الغجر.. صداع فرنسا في 2010

محاولات للترحيل عرضت باريس لانتقادات أوروبية

TT

تفجرت خلال عام 2010، قضية مجتمع الرحالة (الغجر) في فرنسا الذين يعرفون أيضا باسم الـ«روما»، مما أدى إلى مصادمات مع الشرطة وخلافات سياسية طالت الداخل الفرنسي وعلاقات باريس مع شركائها في الاتحاد الأوروبي. وينقسم الـ«روما» أو (الغجر) الموجودون في فرنسا إلى مجموعتين، الأولى هاجرت إليها منذ فترة بعيدة وحصلت على جنسيتها وتقدر أعدادهم بنحو 400 ألف نسمة، أما الفئة الثانية، فتضم قرابة 12 ألفا ينتمون لوسط أوروبا، ويعيش بعضهم في فرنسا منذ فترة تصل إلى 10 سنوات فقط. وبداية الأحداث تفجرت في أغسطس (آب) حين استيقظت مدينة سان أغنان الفرنسية، على نبأ مصرع شاب من مجتمع «الغجر»، لأسباب لا تزال غامضة، مما أثار أعمال شغب على أيدي نحو 50 فردا مسلحين بقضبان حديدية اجتاحوا مركز الشرطة المحلية.

وبالمثل، أشعل مقتل لص مشتبه فيه، من الـ«روما» أيضا، خلال مطاردة الشرطة له، أعمال شغب كبيرة بمدينة غرينوبل. ووصف المتحدث الرسمي باسم الحكومة، على أثرها، الغجر بأنهم «مصادر لنشاطات الاتجار غير القانوني ومعايير معيشة صادمة على نحو بالغ واستغلال الأطفال في التسول والدعارة والجريمة».

وفي الشهر نفسه أعلن نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، «الحرب» على الجريمة والعنف، وتفكيك معسكرات الـ«روما» و«إجلاء سكانها على نحو منظم». وبالفعل، شرعت فرنسا في تنفيذ حملتها الكبرى لترحيل الـ«روما من البلاد»، وأعلنت في أغسطس (آب) عزمها إغلاق 300 معسكر غير قانوني للـ«روما» خلال الشهور الثلاثة التالية.

وخلال مؤتمر صحافي في سبتمبر (أيلول)، شدد وزير الهجرة الفرنسي، إيريك بيسون، على أن بلاده «ستبقي على سياسة طرد المهاجرين غير الشرعيين. وهذا الأمر ليس بجديد»، منوها بأنه تم بالفعل طرد 5 آلاف من الـ«روما» خلال العام. موجة ترحيل الـ«روما» فتحت أبواب الجحيم على الحكومة الفرنسية، حيث تعالت أصوات التنديد بإجراءاتها ضد الـ«روما» باعتبارها تمييزا عنصريا، خصوصا أنها تأتي متزامنة مع تصريحات مدوية لساركوزي طالب خلالها بسحب الجنسية الفرنسية عن المدانين بقتل شرطي أو بتعدد الزوجات، وإخلاء المخيمات العشوائية للغجر، منددا بانتشار الجريمة في أوساط سكانها.

كما رأى منتقدو باريس في الإجراءات ضد الـ«روما» قيودا على حرية التنقل بين الدول الأوروبية تتنافى مع قواعد الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى أن غالبية الـ«روما» لديها قادمون من رومانيا وبلغاريا.

من جهتها، نددت لجنة الأمم المتحدة لـ«القضاء على التمييز العنصري» بالسياسة الفرنسية حيال الأقليات وبـ«عدم وجود إرادة سياسية» لديها لمواجهة ما تشهده من «تصاعد» للأعمال العنصرية.

كما مرر البرلمان الأوروبي، في سبتمبر، قرارا يدعو باريس إلى وقف أي عمليات ترحيل للـ«روما» فورا، واصفا هذه السياسة بأنها «تمييز». وخلال الشهر ذاته، واجهت فرنسا موجة انتقادات عاتية خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل حول نفس القضية، وأبدت غضبا بالغا إزاء مقارنة فيفيان ريدينغ، المفوضة الأوروبية لشؤون العدل، إجراءات ترحيل فرنسا للـ«روما» باضطهاد اليهود على أيدي النازيين في فرنسا أثناء الاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية. وهددت بملاحقة فرنسا قانونيا بحجة خرقها قوانين الاتحاد الأوروبي، واصفة ما يلقاه الغجر بأنه «مخزٍ».

ويبدو أن التعليقات أثارت غضب ساركوزي بشدة لدرجة دفعته للسخرية من ريدينغ باقتراحه أن تستضيف الـ«روما» في بلادها، لكسمبورغ. ووصفت فرنسا التعليقات بأنها «غير مقبولة». وفي محاولة للتهدئة، أبدت ريدينغ أسفها لاحقا على سوء فهم تعليقاتها.

ووردت أنباء عن وقوع جدال حاد خلال القمة بين ساركوزي وجوزيه مانويل باروزو، رئيس المفوضية الأوروبية، حول القضية. ومع ذلك، لم تخرج القمة بأي قرارات حيال القضية، وأرجئ النظر فيها إلى القمة الأوروبية القادمة بغية وضع استراتيجية طويلة الأمد.

الموقف اللافت جاء من جانب الرئيس الروماني، ترايان باسيسكو، الذي أعلن أنه: «نتفهم موقف الحكومة الفرنسية. وفي الوقت ذاته ندعم الحق غير المشروط لكل مواطن روماني للانتقال داخل الاتحاد الأوروبي من دون قيود»، لكنه استطرد قائلا إنه على استعداد لإرسال شرطة إلى فرنسا للمساعدة في عمليات الترحيل.

ويمكن تفهم هذا الموقف بالنظر إلى أن القلق الأكبر الذي يساور بوخارست، التي تعتبر باريس عادة حليفا لها في مفاوضات الاتحاد الأوروبي، إمكانية إقدام فرنسا على إعاقة انضمامها إلى منطقة شينغين داخل أوروبا، التي يجري الانتقال بين دولها من دون الحاجة لاستخرج جوازات سفر.

من جهتها، ظلت فرنسا متشبثة بموقفها، مؤكدة شرعية الإجراءات ضد الـ«روما»، مشيرة إلى أنه وفقا لمعاهدة انضمام رومانيا وبلغاريا إلى الاتحاد الأوروبي في 2007، فإنه يمكن وضع بعض القيود على حرية تنقل رعاياهما لمدة سبع سنوات. كما أعلنت أن ترحيل الغجر إلى موطنهم الأصلي «يتفق» أيضا مع القانون الأوروبي الذي يقضي بحق أي دولة في إنهاء إقامة أي شخص ليس له وظيفة ويشكل عبئا اجتماعيا.

وردا على الاتهامات المتصاعدة ضدها داخليا وخارجيا بانتهاك حقوق الإنسان، نفت باريس استهداف عمليات الترحيل لمجموعة عرقية بعينها، مؤكدة أن القرارات تتخذ بناء على كل حالة على حدة، ومصرة على أن معظم عمليات الترحيل جرت بشكل اختياري، وأن غالبية المرحلين عرضت عليهم مبالغ مالية تعادل نحو 330 يورو للبالغ و100 يورو للطفل.

إلا أن هذه الأقوال شككت في جديتها مذكرة داخلية بتاريخ 5 أغسطس 2010 جرى توزيعها على رؤساء الشرطة، وتم تسريبها في سبتمبر الماضي، وتنص على أنه «يجب إخلاء 300 معسكر أو مستوطنة غير قانونية في غضون ثلاثة أشهر، والـ(روما) أولوية».

اللافت للنظر أن ترحيل فرنسا للـ«روما» ليس بالأمر الجديد، حيث رحلت قرابة 10 آلاف منهم العام الماضي. لذا؛ تصاعدت اتهامات ضد ساركوزي بأنه عمد إلى استغلال الـ«روما» كأداة سياسية شعبوية لنيل أصوات الدهماء، واستغلال مزيج معروف من تأجيج المخاوف ومشاعر كراهية الأجانب، مما أثبت فعاليته للتغلب على تراجع شعبية ساركوزي ودفع خصومه إلى اتخاذ موقف الدفاع.

وبالفعل، كشفت استطلاعات للرأي أن 65% من الفرنسيين يؤيدون سياسات حكومتهم الصارمة ضد الـ«روما». وواجه ساركوزي اتهامات من خصومه بأنه يعمد لتشتيت الأنظار بعيدا عن الفساد بإثارة قضية الـ«روما». ففي يوليو (تموز) الماضي، واجه الرئيس الفرنسي اتهامات بالتورط في فضيحة فساد تعرف بـ«فضيحة ليليان بتانكور»، وهي واحدة من أكثر سيدات فرنسا ثراء، ومتهمة بالتهرب الضريبي بمساعدة مزعومة من وزير العدل الفرنسي، إيريك وورث، بالإضافة إلى اتهامات بالتورط في فساد مالي عام 1994 وتلقيه رشى في عملية بيع غواصات فرنسية لباكستان.

المثير أن الانتقادات تصاعدت أيضا من داخل معسكر ساركوزي، فمثلا، اتفق جان بيير غراند، وهو من «الاتحاد من أجل حركة شعبية» الذي ينتمي إليه الرئيس، مع ريدينغ في تشبيه السياسة الفرنسية بعمليات الاحتجاز الجماعية بحق الغجر أثناء الاحتلال النازي لفرنسا.

وفي 19 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلنت ريدينغ أن المفوضية لن تلاحق فرنسا قضائيا، وأنها راضية عن الاستجابة الفرنسية «الإيجابية» لطلب المفوضية الرسمي.

يذكر أن الـ«روما» يمثلون أكبر أقلية عرقية في الاتحاد الأوروبي ويتراوح عددهم بين 10 و12 مليون شخص داخل الدول الـ27 الأعضاء وتلك المرشحة للانضمام، طبقا لتقديرات المفوضية الأوروبية.