«لحظة الغفلة» قادت إلى أكبر عملية تسريب للوثائق السرية الأميركية

«ويكيليكس» كشف عن عيوب بروتوكول الإنترنت السري.. والتسريبات كان يمكن أن تكون أسوأ لولا رفض كلينتون وضع بيانات إضافية

TT

قبل التسريب الشهير، كانت الـ250 ألف برقية دبلوماسية التي حصل عليها عدد من النشطاء المناهضين للسرية قد استقرت في قاعدة بيانات سرية لا يعلمها سوى عدد قليل من الدبلوماسيين.

ولهذه القاعدة اسم بيروقراطي، هو شبكة الدبلوماسية المركزية، وهي تقدم خدمة مهمة، وهي سرعة تبادل المعلومات للمساعدة على اكتشاف التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة. ولكن مثل الكثير من الاختراعات البيروقراطية، فإنها قد توسعت بصورة لم يتخيلها مخترعوها، كما تضمنت مخاطر لم يكن يتوقعها أحد.

يعلم الملايين من الناس حول العالم الآن أن برقيات وزارة الخارجية الأميركية السرية أصبحت ملكا لـ«ويكيليكس»، لكن في الآونة الأخيرة فقط أدرك المحققون الدور الحاسم لشبكة الدبلوماسية المركزية، التي أصبحت معبرا لما يمكن أن يوصف بأكبر عملية سرقة وثائق حساسة من حكومة الولايات المتحدة في العصر الحديث.

جزئيا بسبب تصميمها، ولكن أيضا بسبب الارتباك بين مستخدميها، غدت قاعدة البيانات هذه مستودعا لمجموعة ضخمة من برقيات وزارة الخارجية، بما في ذلك تسجيلات لمناقشات الحكومة الأميركية الأكثر حساسية مع الزعماء الأجانب والدبلوماسيين. للأسف فإن الشبكة كانت تفتقر إلى نظام للكشف عن عمليات التحميل غير المصرح بها للبيانات من قبل موظفي وزارة الدفاع وغيرهم لكميات هائلة من البيانات، وذلك وفقا لمسؤولي وزارة الخارجية وخبراء أمن المعلومات. وكانت النتيجة انتكاسة كبيرة لجهود الولايات المتحدة الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم.

وفي إشارة إلى النتائج الدبلوماسية لهذه التسريبات، قال باتريك كيندي، وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون الإدارية: «لقد كان لها عواقب وخيمة. لقد تمكنا، على مدار سنوات كثيرة، من اكتساب قدر كبير من الإيمان والثقة، وقد تلاشى هذا الآن، في جميع أنحاء العالم».

ووصف مسؤولون أميركيون ومحللون أمنيون التسريبات بالقصة التحذيرية، التي تؤكد وجود عيوب في أمن البيانات الحكومية السرية، وتعرض التسريبات أيضا الجانب السلبي لتحمس الإدارة الأميركية لأنشطة تبادل المعلومات بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث خلصت التحقيقات في الهجمات إلى أن وكالات الحكومة فشلت في تقاسم معلومات مهمة كان يمكن أن تساعد على الكشف عن المؤامرة. وبسبب لحظة الغفلة هذه، كلف الكونغرس مكتب مدير الاستخبارات الوطنية بالضغط على الوكالات الحكومية الرئيسية -بما في ذلك وزارة الدفاع ووزارة الأمن الداخلي ووزارة الخارجية - لإيجاد سبل للتبادل السريع للمعلومات المتعلقة بالمؤامرات الإرهابية المحتملة، وغيرها من التهديدات.

وكانت وزارة الخارجية، التي يتبعها المئات من المكاتب والمقرات الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم، توفر بالفعل عشرات الآلاف من البرقيات السرية للمسؤولين في الاستخبارات والجيش الذين يحملون تصاريح أمنية سرية خاصة. لكن في عام 2005، وافق مدير الاستخبارات الوطنية ووزارة الدفاع على قاعدة بيانات جديدة تسمح بتدفق أكثر سلسلة لبرقيات الخارجية بين مستخدمين آخرين في شريحة كبيرة من الجهات الفيدرالية. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية بي جي كراولي: «لقد كانت متسقة مع مفهوم الحاجة إلى تبادل المعلومات بعد 11 سبتمبر. لقد طلب منا إعدادها وكان البنتاغون يتحمل تكلفتها».

وقد أطلقت الشبكة الدبلوماسية المركزية عام 2006، وتم ربطها بنظام عملاق تابع لوزارة الدفاع يعرف باسم نظام بروتوكول الإنترنت السري، أو «إس آي بي آر». وبسرعة غدا بإمكان ما يقرب من نصف مليون موظف حكومي ومتعاقد من الذين يحملون تصاريح أمنية الاطلاع على البرقيات الدبلوماسية عبر محطات كومبيوتر منتشرة في جميع أنحاء العالم.

وبسرعة أيضا حازت قاعدة بيانات وزارة الخارجية الجديدة على إشادات الجميع بوصفها نموذجا للتعاون بين الوكالات، بل إن هذه القاعدة وصلت إلى الأدوار النهائية في مسابقة التميز الحكومية عام 2006. في العام التالي، هنأ مدير الاستخبارات الوطنية جون نيغروبونتي، الذي قادت وكالته جهود التوسع في تبادل المعلومات بين الوكالات الفيدرالية، مسؤولي وزارة الخارجية على البرقيات السرية التي يعدونها والتي أصبحت «متاحة في الوقت وبالطريقة المناسبة للمستخدمين».

وكتب نيغروبونتي في رسالة بعث بها، بتاريخ 29 يناير (كانون الثاني) عام 2007، إلى وزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس: «إن التزام وزارة الخارجية يعتبر نموذجا يرسم الطريق لغيرها من الوكالات».

ووفقا لمسؤولين في وزارة الخارجية على اطلاع بإجراءات تخزين البيانات، فإن سلبيات هذه الشبكة لم تظهر إلا بعد فترة كبيرة، ومن أكبر هذه السلبيات أن البرقيات بالغة الأهمية والحساسية تظهر في قاعدة البيانات هذه بقصد أو عن غير قصد، بغض النظر عما إذا كان هذا هو مكانها أم لا.

وتمر آلاف البرقيات وغيرها من الوثائق عبر وزارة الخارجية بصورة يومية. ولضمان توجيهها بشكل صحيح، يتم إعطاء كل منها رمزا أو مجموعة من الرموز، على غرار الرمز البريدي. وهذا الرمز المكون من 6 حروف يسمح لجهاز الكومبيوتر بنقل البيانات إلى الشبكة الدبلوماسية المركزية، والسماح لضباط الاستخبارات والعسكريين الأميركيين المنتشرين في جميع أنحاء العالم بالاطلاع عليها.

وخلال الممارسة العملية، فإن موظفي السفارات والخارجية يقومون بوضع الرمز بصورة عشوائية، وغالبا دون فهم تام لما يعنيه. ووفقا لأحد مسؤولي الوزارة، الذي تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته لأنه غير مصرح له بمناقشة هذا الموضوع، فإنه «لم يكن واضحا ما هي البيانات التي يجب تقاسمها والتي لا يجب تقاسمها. لذلك انتهى بنا الأمر بنشر برقيات تحتوي على معلومات محرجة مثل المعلومات المتعلقة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهل هذا النوع من المعلومات هو الذي يحتاج إليه المقاتل في أرض المعركة؟».

وبحسب وزارة الخارجية الأميركية، فإن عددا قليلا من مسؤولي الوزارة قد عبروا عن قلقهم مبكرا، من الدخول غير المصرح به على قاعدة البيانات، ولكن معظم هذه المخاوف كانت تركز على تهديد خصوصية الأفراد. وخلال الممارسة العملية، اعتمد مسؤولو الوزارة على مستخدمي البيانات - معظمهم من أفراد الجيش والاستخبارات - في حراسة هذه الشبكة ضد سوء الاستعمال.

وقال كيندي، وكيل وزارة الخارجية، إن الوزارة لم تكن معدة لتحديد ومنح كلمات المرور للمستخدمين أو تنفيذ متابعة دقيقة مستقلة لمئات الآلاف من المستخدمين المصرح لهم من وزارة الدفاع باستخدام قاعدة البيانات.

وقال كيندي: «إن مسؤولية ضمان معالجة المعلومات وتخزينها ومعالجتها تقع على عاتق الوكالة المتلقية، وذلك وفقا للإجراءات المرعية في الجهات الحكومية».

ولمنع التسلل غير المشروع لهذه الشبكة قامت وزارة الخارجية لفترة طويلة بتبني عدد من الإجراءات الحمائية التي تجعل من الصعب بالنسبة إلى الفرد تحميل معلومات حساسة على ذاكرة محمولة مثل محرك أقراص محمول أو قرص مضغوط، لكن كيندي اعترف بأن الإدارة لم يكن لديها وسائل لمتابعة ممارسات الوكالات الأخرى المتعلقة باستخدام البيانات الخاصة.

ويشتبه المحققون الأميركيون في أن برادلي مانينغ، المجند في الجيش الأميركي الذي كان مقيما في الخليج، قام بتحميل 250 ألف برقية على أقراص مدمجة من محطة كومبيوتر خاصة بالجيش الأميركي في الكويت، ثم قدمها إلى «ويكيليكس»، الذي أشرك معه بعض الصحف ونشر المئات منها على الإنترنت.

وفي أعقاب التسريب، قام مسؤولو وزارة الخارجية بمنع الوصول إلى شبكة الدبلوماسية المركزية من الخارج ريثما يعاد النظر في الإجراءات الحمائية المتعلقة بها. وقال كيندي إن هناك بعض الوثائق السرية التي يجري توفيرها للوكالات الأخرى من خلال شبكة مختلفة مصممة للتعامل مع بيانات سرية للغاية.

والعزاء - وإن كان قليلا - يكمن في أن التسريبات كان من الممكن أن تكون أسوأ من ذلك، ففي مايو طلب أكبر ضابط بالمخابرات في إدارة أوباما من وزارة الخارجية زيادة كمية المواد المتاحة للوكالات الأخرى من خلال شبكة الدبلوماسية المركزية.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»