تركيا: عام الاتجاه شرقا.. والمسمار الأخير في سيطرة العسكر

عدلت دستورها للقضاء على سلطة الجيش والمحكمة العليا.. وغيرت كتابها «الأحمر»

TT

كان عام 2010 بحق، عام تركيا في المنطقة، بعد أن استطاعت الجمهورية العلمانية بقيادتها ذات الطابع الإسلامي أن تكسر عنها «الستار الحديدي» الذي فرضه عليها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال الذي تنكر للماضي العثماني - الإسلامي لبلاده وأمر أبناء رعيته بإدارة الوجه غربا والظهر شرقا بعدما خاب أمله من الشرق والعرب الذين حكمتهم الإمبراطورية العثمانية نحو 400 عام و«تآمروا» مع الغرب للخلاص من حكمها.

أزال «أتاتورك» أي أبو الأتراك، كل ما له علاقة بالهوية العثمانية مستبدلا إياها بالهوية التركية، وأزال حتى الحروف العربية من الأبجدية مستبدلا إياها باللاتينية، وعين الجيش «حارسا للعلمانية» فكان الأخير عند «حسن ظنه» وأطاح بأربع حكومات تركية منتخبة، قبل أن تستطيع حكومة حزب العدالة والتنمية أن تكبله وتجر ضباطه إلى المحاكم المدنية لمجرد «التفكير» في الانقلاب، بعد أن كان الجيش محصنا من الملاحقة حتى عند تنفيذ الانقلابات الفعلية.

في عام 2010، وضعت حكومة «العدالة والتنمية» المسمار الأخير في نعش الحكم العسكري، كما ألحقت الهزيمة النكراء بحليفته المؤسسة القضائية في الداخل. وذلك عبر استفتاء 12 يوليو (تموز) الذي استطاع الحزب أن يحصل من خلاله على 58 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك على رزمة تعديلات دستورية هي الأكبر منذ وصوله إلى السلطة منذ ثمانية أعوام.

وقد استطاعت الحكومة التي يقودها «متدينون» أن تعيد إنتاج السلطة في أكثر بلاد المنطقة تشددا في علمانيتها، على الرغم من الحرب الشعواء التي شنها العلمانيون ضدها مدعومين من الجيش والسلطة القضائية، أي من المحكمة العليا والمدعين العامين، الذين نجحوا في حظر الكثير من الأحزاب الإسلامية التي وصل بعضها إلى السلطة كحزبي الرفاه والفضيلة.

وبعد مناوشات مع الجانبين في بداية العام تمثلت آخرها في محاولة المحكمة العليا منع رزمة الإصلاحات عبر تقييدها، لجأت حكومة رجب طيب أردوغان إلى الشعب للاحتكام إليه عبر استفتاء وضع فيه أردوغان كل جهده ورصيده الشخصي الذي يتجاوز حزبه للفوز بنسبة الـ85 في المائة، مستفيدا من تضعضع الأحزاب العلمانية ومخاوف التجار والمعتدلين من عودة الحكم المتشدد، علما أن لرزمة الإصلاحات بعدا آخر لا يقل أهمية عن زيادة عدد القضاة في المحكمة العليا بما يضمن عدم قيام المحكمة بعرقلة مساعي الحزب والحكومة، فهي تضمنت أيضا سيطرة الحكومة على توزيع المدعين العامين، إضافة إلى بعد لا يقل أهمية عن الاثنين، وهو السماح بملاحقة العسكر أمام المحاكم المدنية. ولم يجد أردوغان أفضل طريقة لختام العام إلا بوضع «عصابة المطرقة» التي قيل إنها كانت تحضر لانقلاب عسكري وتضم ضباطا كبارا من الجيش ومدنيين، أمام قوس العدالة المدنية معلنا انتصاره التام على الجيش والمحكمة الدستورية.

علما أن أردوغان وحزبه كانا واضحين في التأكيد على أن هذه التعديلات ما هي إلا بداية لنهاية الدستور الحالي، رابطا فوزه في الانتخابات النيابية المقبلة هذا العام بنتيجة حتمية هي إعداد دستور جديد مدني للبلاد التي حكمها العسكر منذ عشرات السنين.

أما في الخارج فقد استطاعت حكومة أردوغان أن ترسي انقلابا في المعايير انطلاقا من نظرية «العمق الاستراتيجي» التي وضعها مستشار أردوغان السابق، ووزير خارجيته الحالي أحمد داود أوغلو الذي يقود عملية «تصفير المشكلات» مع الجوار سعيا لدور أكثر فعالية لبلاده فيها بعد سنين من العداء مع الجوار نتيجة انخراط تركيا في سياسة محاور جعلتها شريكا استراتيجيا للغرب وعضوا فاعلا في حلف شمال الأطلسي.

وقامت حكومة أردوغان بعملية تحول لافتة نحو الشرق الذي أدارت الظهر إليه لعقود، مدفوعة إلى ذلك بهاجسين، الأول استعادة الدور التاريخي لها في المنطقة، والثاني هو تردد الغرب في فتح كامل ذراعيه لها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فبدأت في التفكير في الاتجاه إلى «شرفة أخرى، بعدما تمنعت الفتاة الجميلة عن الخروج إليها للاستماع إلى العازف التركي المنتظر تحتها»، كما عبر مدير الشؤون الخارجية في حزب العدالة والتنمية، سعاد كينيكلي أوغلو لـ«الشرق الأوسط».

وتقوم نظرية داود أوغلو على التفكير في تركيا على أنها مركز الوسط لسبع مناطق، بدلا من التفكير فيها على أنها طرف أوروبا، أو زاوية الجنوب الشرقي لحلف الناتو. فتركيا تقع وسط البلقان والبحر الأسود والقوقاز وشرق المتوسط وأوروبا. وهذه السياسة تدعى «صفر مشكلات» مع كل الجيران. وقد شهد هذا العام تكريسا لعلاقة مميزة مع سورية، بعدما كان البلدان على حافة الحرب قبل أقل من عقد من الزمن، فانفتحت أنقرة بشكل كبير على دمشق التي وجدت في هذا الانفتاح حبل نجاة من الضغوط الدولية الهائلة التي كانت تمارس عليها، وبعدما لعبت دور الوسيط بينها وبين إسرائيل، ذهبت تركيا إلى حد أبعد في توثيق العلاقة مع سورية، ترجمتها في إلغاء التأشيرات بين البلدين وفتح الحدود أمام البضائع، ودخلت أنقرة في مشروع كبير لإزالة ملايين الألغام التي زرعتها على خط الحدود بين البلدين خلال فترة التوتر.

كذلك حسنت تركيا علاقاتها مع العراق، وتحديدا شماله، بعد عقود تأرجحت فيها هذه العلاقات بسبب قضية حزب العمال الكردستاني الذي اتخذ من شمال العراق مقرا له ومعبرا لضرب القوات التركية، كما تحسنت العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي لأنقرة - بشكل ملحوظ جدا رغم استمرار وجود بعض القضايا الخلافية والتوترات. والوضع نفسه قائم مع بلغاريا التي تحسنت علاقات تركيا معها بشكل لافت، وقد حاولت أنقرة القيام بالشيء نفسه مع أرمينيا، فوقعت بروتوكولا لإعادة العلاقات في ما بينهما إلى طبيعتها. لكن هذا التحسن تعرقل بسبب ما قاله كبير مستشاري أردوغان إبراهيم قالن إنه «قضايا أرمينية داخلية وقضايا إقليمية في القوقاز».

وقد قامت حكومة «العدالة والتنمية» هذا العام بخطوة تاريخية في هذا المجال بإعادة صياغة «الكتاب الأحمر» الذي يصنف الأعداء والأصدقاء بشكل دراماتيكي أصبح معه العدو صديقا والصديق «مشروع عدو». فأزيلت دول مثل روسيا والعراق وإيران وسورية عن قائمة الدول المعادية، فيما تنامت العلاقات التركية - الإيرانية بشكل كبير جدا اقتصاديا وسياسيا. وفيه تم اعتبار «السياسات الإسرائيلية تهديدا للاستقرار الإقليمي، وعدم الاستقرار الإقليمي هو تهديد للأمن القومي التركي».

وكان دور تركيا البارز في التوصل إلى اتفاق 17 مايو (أيار) النووي مع إيران بمشاركة البرازيل علامة فارقة هذا العام، لكن هذه الخطوة - على أهميتها - لم تحل دون تصويت مجلس الأمن الدولي على عقوبات جديدة تستهدف البرنامج النووي الإيراني، كانت تركيا والبرازيل الدولتين الوحيدتين المعارضتين للعقوبات في مجلس الأمن الدولي، ما زاد التوتر القائم بينها وبين الغرب.

وقد تعرضت المساعي التركية أيضا إلى اهتزاز آخر، جاء بمشروع الدرع الصاروخية الأطلسية المقترحة التي اضطرت تركيا إلى استضافتها على أراضيها في ظل الضغوط الأميركية والغربية، لكنها استطاعت الخروج بما يحفظ ماء الوجه برفض أي نص على كل من إيران أو روسيا كأطراف مستهدفة من هذه الدرع، كما اشترطت عدم حصول إسرائيل على المعلومات التي ستحصل عليها محطات الإنذار المبكر ورادارات التنصت المنتشرة في قواعد حلف الأطلسي على الأراضي التركية.