الوثائق البريطانية: مفاوضات سرية مع إيران.. ولقاءات مع منظمة التحرير

خالد الحسن تلقى تفويضا بتوضيح العلاقة مع الجيش الجمهوري الإيرلندي

عملية تبادل رفات جنود ايرانيين وعراقيين قتلوا في الحرب العراقية الايرانية جرت عند معبر شالامجة في نوفمبر 2008 (ا.ف.ب)
TT

الوثائق السرية البريطانية التي أفرج عنها هذا العام تخص أحداث عام 1980. وتستحوذ أحداث الشرق الأوسط على جزء كبير من الملفات المتاحة. وتغطي الوثائق فترة مهمة جدا في الشرق الأوسط وهي بداية الحرب العراقية الإيرانية، والمحادثات الإسرائيلية المصرية ومشكلة الرهائن الأميركيين في طهران والعلاقات الإيرانية الفلسطينية وكذلك الاتصالات بين السفراء البريطانيين ومنظمة التحرير الفلسطينية وموقف حكومة ثاتشر من المنظمة والمنافسة البريطانية الفرنسية، وكيف تحاول فرنسا التميز بموقفها تجاه القضايا العربية وعلاقاتها مع دول المنطقة. واليوم تختار «الشرق الأوسط» بعض هذه الوثائق وتسلط الضوء على بعض الأحداث التي شكلت نقاطا محورية في تطورات الوضع في الشرق الأوسط وما نتج عنها.

كيف ترى فرنسا الصراع في الشرق الأوسط والحرب العراقية الإيرانية

* الاعتقاد السائد لدى بريطانيا أن فرنسا تعمل جاهدة إلى زيادة نفوذها في الشرق الأوسط من خلال الظهور بالدفاع عن القضايا العربية، وظهر ذلك جليا من خلال موقفها في المحافل الدولية، مثل تقديم مشروع قرار من قبل المجموعة العربية يدين إسرائيل ويطالبها بإيقاف الاستيطان والانسحاب. القرار يحرج بريطانيا لأنها كانت مطالبة باللجوء إلى حق النقض حتى تسقط القرار العربي. إلا أنها كان تعمل على تحييد فرنسا حتى لا تعطيها فرصة الظهور بالانحياز تجاه العرب أكثر منها. زيارة الرئيس الفرنسي لمنطقة الخليج أعطيت عناية خاصة من قبل السفارات البريطانية في تلك الدول وأظهرت أن بريطانيا كانت تشعر بشيء من الارتباك حول ما قد تحققه الزيارة. إلا أن بعض الدوائر الفرنسية كانت تحاول إخفاء ما قد تجنيه الزيارة.

ونفى الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار دي ستان قبل بدء الزيارة أن فرنسا تعمل من أجل مصالحها المباشرة في الشرق الأوسط، قائلا إنه «من السخافة أن يقال إن سياسة فرنسا هي بسبب أطماعها البترولية»، مضيفا أن «موقف فرنسا تجاه مشكلة الشرق الأوسط تستمده من سياسة حلفائها الأوروبيين» والتي تقوم على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة والمحافظة على أمن إسرائيل. كما انتقد جيسكار دي ستان تزويد المنطقة بالأسلحة، وانتقد تقديم أسلحة متطورة للمنطقة.

«إيران، العراق، والخليج»

* وجاء في رسالة جريغوري هوود من السفارة البريطانية في باريس والمؤرخة في 15 أكتوبر (تشرين الأول) والتي أرسلت إلى الدوائر المختلفة في المؤسسة البريطانية بعد اجتماعه بوزارة الخارجية الفرنسية التالي:

تكلمت مع السيد ديبيه المسؤول عن ملف الخليج في وزارة الخارجية الفرنسية والذي عمل في سورية والعراق والأردن ولبنان. يعتقد ديبيه أن هزيمة العراق في حربها مع إيران ستزيد من تعقيدات حل مشكلة الشرق الأوسط، لأنه سيكون من الصعب على العرب التعامل مع العديد من الهزائم، على أيدي الإسرائيليين والمسيحيين في لبنان وأخيرا الإيرانيون. لن يكون هناك أي تصفيق من قبل أي دولة عربي لهزيمة العراق على أيدي الإيرانيين، ولا حتى من الرئيس المصري أنور السادات. ويعتقد أن روسيا الوحيدة التي تتمتع بنفوذ في إيران، وهي القادرة على إقناع العراقيين بالانسحاب من الأراضي الإيرانية مقابل الحصول على وقف إطلاق النار. ويقول إن روسيا تتمتع بنفوذ في إيران والعراق وسورية وأفغانستان، حتى ولو تبدو الأمور متناقضة بعض الشيء.

وحسب المصادر الفرنسية فإن العراقيين ابلغوا السعودية بإمكانية دخول إيران دون تحديد التاريخ.. العراقيون كانوا متعمدين ان يعلم الأميركيون بذلك. ونفى الفرنسيون أي علم مسبق بالاجتياح العراقي للأراضي الإيرانية، لكن الروس علموا في الدقائق الأخيرة قبل بدء الغزو.

وأكد المسؤول الفرنسي لنظيره البريطاني، بخصوص النفوذ الفرنسي في الخليج، أنه باستثناء تزويد القطريين بالسلاح فإنه في زيارة الرئيس الفرنسي للخليج في مارس (آذار) لم يكن هناك أي شيء يذكر، وكان هناك فقط التوقيع على اتفاقيات بين فرنسا ودول الخليج إلا أن ذلك لم يسفر عن أي شيء كبير.

وقال ديبيه إنه لم يصدق مسؤولين عندما قالوا له إنهم لا يريدون أي تدخل أميركي في المنطقة، كما أنهم يعتقدون أن طائرات الأواكس غير كافية إذا هوجموا من قبل إيران. وأضاف أن فرنسا لن تقوم بأي عمل عسكري بشكل مستقل لأنها لا تمتلك أي قواعد عسكرية أو حاملة طائرات في المنطقة.

وكان يعتقد الفرنسيون أن التهديد الحقيقي لمنطقة الخليج ليس من الفلسطينيين الذين تحسنت أوضاعهم المالية هناك خلال العقود الماضية، لكن الخطر الحقيقي على الأنظمة الخليجية هو العمالة الآسيوية. ويعتقد ديبيه أن هؤلاء سيثورون على دولة الإمارات العربية المتحدة في حالة قامت إيران في مجازفة عسكرية ضد البلد. واتخذت فرنسا موقفا داعما للعراق منذ البداية، ويعتقد البريطانيون أن ذلك يعكس التوجه الفرنسي بزيادة نفوذهم في المنطقة. وقرر شيراك، الزعيم الديغولي وعمدة باريس، كما جاء في اللقاء بين غريغوري هوود وديبيه، في بداية النزاع العراقي الإيراني أن ينحاز إلى صالح العراق، واتهم الإيرانيين بأنهم هم الذين بدأوا الحرب. وقال شيراك: «التعصب والسلوك غير المسؤول لآية الله الخميني قاد إلى رد الفعل العراقي.. لكن يجب أن لا يؤدي هذا الصراع إلى يالطا جديدة، ويجب أن لا ندخل في مفاوضات مع الاتحاد السوفياتي بهذا الخصوص، يجب أن لا نعطيهم أي مسؤولية مطلقا في المنطقة». وتعتقد الحكومة البريطانية أن موقف شيراك الداعم للعراق هو بسب العلاقات التي أقامها خلال عمله كرئيس وزارة وكان مسؤولا عن الملف العراقي. والآن جاءت فرصة فرنسا لتؤكد هذه العلاقة وتقطف ثمارها.

كيف ترى بريطانيا العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإيران

* من خلال المراسلات بين السفارة البريطانية ووزارة الخارجية البريطانية ومكتب رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر كان واضحا تماما أن البعثة الدبلوماسية البريطانية كانت ترى الأمور بشكل مختلف عن ما كانت تتناقله وسائل الإعلام الإيرانية «والمبالغة» في قوة العلاقة بين الجمهورية الإسلامية الفتية تحت قيادة الإمام الخميني، التي تسلمت زمام الأمور في إيران قبل عام، ومنظمة التحرير الفلسطينية، خصوصا بعد أن أغلقت الحكومة الإيرانية السفارة الإسرائيلية وبالمقابل فتحت سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما كان الرئيس الفلسطيني الراحل من أول الزعماء السياسيين الذين زاروا إيران والتقوا آية الله الخميني.

وفي هذا الخصوص بعث السفير البريطاني في طهران جي غراهام ببرقية تحت عنوان «إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية» إلى وزارة الخارجية البريطانية في 13 مايو (أيار) 1980 جاء فيها:

أعتقد أنك (مخاطبا احد العاملين في وزارة الخارجية البريطانية) دون شك اطلعت على رسالة بلاكلي (الاعتقاد أنه احد العاملين في السفارة البريطانية في بيروت) إلى غوردون (وزارة الخارجية البريطانية) في 30 أبريل (نيسان) 1980 حول زيارة قطب زادة إلى بيروت. لقد لفت انتباهي (بلاكي) تعليقاته في نهاية الفقرة السادسة والتي يقول فيها إن العلاقات بين منظمة التحرير وإيران ليست بهذا القرب كما يتصور البعض. أعتقد أن تأثير منظمة التحرير هنا مبالغ فيه من قبل وسائل الإعلام الإيرانية وكذلك المراسلين الأجانب. هناك اتصالات بين الجهتين، وتكون هذه الاتصالات فعالة عندما يوجد خالد الحسن (أحد قادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ومن المقربين جدا من ياسر عرفات). لكن في نظري أن منظمة التحرير لا تتمتع بقنوات مفتوحة تصلها إلى القيادة الإيرانية العليا وقادة المنظمة يتكلمون عن نفوذ مبالغ فيه لإعطاء أنفسهم الأهمية، وباعتقادي، أنهم يسببون امتعاضا لإيران.

العلاقات بين بريطانيا ومنظمة التحرير الفلسطينية

* هناك العديد من الرسائل بين دوائر سياسية بريطانية وسفاراتها في الخارج تبين أن الحكومة البريطانية تريد إقامة علاقات سرية مع منظمة التحرير، وكانت تشجع سفراءها بلقاء ممثلين المنظمة لكن في أماكن محايدة، ليس في مكاتب منظمة التحرير أو سفارات بريطانيا ولكن في أماكن عامة. وكانت تريد أن تجمع معلومات حول تعاطي الجاليات الفلسطينية مع منظمة التحرير ولكن في أماكن عامة.

وفي برقية من مكتب الشرق الأوسط موقعة من قبل دي تثام في وزارة الخارجية البريطانية ردا على استفسارات رفعها سفير بريطانيا آنذاك لدى الكويت آر بالفور إلى لندن يتساءل فيها حول كيفية التعاطي مع منظمة التحرير الفلسطينية. وجاء في الرد:

سؤالك ما زال واردا، يقولون في الدائرة إنه نظرا للظروف المحلية فإنه لا مانع من لقاء (عوني) بطاش (من مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت) بين حين وآخر لكن بصورة غير رسمية، لكن يجب أن لا يحضر إلى مبنى السفارة البريطانية، وحاول تجنب لقائه في مكاتب منظمة التحرير، لأن ذلك سسيساء فهمه وسيتم الترويج له. سنترك الأمر لتقديركم.

الاعتبار الأساسي هو أن لا تعطيه أي انطباع بأنه شخص أو منظمة التحرير يمثلون أي شيء رسمي بالنسبة للحكومة البريطانية. أشك أن بطاش سيقدم أي شيء جديد لا نعرفه بأنفسنا من مناطق أخرى بالنسبة لسياسات منظمة التحرير. لكن بطاش قد يكون مصدرا مفيدا للمعلومات حول علاقة الكويت بمنظمة التحرير ورأي الجالية الفلسطينية بالمنظمة.

وهناك برقية أخرى من السفير البريطاني لدى الكويت يلخص فيها اتصالاته بعوني بطاش يقول فيها إنه التقاه في إحدى حفلات الاستقبال وحاول «جر رجله» لمعرفة اسم رجل السفارة الذي التقاه كما جاء في أحد التقارير الصحافية الكويتية. «بطاش اقترح أن ألتقيه في مكتبه، لكنني حاولت التهرب دون إعطاء أي إجابة صريحة». وهناك برقيات مماثلة أرسلت من السفارة البريطانية في بيروت حول لقاءات مع الفلسطينيين هناك. وتتبع وزارة الخارجية تعليمات مماثلة بالنسبة للاتصالات، خارج السفارة وليس في مكاتب المنظمة.

الاتصالات بين منظمة التحرير والجيش الجمهوري الآيرلندي

* هناك برقية أخرى مرسلة لوزارة الخارجية من ممثل الحكومة البريطانية في الأمم المتحدة يتحدث فيها عن اتصالاته بخالد الحسن. «التقيته (على هامش ندوة القدس) في 4 ديسمبر (كانون الأول) وتكلمنا لمدة ساعة وكان يريد التحدث حول تصريحات دوغلاس هيرد بخصوص الاتصالات بين منظمة التحرير والجيش الجمهوري الايرلندي. خالد الحسن قال إنه مخول من القيادة الفلسطينية للتحدث حول الموضوع».

وقال «إنه إذا كان هناك أي شحنات سلاح أرسلت إلى الجيش الجمهوري من قبل الفلسطينيين فكان ذلك بسبب الفوضى نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية. وقد تكون هذه الشحنات نابعة من مصادر فلسطينية، لكن سياستنا لم تكن يوما من الأيام هو تزويد الايرلنديين بالسلاح.. ولم يكن في سياسة منظمة التحرير التعاون مع الجيش الجمهوري الايرلندي».

مارغريت ثاتشر تتفاوض سرا مع إيران

* كما تغطي الفترة الوضع الداخلي في إيران خصوصا مع اندلاع أزمة الرهائن بين الولايات المتحدة وإيران. ويحتوي الملف على مراسلات البعثة البريطانية بالناتو وسفارة بريطانيا في طهران والمراسلات بين وزارة الخارجية ونظيرتها في واشنطن، والنقاشات حول فرض عقوبات على طهران. بعض الوثائق تبين أن بريطانيا قاومت المحاولات الأميركية القيام بعمل عسكري ضد إيران لاعتقادها أن ذلك يضعف منظمة الأمم المتحدة ويبينها على أنها غير راغبة في حل سلمي للمشكلة. وحاولت بريطانيا استغلال نجاحها في تحرير العاملين في السفارة البريطانية التي احتلت من قبل مجموعة سياسية مناوئة لإيران وتطلق على نفسها اسم «حركة تحرير عربستان» من أجل أن تلعب دورا دبلوماسيا في إطلاق الرهائن الأميركيين المحتجزين في طهران.

الرهائن الأميركيون كانوا محتجزين أساسا منذ خمسة أشهر حين قام ستة إرهابيين باحتجاز 26 إيرانيا رهائن في سفارتهم في لندن في أبريل 1980.

وخلال هجوم القوات الخاصة في الجيش البريطاني على السفارة الإيرانية! قتل خمسة من الإرهابيين الستة فيما قتل رهينتان فقط. ونجاح العملية دفع بالدبلوماسية البريطانية إلى محاولة مساعدة الدبلوماسية الأميركية.

وتبين من خلال إحدى الوثائق أن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر تفاوضت سريا مع إيران حول الإفراج عن الرهائن الأميركيين في طهران عام 1980 بعد إنقاذ الجيش البريطاني لإيرانيين احتجزوا رهائن في سفارتهم في لندن. وأظهرت أن ثاتشر أرادت استغلال نجاح العملية التي أدت في 5 مايو (أيار) 1980 إلى الإفراج عن الرعايا الإيرانيين الذين كانوا محتجزين رهائن في سفارتهم في لندن! للمطالبة في المقابل بالإفراج عن الأميركيين الذين كانوا أيضا محتجزين في سفارتهم في طهران منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 1979. وفي رسالة سرية حثت ثاتشر التي تولت رئاسة الحكومة البريطانية بين 1979 و1990 الإمام الخميني على الإفراج عن الأميركيين الـ52. وقالت «أطلب من الإمام الخميني (...) أن يأمر بالإفراج عن الرهائن الأميركيين في بادرة حسن نية تجاه الرجال الشجعان الذين جازفوا بحياتهم من أجل إنقاذ الرهائن الإيرانيين».

لكن ثاتشر امتنعت عن المقارنة بين الوضعين الحساسين في لندن وظهران. فالرعايا الأميركيون احتجزوا رهائن في سفارتهم في العاصمة الإيرانية من قبل مناصري آية الله الخميني بعدما أعلنت الولايات المتحدة أنها ستستقبل شاه إيران الذي نفي بعد الثورة الإسلامية في يناير 1979.

وأوفدت ثاتشر سفيرها جون غرين إلى طهران لتسليم الرئيس الإيراني آنذاك أبو الحسن بني صدر شخصيا رسالة. وشدد غرين على الطابع السري لهذه المبادرة التي اتخذت من دون التشاور مع الولايات المتحدة.

لكن المحاولة لم تعط نتائجها المرجوة! لأنه لم يتم الإفراج عن الأميركيين إلا في يناير 1981 أي بعد 444 يوما من الاحتجاز.