيتها، قلصت «جمعية رفاهية الحيوانات»، بمقر رئاستها في دبلن، ميزانيتها لإعالة الجياد إلى 500000 دولار فقط. وتوحي الإحصاءات الصادرة عنها بأن المشكلة تتفاقم. وفي عام 2008، ضمت لرعايتها 26 حصانا مريضا أو مصابا. ثم في عام 2009، ارتفع العدد إلى 106. وحتى الآن، بلغ العدد 115. وصباح أحد الأيام القريبة، قام طبيبان بيطريان أميركيان، هما: جودي ماغويتز، وكاتي ميليك، ويعملان كمتطوعين لدى الجمعية، بالعمل بجد لإنقاذ حصان قزم أسود يدعى نبليون، عثرا عليه منهارا في أحد الحقول التابعة للجمعية. وبحلول المساء، تقرر أنه بات من المتعذر مساعدته وأطلق النار عليه لينضم إلى عشرات الجياد الأخرى التي جاء نقلها لرعاية الجمعية متأخرا للغاية على نحو لم يسمح بإنقاذها.

* خدمة «نيويورك تايمز»