الوثائق السرية البريطانية: لندن كانت تخشى من استخدام إسرائيل أسلحتها النووية

ثاتشر قالت لديستان: لم أجد رجلا أصعب في التعامل معه من بيغن

الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر(وسط) ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق مناحيم بيغن (يمين) مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات (يسار) أثناء توقيع اتفاقيات كامب ديفيد (رويترز)
TT

في نهاية كل عام في شهر ديسمبر (كانون الأول) تزيل الحكومة البريطانية قيود السرية المفروضة لمدة 30 عاما على ملفاتها الرسمية التي تحتوي على نقاشات الوزارة ومحاضر جلساتها والمراسلات بين سفاراتها في الخارج وجهازها الإداري ووزرائها وطواقم مباحثاتها ومفاوضاتها في أمور الساعة والقضايا الدولية.

طبعا بعض الملفات يبقى قيد السرية لمدة أطول من ذلك، كما أن بعض الوثائق قد تحتوي على أسماء أشخاص ما زالوا في مواقع حكومية رسمية وقد يتعرض أصحابها للإحراج أو الأذى الشخصي، فتجد أن بعض الأسماء حذفت عمدا من الوثيقة.

الملفات التي أفرج عنها هذا العام كثيرة وتغطي فترة مهمة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، خصوصا أنها جاءت بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى إسرائيل وفي خضم مفاوضات كامب ديفيد بينه وبين رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر.

وتحتوي الملفات على وثائق تبين خشية بريطانيا من جدية إسرائيل في استخدام الأسلحة النووية في حالة شعور الأخيرة بالوحدة والتحدي. ويظهر ذلك جليا من خلال تقييم السفارة البريطانية في تل أبيب للوضع في الشرق الأوسط ومن خلال معلوماتها الخاصة حول امتلاك إسرائيل الأسلحة النووية، على الرغم من عدم تأكيد الأخيرة أو نفيها الموضوع لعشرات السنين.

وجاء هذا التقييم من قبل بريطانيا للوضع في الشرق الأوسط رغم دخول المنطقة مرحلة غير مسبوقة من العلاقات مع إسرائيل أوجدتها زيارة الرئيس المصري إلى القدس. وعلى الرغم من المرحلة الجديدة، فإنه كان هناك خوف حقيقي لدى بريطانيا بأن تندلع حرب جديدة وطويلة في الشرق الأوسط وتشعر فيها إسرائيل بالتهديد لكيانها من قبل جيرانها وتلجأ بذلك إلى استخدام الترسانة النووية مبكرا في حالة اندلاع الحرب. وتقدر الترسانة النووية الإسرائيلية بأكثر من مائتي رأس نووي، حسب ما قدره خبراء الأسلحة النووية بعد سلسلة المقالات التي كتبتها صحيفة «الصنداي تايمز» بناء على التسريبات التي وصلتها من المهندس الإسرائيلي مردخاي فعنونو، الذي عمل في مفاعلات ديمونة.

الوثيقة جاءت على شكل برقية أرسلتها السفارة البريطانية في تل أبيب في الرابع من مايو (أيار) تقول فيها إن «الوضع في المنطقة يتدهور مما سيؤدي إلى تزايد مشاعر إسرائيل الخطرة بالعزلة والتحدي». وأضافت البرقية أنه «إذا شعر الإسرائيليون أنه سيتم تدميرهم، فإنهم سيقاتلون.. وسيكونون على استعداد لاستخدام أسلحتهم النووية. ولأنهم لن يتمكنوا من الاستمرار في حرب طويلة، فإن عليهم أن يستخدموها مبكرا».

وتظهر الملفات كذلك كيف أن رئيسة الوزراء في ذلك الوقت مارغريت ثاتشر التي تولت منصبها قبل ذلك بعام وجدت أن الدبلوماسية في الشرق الأوسط مرهقة.

وتحتوي الوثائق على مراسلات ثاتشر مع أنور السادات ومناحم بيغن. وقالت للرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، فاليري جيسكار ديستان، إنها «لم تواجه رجلا أصعب من حيث التعامل معه» من رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، مناحم بيغن. كما أنها حاولت أن تخبر بيغن أن سياساته بشأن بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية «غير واقعية».

كما تحتوي الوثائق على الكثير من المراسلات بين حكومة مارغريت ثاتشر وسفاراتها التي حرصت، ولكن ليس بشكل علني، على إقامة علاقات غير رسمية مع منظمة التحرير. لكن المراسلات بين الحكومة البريطانية والإسرائيلية تظهر رفض حكومة مناحم بيغن قيام دولة فلسطينية تحت كل الظروف ورفض إسرائيل تعامل أي من القوى الغربية مع منظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن الحكومة البريطانية ووزارة الخارجية اعتبرت المطالب الإسرائيلية «غير واقعية وغير حكيمة». وحتى مارغريت ثاتشر التي كانت معروفة بمواقفها العلنية المعادية لمنظمة التحرير أخذت مواقف سرية أكثر اعتدالا. وهناك الكثير من الرسائل التي تبين أن الحكومة البريطانية تريد إقامة علاقات سرية مع منظمة التحرير، وكانت تشجع سفراءها على لقاء ممثلي المنظمة لكن في أماكن محايدة، ليس في مكاتب منظمة التحرير أو سفارات بريطانيا، ولكن في أماكن عامة. وكانت تريد أن تجمع معلومات حول تعاطي الجاليات الفلسطينية مع منظمة التحرير.

بعض وثائق الدولة تبقى رهن القيود السرية لأكثر من 70 عاما. وهذا ما حصل مؤخرا في قضية التحقيق حول الحرب في العراق وظروف وفاة الدكتور ديفيد كيلي، الذي قيل إنه انتحر بعد أن سرب معلومات إلى هيئة البث البريطاني (بي بي سي).كما تغطي الفترة الوضع الداخلي في إيران، خصوصا مع اندلاع الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران. ويحتوي الملف على مراسلات البعثة البريطانية في «الناتو» وسفارة بريطانيا في طهران والمراسلات بين وزارة الخارجية ونظيرتها في واشنطن، والنقاشات حول فرض عقوبات على طهران. بعض الوثائق تبين أن بريطانيا قاومت المحاولات الأميركية القيام بعمل عسكري ضد إيران لاعتقادها أن ذلك يضعف منظمة الأمم المتحدة ويبينها بأنها غير راغبة في حل سلمي للمشكلة. ورفضت بريطانيا أن تقوم الولايات المتحدة بعمل عسكري دون تخويل من مجلس الأمن. وهناك وثيقة للورد كارينغتون، الذي عمل وزيرا للخارجية آنذاك يقول فيها إن أي عمل عسكري ضد إيران من دون تخويل من مجلس الأمن سوف يبين «منظمة الأمم المتحدة بأنها غير معنية في إحلال السلام في المنطقة». ويضيف اللورد كارينغتون أن العمل العسكري سوف يساوي بين الغزو السوفياتي لأفغانستان والغزو الأميركي لإيران. كما تغطي الوثيقة فترة قصيرة جدا من العلاقات البريطانية - الإيرانية بعد أن قامت مجموعة تسمي نفسها «الحركة الثورية الديمقراطية لتحرير عربستان» باحتلال السفارة الإيرانية في وسط لندن واحتجاز العاملين كرهائن. وتبين المراسلات بين الحكومة البريطانية والإيرانية الخلافات حول تكلفة إصلاح السفارة بسبب الدمار الذي تسبب فيه اقتحام المكان والسيطرة عليه من قبل القوات الخاصة وقتل المجموعة.

كما أن تلك الفترة كانت من أكثر الفترات حدة في النزاع السياسي، إذ إنها تغطي بداية الاجتياح السوفياتي أفغانستان وتعامل القوى الغربية، أوروبا والولايات المتحدة، مع الغزو. وفي تلك الفترة نظمت الدورة الأولمبية في موسكو، وتظهر المشاورات الرسمية بين القوى الغربية اختلافا في وجهات النظر حول مقاطعة الألعاب الرياضية لتسجيل موقف سياسي ضد موسكو، بعضها كان يريد التأني وبعضها كان يطالب بمواقف أكثر حدة. الولايات المتحدة اتخذت خطوات صريحة بمقاطعة الألعاب. رئيسة وزراء بريطانيا – وقتها - ركزت في إحدى رسائلها إلى الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، على أهمية «وحدة الموقف»، وأن لا يظهر هناك أي اختلافات بين القوى الغربية. وعقد اجتماع سري في باريس بهذا الخصوص حضره سكرتير الحكومة البريطانية، روبرت أرمسترونغ، وفي هذا الاجتماع تقرر دعم المقاومة الأفغانية. كما أن رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر رفضت اقتراحا في تلك الفترة ينادي بعقد «معاهدة لجعل أفغانستان بلدا محايدا»، وقالت في إحدى مراسلاتها إلى حلفائها إن هذا شيء «ممقوت ومفروغ منه». إلا أنها عقدت عددا من اللقاءات مع المستشار الألماني شميدت، الذي أخذ موقفا متشددا من الولايات المتحدة الأميركية واتهم موقفها بأنه خطير جدا، «وقد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة».

بعض الوثائق يبين كيف يعمل الطاقم الدبلوماسي البريطاني ويراقب ما يقوم به حلفاؤهم عند قيام رئيس دولة صديقة مثلا بزيارة إلى منطقة تعتبر منطقة نفوذ ومنافسة بين القوى العظمى. وبهذا الصدد تجد الطاقم مشغولا بأدق التفاصيل حول الزيارة للتأكد من عدم وجود توجهات جديدة للدولة قد تقوي نفوذها في هذه الدولة أو تلك. هناك مراسلات كثيرة بين السفارات البريطانية في الخليج العربي وانشغالهم مثلا بزيارة فاليري جيسكار ديستان إلى المنطقة، وتشعر أن هناك حالة من الخوف البريطاني من أن يكون هناك تغلغل فرنسي يقلل من نفوذ بريطانيا في المنطقة. وتجد أن القضية الفلسطينية حاضرة ومحورية في علاقات المنافسة بين القوى الأوروبية، خصوصا بين فرنسا وبريطانيا.