«ويكيليكس».. تسونامي عام 2010

في التاريخ تسريبات بعضها غيرت العالم.. ولكن هل يكون للـ«كيبل غيت» الأثر نفسه؟

TT

عادة تبقي الحكومات وثائقها السرية محفوظة في الأدراج لعقود طويلة قبل أن تقرر نشرها للعلن. ولكن الأشهر الماضية شهدت دورة مختلفة. وجدنا فجأة بين أيدينا – أو أمام شاشات الكومبيوتر - مئات الآلاف من الوثائق الأميركية السرية، عسكرية ودبلوماسية، تم تسريبها إلى موقع «ويكيليكس» الذي نشرها، ولا يزال يحمّل ما لم ينشر منها بعد على موقعه، وأعطى نسخا مسبقة منها لعدد محدود من الصحف المؤثرة حول العالم.

المؤرخون والأكاديميون شعروا بالنشوة لأنهم سيتمكنون من الاطلاع على أسرار الحكومات التي تتعلق بأحداث جارية، ولم يمض على حدوثها عدة عقود. السياسيون والدبلوماسيون شعروا بالغضب لاغتصاب خصوصياتهم والتداول علنا بما أفضوا به سرا.

وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يشهد فيها العالم تسريبات وثائق سرية، بعضها حتى في السابق غير وجهة العالم، فإنها كانت المرة الأولى التي يُسرب فيها هذا الكم الهائل من الوثائق (340 ألف وثيقة عسكرية ودبلوماسية) بطريقة صدمت الدول وأربكت الدولة العظمى.

ولكن الواقع أن ما تغير هذه المرة أمران؛ الأول وصول التكنولوجيا. والثاني تحول الولايات المتحدة إلى «دولة فائقة السرية» كما سمتها صحيفة الـ«واشنطن بوست»، توسعت بعد 11 سبتمبر (أيلول) لدرجة لم تعد قادرة على السيطرة على معلوماتها، أو حمايتها. فقد كشفت الصحيفة في تحقيق أجرته في يوليو (تموز) الماضي، تحت عنوان «أميركا فائقة السرية»، أن هناك نحو 854 ألف شخص، أي ما يعادل مرة ونصف المرة سكان العاصمة واشنطن، يحملون تصاريح للولوج إلى وثائق «فائقة السرية». كما كشفت عن أن أكثر من 16 مليون وثيقة حكومية سنويا، تحمل ختم «سري جدا».

وفي التاريخ، كانت هناك عدة تجارب تسريبات، بعضها ترك أثرا كبيرا في العالم. فهناك مثلا برقية زيمرمان التي لعبت دورا كبيرا في دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، ورجحت كفة الحلفاء في الحرب. وتضمنت البرقية التي أرسلها وزير الخارجية الألماني آنذاك أرتور زيمرمان إلى نظيره في المكسيك في عام 1917، دعوة لمكسيكو لدخول الحرب إلى جانب ألمانيا، مقابل وعد بمساعدتها على توسيع أراضيها. ولكن البريطانيين اعترضوا البرقية وتمكنوا من فك رموزها. وتسبب نشر محتوى البرقية في الصحف الأميركية في الأول من مارس (آذار) 1917 بغضب شعبي كبير أسهم في دفع الولايات المتحدة، التي كانت تتجنب التورط في أوروبا حتى ذلك الحين، إلى إعلان الحرب ضد ألمانيا وحلفائها في 6 أبريل (نيسان) من العام نفسه.

ومن الأمثلة الأقرب، ما يعرف بـ«أرشيف ميتروخين»، الذي كشف عن العمليات السرية للـ«كي جي بي» (وكالة الاستخبارات في الاتحاد السوفياتي السابق)، حول العالم، وكان الكثير منها معد ضد الولايات المتحدة. و«أرشيف ميروخين» هو مجموعة من الملاحظات السرية كتبها المايجور في الـ«كي جي بي» فاسيلي ميتروخين خلال سنوات خدمته الثلاثين كموثّق للـ«كي جي بي». ونشرت الملاحظات في كتابين في العامين 1992 و2005 في بريطانيا عندما انشق ميتروخين عن الاتحاد السوفياتي وقدم إلى لندن.

وفي عام 1999، قال جاك سترو، وزير الداخلية البريطاني آنذاك، في كلمة أمام البرلمان: «في عام 1992، بعد أن لجأ ميتروخين لبريطانيا للمساعدة، أتمت وكالات الاستخبارات التابعة الإجراءات اللازمة لجلب ميتروخين وعائلته إلى هذا البلد، مع أرشيفه.. ونتيجة لذلك، تمكنت مخابراتنا بالتعاون مع الحكومات الحليفة، من وضع حد للكثير من التهديدات الأمنية»، وأضاف: «تم إغلاق الكثير من التحقيقات التي لم تكن محلولة، وتم أيضا تبرئة أسماء وسمعات بعض الأشخاص. قيمت وكالات الاستخبارات التابعة لنا قيمة مادة السيد ميتروخين على أنها ذات أهمية ضخمة على الصعيد العالمي».

إلا أن تسريبات ما بات يعرف بـ«وثائق البنتاغون» التي سربها الجندي ومحلل المعلومات دانيال ألسبيرغ في عام 1971، قد تكون الأكثر تشابها مع تجربة «ويكيليكس» اليوم. ولكن بين التجربتين، تغير الكثير.

حينها لم تكن المعلومات تحفظ إلكترونيا، بل على الورق. وكانت التحدي الذي رسمه ألسبيرغ لنفسه أصعب وأكثر خطورة، فكان يعمل خلال النهار في مؤسسة «راند» على تحليل المعلومات العسكرية الواردة حول حرب فيتنام، وفي الليل يبدأ عملية تصوير المستندات على الآلة الناسخة. نسخ في عام 1969 ما يصل إلى 7 آلاف وثيقة حول الحرب. واستغرق منه ذلك أشهرا طويلة. هدفه كان إيقاف حرب فيتنام. والوثائق التي سربها تظهر الأكاذيب التي حاكها أربعة رؤساء تعاقبوا على السلطة خلال حرب فيتنام، لإقناع الأميركيين بالحرب. قال ألسبيرغ لاحقا للصحافة عن سبب تسريبها: «شعرت كمواطن أميركي لديه مسؤوليات، أنه لم يعد بإمكاني أن أتعاون لإخفاء هذه المعلومات عن الشعب الأميركي».

عندما بدأ عملية تسليم الوثائق لمن يساعده على وقف الحرب، كان التحدي أصعب. كان عليه أن يحملها في صناديق كثيرة، ويجتمع بالمتلقين في أماكن سرية لتسليمهم الوثاق، بشكل يعرّض نفسه والمتلقي للخطر. أعطى نسخا في البداية في عام 1969 لأعضاء في الكونغرس، ولكن هؤلاء ناموا عليها ولم يطرحها أحد منهم للنقاش. ثم في مارس (آذار) من عام 1971، عندما يئس من انتظارهم، سرب نسخة أخرى لصحيفة «نيويورك تايمز». غرقت الصحيفة في أشهر من النقاش حول قانونية وجدوى نشر الوثائق، وقررت في النهاية النشر في يونيو (حزيران) من العام نفسه. إلا أنها جوبهت بعد أيام قليلة بأمر قضائي أصدره المدعي العام بناء على طلب الرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك، لوقف النشر. فما كان من ألسبيرغ إلا أن سرب نسخة أخرى إلى «واشنطن بوست» التي نشرت قصة واحدة قبل أن يصلها أمر قضائي مشابه من المدعي العام.

ولكن ألسبيرغ بقي مصرا على إكمال ما بدأه، وسرب نسخا لـ15 صحيفة أخرى نشرتها، في وقت كانت «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» تستأنفان قرار منع النشر لدى المحكمة العليا. وحكمت المحكمة في النهاية لصالح الصحافة، استنادا إلى المادة الأولى من الدستور الأميركي الذي يحمي حرية التعبير والنشر.

وتحقق لألسبيرغ ما أراد. فقد شكلت الوثائق بداية لانقلاب الرأي العام ضد الإدارة الأميركية ودفعتها إلى إنهاء حرب استمرت لنحو عقدين من الزمن، قتل فيها ما يقارب الـ60 ألف جندي أميركي، ومئات الآلاف، بعض التقديرات تصل إلى 3 ملايين، من الجنود والمدنيين الفيتناميين.

ثمة ما يجمع بين أليسبرغ وجوليان أسانج، مؤسس «ويكيليكس»، أو رئيس تحريرها كما يحب هو أن يطلق على نفسه. ولكنّ ثمة فروقا كبيرة بينهما أيضا. عندما التقى الرجلان في لندن قبل بضعة أشهر، بعد نشر «ويكيليكس» وثائق حرب العراق وأفغانستان التي يصل عددها إلى نحو 90 ألف وثيقة، قال ألسبيرغ خلال اللقاء في نادري «فرونتلاين»: «انتظرت 40 عاما لكي يسرب أحدهم وثائق بحجم التي سربتها أنا».

ما يجمعهما، أنهما أرادا أن يغيرا شيئا. ألسبيرغ أراد أن ينهي حرب فيتنام، وقد تحقق له ذلك. وأسانج يقول إنه يريد أن يكشف الحقائق ويسلط الضوء على الانتهاكات لكي يمنع حدوثها في المستقبل، ويريد أن يحث الدول على الشفافية واعتماد المصداقية مع شعوبها.

ولكن عدا ذلك، فإن تجربة الرجلين مختلفة في الكثير من النواحي. فـ«ويكيليكس» تلقت المعلومات إلكترونيا، وليس في نسخ ورقية. وهذا ما سمح بنقل هذا الكم الهائل من الوثائق. وبدلا من أن يلجا أسانج إلى توزيع الوثائق المسربة في صناديق وفي لقاءات سرية، كما فعل ألسبيرغ، لم يكن عليه إلا أن ينقلها على أقراص مدمجة أو وحدات ذاكرة محمولة (يو إس بي)، ويرسلها عبر البريد الإلكتروني بضربة واحدة لمن يشاء، أو يحملها على موقع «ويكيليكس» ليجعلها متاحة لمن يريد الاطلاع عليها.

وعلى الرغم من أن الإعلام لعب دورا مهما في الحالتين، فإنه في الحالة الأولى كان أساسيا، بينما في الحالة الثانية يمكن اعتباره تكميليا. فألسبيرغ لم يكن بإمكانه القيام بشيء لو لم تتحرك الصحف الأميركية لنشر ما حصل عليه من تسريبات. وما يثبت ذلك، أنه حصل على النسخ في عام 1969، ولم يتمكن من نشرها إلا بعد عامين عندما وافقت «نيويورك تايمز» على تبنيها. ولكن مع «ويكيليكس»، على الرغم من أن الإعلام لعب دورا فائق الأهمية في تسليط الضوء على أهم ما ورد في مئات الآلاف من الوثائق، فإن محتوى الوثائق كان لينشر حتى ولو قررت الصحف رفض نشرها. فالمدونات منتشرة في فضاء الإنترنت بشكل واسع، وبات ينظر إلى المدونين على أنهم صحافيون يمكن أحيانا أن يلعبوا دورا أكبر من الصحافة التقليدية لنشر المعلومات. ويثبت ذلك مدى الاهتمام الذي أولاه فريق باراك أوباما الانتخابي، قبل أن يفوز في الانتخابات الرئاسية، للمدونين، عندما كان يدعوهم للمشاركة في لقاءات لأوباما مع الصحافيين.

وقد شكل هذا العالم الفضائي، حيث يتم تناقل المعلومات بسهولة وسرعة فائقة، رادعا أمام الإدارة الأميركية للتصرف مع وسائل الإعلام التي نشرت مضمون الوثائق، بالشكل نفسه الذي تعاطت به مع الصحافة في عام 1971.

ولكن أبعد من ذلك، هناك فروق كبيرة بين الرجلين نفسيهما. وأهمها أن أسانج ليس نظير ألسبيرغ، بمعنى أنه ليس الشخص الأول الذي سرب الوثائق، بل كان الوسيط بين المسرب الأصلي والجمهور. ونظير ألسبيرغ إنما هو جندي أميركي مغمور يبلغ من العمر 23 عاما، يدعى برادلي مانينغ ويقبع في زنزانة انفرادية في سجن كوانتيكو العسكري بفرجينيا، منذ مايو (أيار) 2010، بانتظار بدء محاكمته العسكرية بتهمة سرقة ملفات حكومية سرية وتمرير معلومات سرية تتعلق بالأمن القومي إلى أطراف أخرى. ويمكن إنزال عقوبات به تصل مدتها إلى 52 عاما في السجن. ولم يعترف مانينغ بالاتهامات الموجهة إليه، ويرفض أسانج أيضا التأكيد على أنه هو مصدره.

ولكن يقول منتقدو مؤسس «ويكيليكس» إن الطريقة التي وضع نفسه فيها في الواجهة، وحول كل الاهتمام على شخصه، دليل على أن ما يقوده قد يكون حبه للظهور وغروره وليس مبادئه.

وما يزيد من الجدل حول شخصية أسانج، تورطه في قضية اغتصاب امرأتين في السويد وإصراره على أن الاتهامات فارغة وأنها مؤامرة يحيكها البنتاغون للانتقام منه. قد تكون الاتهامات فارغة، وقد تكون مؤامرة، ولكنّ هناك احتمالا أيضا بأن تكون حقيقية وأن أسانج جلبها على نفسه بتصرف غير مسؤول. ولكن رفضه المطلق للعودة إلى السويد ومواجهة الاتهامات، وهو ما قد يساعده على تبرئة اسمه في حال كان بريئا كما يقول، لا يزيد إلا من التكهنات حوله.

وقد تحدث منشقون عن «ويكيليكس» عن صعوبة التعامل معه ورفضه للانتقادات، وتحويله المؤسسة إلى إمبراطورية يديرها بمفرده من دون التشاور مع الآخرين. وقال عنه دانيال دومشيت بيرغ، الذي كان الناطق باسم «ويكيليكس» حتى سبتمبر (أيلول) الماضي قبل أن ينشق ليؤسس موقعا منافسا يدعى «اوبن ليكس»: «جوليان كان يواجه أي انتقاد بالادعاء بأنني لا أطيع الأوامر وأنني لا أتمتع بالولاء للمشروع». وبرهن جوليان فعلا عن عدم تقبله الانتقادات بالتهجم على «نيويورك تايمز» التي انتقاها من بين الصحف المعدودة للتعامل معها، بعد أن نشرت سيرة عنه ذكرت فيها الانتقادات التي يوجهها رفاق سابقون له. وفي مقابلة مباشرة كانت تجريها معه محطة «سي إن إن»، نزع عنه الميكروفون وغادر الشاشة بعد أن سئل عن صحة الاتهامات الموجهة ضده في السويد.

ولعل كل هذا الجدل المثار حوله، دفع بمجلة الـ«تايم» إلى تنحيته عن «رجل العام 2010»، على الرغم من حلوله في المرتبة الأولى بتصويت القراء، واختيار مارك زوكربيرغ، مؤسس موقع «فيس بوك»، بديلا عنه. ويتخوف مؤيدو فكرة «ويكيليكس»، من أن يتسبب الجدل حول أسانج، بتشتيت الانتباه عن أهمية الوثائق التي يسربها الموقع.

ولكن يبقى السؤال الأهم، هل سيكون لوثائق «ويكيليكس» الأثر الذي يبتغيه أسانج عندما قال في رسالة قصيرة قبل نشر الوثائق الدبلوماسية، إنها ستغير العالم؟

لم تنف الإدارة الأميركية أثر تسريبات الوثائق الدبلوماسية على طريقة عملها. واعترف جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، بأن عمل الدبلوماسيين حول العالم بات أصعب، وأنهم يجابهون أحيانا بمنع الطرف الآخر لهم من تدوين ملاحظات حول اللقاء. ولكنه تحدث أيضا عن بدء عملية إعادة بناء الثقة مع الحلفاء والأصدقاء، وهي عملية قد تأخذ وقتا، ولكن حظوظ نجاحها في النهاية أكبر من فشلها. كما أن الحكومات تتأقلم مع التحديات التي تواجهها، وتعيد اختراع نفسها، وهو ما تراهن عليه الإدارة الأميركية، خصوصا أن الوثائق التي باتت تعرف بـ«كيبل غيت» لم تظهر أكاذيب القادة الأميركيين كما فعلت وثائق البنتاغون، بل كشفت طريقة عمل الدبلوماسيين وآرائهم الصريحة جدا أحيانا، بالزعماء الآخرين.

ولكن ما قد تكون بدأته «ويكيليكس»، هو اتجاه جديد للصحافة العالمية، عبر فتحها باب الاعتماد على التسريبات عوضا عن البحث والاستقصاء عن القصص. وبينما يجادل بعض الصحافيين حول أن تكتم الإدارات هو الذي يفرض نوعا من «صحافة التسريبات» ويجعلها ضرورية، يحذر آخرون من تكاسل الصحافيين الذين قد يستسهلون الجلوس خلف مكاتبهم بانتظار وصول «السبق الصحافي» إليهم.