منجم تشيلي وحد العالم في 2010.. إنسانيا

التشيليون دون غيرهم في أميركا الجنوبية انضموا خلال العام الماضي إلى نادي الدول الغنية

TT

إذا كانت هناك قصة إنسانية، غير مرتبطة بتعقيدات السياسة، وحدت العالم خلال عام 2010، فإنها بدون شك قصة عمال منجم تشيلي. وحملت القصة ثلاثة عناصر تشويقية رئيسية؛ أولها طول المدة التي بقيها العمال الـ 33 عالقين على مدى 69 يوما، وثانيها، الطريقة التي بقوا بها مرتبطين بالعالم الخارجي من داخل منجم عمقه 700 متر، وأخيرا طريقة إنقاذهم، بكبسولة معدنية، في عملية تابعها العالم وتفاعل معها تلفزيونيا لحظة بلحظة. ثم جاءت تداعيات الإنقاذ لتكمل القصة تشويقا، متمثلة في تعويضات مالية كبيرة رصدت لهم، تسببت في الكشف عن خيانات عاطفية، وفي هدايا وعروض عالمية تهاطلت على «الأبطال».

لكن هذه القصة «الإنسانية» أظهرت أيضا قدرة البلاد على التعامل مع الكارثة. وبالفعل صارت تشيلي دولة تحوز بنية تحتية جيدة وتحظى بثقل واحترام في أميركا الجنوبية، إذ تم قبولها، دون سواها من دول أميركا الجنوبية في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» في عام 2010. وقد تم قبولها رسميا في 7 مايو (أيار) في هذه المنظمة التي تضم دولا غنية مثل الولايات المتحدة ودول أوروبية. وتجلت إمكانات تشيلي أيضا في احتوائها السريع للزلزال القوي الذي ضرب سواحلها في 27 فبراير (شباط) 2010، ولم يخلف سوى 700 قتيل رغم أن قوته بلغت 8.8 درجات. لكن على الرغم من ضخامة كارثة الزلزال، فإن الحدث الآخر المرتبط بالمنجم هو الذي جذب الاهتمام العالمي أكثر خلال العام المنصرم.

وكان عمال المنجم، وهم 32 تشيليا وبوليفي واحد، قد علقوا في منجم النحاس والذهب بسان خوسيه في صحراء أتاكاما، شمالي تشيلي، في الخامس من أغسطس (آب) إثر انهيار. وبعد سبعة أيام من حدوث الانهيار، صرح وزير المناجم لورنس غولبورني أن فرص العثور على العمال أحياء «ضئيلة جدا»، إلا أن الأهالي لم يفقدوا الأمل وظلوا يعتصمون في المكان إلى أن تمكن مسبار، بعد 17 يوما من المأساة، من التقاط رسالة كتبت على ورقة تحمل عبارة «نحن بخير جميعنا الـ33 في الملجأ» تحت الأرض. ومن حينها، تكثف الاهتمام العالمي بحال عمال المنجم الذين صاروا نجوما، فأرسلت لهم قمصان موقعة من نجوم عالميين لكرة القدم ومسبحات من بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر وأجهزة «آي بود» أهداهم إياها رئيس شركة «آبل» ستيف جوبز لمساعدتهم على تحمل معاناتهم.

في غضون ساعات من انهيار المنجم، واجه الرجال خيارا مصيريا، فقد كان هناك مخرج، من خلال فتحة للتهوية، لكن بعد أن اكتشفوا أن السلم الموجود قصير للغاية، وزاد في معاناتهم أن صخرة سقطت على تلك الفتحة وأغلقتها. عندما أدركوا أن كل ما يمكنهم القيام به هو الانتظار. وبالفعل ظلوا ينتظرون إلى جاء اليوم الـ 17 من مأساتهم. في ذلك اليوم المشهود، تمكن رجال الإنقاذ من اختراق سقف المكان الذين كانوا محاصرين فيه، وبدأ عمليا العدد التنازلي لإخراجهم في عملية مثيرة قرر الرئيس التشيلي أن يطلق عليها اسم «النبي يونس»، على اعتبار أن هذا النبي الكريم «أنقذ من بطن حوت وسيتم إنقاذ العمال من بطن الجبل»، على حد تعبير الرئيس سيباستيان بينيرا.

وضع مهندسو الإنقاذ ثلاثة مخططات «أ» و«ب» و«س»، للقيام بعمليات الحفر في أماكن مختلفة من سطح المنجم إلا أن المخطط «ب» الذي أشرف عليه فريق أميركي، كتب له نصيب النجاح للوصول إلى العمال في اليوم الـ 65 من المأساة. وتزامنا مع الحفر، قامت البحرية التشيلية بتصميم كبسولة معدنية يبلغ قطرها 53 سنتيمترا للقيام بمهمة إخراج العمال الواحد تلو الآخر. وتم تصميم الكبسولة على شكل رصاصة وأطلق عليها اسم «فينيكس» نسبة إلى الطائر الأسطوري. وكانت وكالة «ناسا» الأميركية هي التي قدمت النصح بشأن طريقة تصميمها. ولاحقا صارت تلك الكبسولة بطلا عالميا، مثلها مثل العمال الذين أنقذتهم. فقد تم نقلها، بناء على طلب عدة جهات، في رحلة عالمية.

أثناء الاستعداد لعملية الإنقاذ، تملك العمال داخل المنجم مشاعر مختلطة، فبعضهم رفض أن يكون أول الصاعدين خشية حدوث مكروه، لكن آخرين حرصوا على ذلك إلى درجة الخصومة. وفي الأخير، حدد القائمون على عملية الإنقاذ ترتيب الصاعدين حيث يصعد الأكثر «مهارة» من القادرين على مواجهة الطوارئ أولا ثم «الأضعف» ومن يعانون أمراضا مزمنة أو ضعفا نفسيا وأخيرا «مجموعة الأشداء» القادرين أكثر من البقية على تحمل الانتظار.

وقبل عملية الإنقاذ الكبرى، أجرت فرق الإنقاذ تجارب أخيرة دامت بضع ساعات، نزل خلالها خبير إنقاذ إلى قاع المنجم حيث استقبله العمال الـ33 بالتصفيق أمام كاميرا تم نصبها في المكان. استمع العمال جميعهم إلى توجيهاته باهتمام، في ورشة أقيمت تحت الأرض رفع فيها علم تشيلي. وفي الأخير جاءت النهاية السعيدة. فطوال يوم 13 أكتوبر، تابع العالم عملية انتشال كل عامل في أقل من 15 دقيقة داخل الكبسولة، بمساعدة رجل الإنقاذ طبعا.

حظي الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا بنصيب وافر من الشعبية طبعا بسبب حضوره شخصيا عملية الإنقاذ بالكامل، وتكريمه لجميع العمال وأسرهم. وحتى الرئيس البوليفي إيفو موراليس حضر إلى المكان لمتابعة العملية، وتكريم المواطن البوليفي الذي كان ضمن العالقين. وبعد إنقاذ هذا العامل المنجمي البوليفي (اسمه كارلوس ماماني) عرض عليه الرئيس موراليس وظيفة ومنزلا في بوليفيا إذا رغب بالعودة إلى بلاده. لكن ماماني، تحت ضغط مشاعره تجاه رفاقه التشيليين رد على الرئيس أنه يفضل البقاء في تشيلي لأيام.

وبعد نهاية المأساة بدأت الهدايا والعروض العالمية تتهاطل على العمال المنجميين. فقد عرضت الحكومة الجامايكية عليهم وعلى زوجاتهم عطلة مجانية، كما تهافتت عليهم، على مدى أسابيع، وسائل الإعلام العالمية لعمل مقابلات معهم بشأن محنتهم. وأحصت وسائل إعلام أيضا عشرات الوظائف، التي عرضت عليهم في حال قرروا عدم الرجوع لعملهم الأصلي في المناجم.