مشروع متنزه مائي في بغداد يكشف حدود وخروقات برنامج التمويل الأميركي

«البنتاغون» أرادته دليلا على عودة الحياة إلى طبيعتها لكنه تحول إلى شاهد على الفشل

TT

في ربيع 2008 رأى الجنرال ديفيد بترايوس أنه قضى وقتا كافيا في النظر إلى البحيرة الجافة المهجورة على ضفاف نهر دجلة من مروحيته، فأعطى أوامره بإعادة المياه إليها وبناء متنزه مائي يستمتع به كل من في بغداد. وتؤمن العقيدة العسكرية التي تقف وراء هذا المشروع بأن المال يمكن أن يكون بفاعلية الرصاص. وتم التركيز على هذا المبدأ بشكل غير مسبوق أثناء فترة عمل الجنرال بترايوس كقائد للقوات الأميركية في العراق بحيث أصبح حجر الزاوية في الحرب في أفغانستان التي يتولى منصب قائد القوات الأميركية بها حاليا.

أما اليوم فإن متنزه بحيرة الجادرية جاف تقريبا بعد مرور أكثر من عامين على مراسم الافتتاح التي قام بها الجيش الأميركي والتي تضمنت عزف فرقة عسكرية وتزلجا على الماء. ودب الخراب في الجزء الأكبر من المشروع، فقد أصبحت الألعاب أكواما من المعدن الملتوي وتحولت محركات المركبات المائية إلى قطع غيار.

ويشير التاريخ المضطرب للمشروع إلى حدود وسوء استخدام برنامج وفر لقادة الجيش الأميركي 5 مليارات دولار لإقامة مشاريع في العراق وأفغانستان خلال الست سنوات الماضية. ومنح هذا البرنامج القادة مرونة كبيرة في معالجة الحاجات الملحة دون وجود الكثير من العراقيل البيروقراطية.

لكن في كثير من الأحيان، مثل حالة متنزه بحيرة الجادرية، لم تؤد الاستثمارات التي تشملها هذه الخطة المعروفة باسم «برنامج الاستجابة الطارئة للقائد العسكري» سوى إلى تقدم وهمي مؤقت. فقد أوضحت افتقار الولايات المتحدة إلى المراقبة وسلطت الضوء على قصور حكومة عراقية كانت تحاول أميركا دعمها.

ويقول مسؤولون عسكريون أميركيون إن البرنامج وسيلة لا تقدر بثمن لتحويل الأعداء إلى أصدقاء وتهميش الجماعات المتطرفة ومواجهة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار. لكن مشرعين أميركيين ومدققين حكوميين انتقدوا طريقة إدارة البرنامج، وقالوا إن القادة العسكريين استغلوا البرنامج في إقامة مشاريع ضخمة وغير ملائمة ومشبوهة في كثير من الأحيان. ويقول النقاد إن المبادرات الأصغر التي يمولها البرنامج لم تحظ بالمراقبة اللازمة مما جعل قياس مدى فاعليتها أمرا صعبا. كما أن المسؤولين العراقيين نادرا ما كانوا يساهمون في تلك المشروعات مما جعلها غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل.

وبدأ بعض القادة العسكريين الأميركيين مؤخرا التعبير عن تحفظهم بشأن التمويل مشيرين إلى عدم وجود دليل قوي على تحقيق الملايين، التي تم ضخها في الاقتصاد العراقي بعد زيادة عدد القوات الأميركية في 2007، للنتائج المرجوة. ويقول بعض القادة العسكريين إن الأموال تضر أكثر مما تنفع في بعض الأحيان.

كان الليفتنانت كولونيل دينيس ياتس مسؤولا عن المنطقة التي تقع فها البحيرة. لم يشعر دينيس بالارتياح بشأن احتمال إنفاق مليون دولار وإضاعة وقت رجاله على المشروع نظرا لأن الجزء الأكبر من بغداد لا يزال ساحة معركة. وقال ياتس الذي كلف بمهمة تجديد المتنزه في ربيع 2008: «لقد كان الأمر مرهقا وفوضى وخرابا. لقد كانت البحيرات جافة والمطاعم والأكشاك مهجورة ومنهوبة. وكان هناك حفر في الأسفلت نتيجة القصف بمدافع الهاون والصواريخ».

وكانت الجماعات الشيعية المسلحة في قتال يومي مع القوات الأميركية العراقية ببغداد آنذاك وكانت المئات من الصواريخ تسقط على المنطقة الخضراء التي تقع على ضفة النهر المقابلة للمتنزه. وأضاف ياتس في مقابلة مؤخرا: «لقد كنا مثل نيرون الذي يعزف على الكمان بينما تحترق روما».

لكن لم يكن هناك فرصة للجدال، حيث أوضح ياتس قائلا: «فالشعار في ذلك الوقت كان عودة الأمور إلى طبيعتها. وكان هذا ليمثل خطوة كبيرة في هذا الاتجاه».

وكانت الهيئة العامة للسياحة العراقية أقامت هذا المتنزه، الذي كانت البحيرة أهم عناصر الجذب التي تميزه، قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لكنه سرعان ما أغلق بعد انهيار نظام صدام حسين. وخلال السنوات التالية للغزو الأميركي، اتخذ الحزب الشيعي الذي كان يدير الهيئة موقفا عدوانيا تجاه الموقع المطل على النهر بسبب تحوله إلى مكان لتلاقي العشاق.

وكان البعض بمن فيهم مدير المتنزه يحلم بتحويله إلى واحة في مدينة تضربها الانفجارات بصورة يومية. ولكن حسب ياتس سرعان ما اتضح أن أكثر المسؤولين العراقيين غير مهتمين بإعادة المياه إلى البحيرة أو افتتاح مطاعم تطل عليها.

ورغم مخاوفه، عين ياتس مقاولا كان قد أشرف على مشروعات إعادة تعمير معقدة بناء على أوامر وحدات للجيش الأميركي. وأشرف المقاول على إصلاح مضخات المياه واستأجر مهندسين. وأقام مسؤولون عسكريون مراسم الافتتاح في أغسطس (آب) 2008 وتضمنت سباق جري حول بغداد وسباقات بالكراسي المدولبة وإطلاق بالونات هيليوم واستعراضا عسكريا لمركبات الشرطة العراقية.

وقال الكولونيل مارك دوهرست، قائد اللواء في المنطقة آنذاك، في مقابلة خلال الاحتفال الذي نشر على موقع «يوتيوب» فيما بعد: «إنه افتتاح هام بالنسبة إليهم، حيث يوضح تحسن الحالة الأمنية لدرجة تسمح بخروجهم مع أبنائهم».

وجذب المتنزه عددا كبيرا من الناس خلال بقية العام، لكن بحلول ربيع 2009، تم قطع الكهرباء عن المنطقة وتوقفت المضخات عن العمل مما أدى إلى جفاف البحيرة التي تبلغ مساحتها 12,140 قدما مربعا.

وقال محمود العاني، نائب مدير المتنزه، في مقابلة في أحد المطعمين المطلين على البحيرة الجافة: «لسنا فخورين بهذا الوضع. محطة ضخ المياه هي روح المتنزه، فبدونها لا يوجد متنزه». وأوضح أن بعض المسؤولين الأميركيين حاولوا أن يجعلوه يوقع على وثيقة في خريف 2008 تفيد بتحمل مسؤولية الإبقاء على عمل المتنزه، لكنه رفض لأن الحكومة العراقية لم تشارك في إعادة عماره.

ورفض الجنرال راي أوديرنو، الذي شغل أعلى منصبين قياديين في الجيش الأميركي من 2007 إلى 2010، الإدلاء بأي تعليق في هذا المقال. وقال عن برنامج «الاستجابة الطارئة للقائد العسكري» إنه أحد العوامل الرئيسية التي أتاحت للقادة العسكريين الأميركيين تحسين الحالة الأمنية في بغداد.

وأحال متحدث باسم بترايوس، الذي ينسب إليه فضل المساعدة في إنجاح الحرب في العراق والذي يشغل حاليا منصب قائد القوات الأميركية في أفغانستان، الأسئلة الخاصة بالمتنزه وإدارة برنامج «الاستجابة الطارئة للقائد العسكري» إلى البنتاغون.

وقال متحدث باسم البنتاغون في تصريح إن إعادة افتتاح متنزه الجادرية المائي «احتفي به كرمز لعودة الأمور إلى طبيعتها». وكذلك قال عن البرنامج في التصريح إنه وسيله «هامة» من وسائل عمليات مكافحة التمرد. فقد أوضح قائلا: «تطورت إدارة برنامج الاستجابة الطارئة للقائد العسكري بشكل كبير بمرور الوقت، حيث تم أخذ الدروس المستفادة في الاعتبار في التوجيه والإجراءات». وقال مسؤولون عسكريون إن «مولدات الكهرباء الضخمة في الحي وأعمدة الإنارة في الشوارع التي تعمل بالطاقة الشمسية التي تم تمويلها من البرنامج أظهرت حسن النية من خلال تحسين حياة العراقيين».

ومنذ عام 2004، منح الكونغرس البنتاغون 5 مليارات دولار لتمويل البرنامج وتم تخصيص 3,8 مليار منها للعراق. وينظر الكونغرس حاليا في طلب إدارة أوباما بالحصول على 1,3 مليار دولار لتمويل البرنامج لعام 2011. وسيتم تخصيص المبلغ كله باستثناء 200 مليون دولار إلى أفغانستان.

لكن المدققين الحكوميين وبعض القادة العسكريين يقولون إن البنتاغون أخفقت في عمل دراسة شاملة توضح أيا من تلك المبادرات قد أثبتت جدواها. ويقول الكولونيل كريغ كولير، قائد إحدى الكتائب في بغداد عام 2008: «لم أر أي جهد مبذول لمراجعة هذه المشروعات. لقد سمحنا لنظرية أن تصبح مبدأ مسلما به دون تأمل عميق».

على الجانب الآخر فشلت مشروعات أخرى ممولة من البرنامج في أنحاء العراق أو لم تبدأ بالأساس. فقد تم نهب العديد من الملاعب التي بنيت حول بغداد بتمويل من برنامج «الاستجابة الطارئة للقائد العسكري». ولم تتم إقامة قاعة احتفالات مفتوحة في مدينة الصدر بلغت تكلفة بنائها نحو 250 ألف دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين بسبب اعتبار المسؤولين المحليين وسكان المنطقة أن الطابع المحافظ للمنطقة لا يسمح بإقامة عروض مفتوحة. وقال حسن الزرقاوي، أحد كبار شيوخ القبائل في مدينة الصدر والذي يقع مسكنه على الجانب المقابل للموقع المقترح بناء القاعة فيه: «لا نسمح بالرقص والغناء في الأماكن المفتوحة».

لا تقتصر المشروعات المشكوك بها، التي يمولها البرنامج على بغداد فقط، حيث تفاجأ ميجور جنرال مارك هيرتلينغ عندما تولى قيادة الفرقة المسؤولة عن المناطق المضطربة في شمال العراق في نهاية عام 2007، بطريقة إدارة البرنامج. وقال: «ما رأيته كان مشروعات غير مترابطة وغياب للمراقبة. افتقرت أكثر المشروعات إلى آلية متابعة توضح مدى تقدمها. رغم أني لست مهندسا أو رجل أعمال، أعلم جيدا أن هذه الأمور تؤدي إلى كارثة».

وقال هيرتلينغ إنه يعتقد في المبدأ القائل بأن المال يمكن استخدامه كسلاح، لكنه أوضح أن «طريقة إنفاق الجيش الأميركي والهيئات الحكومية الأخرى للأموال آنذاك كانت عشوائية وكان يجب أن تكون أكثر استراتيجية». وأضاف هيرتلينغ أن برنامج «الاستجابة الطارئة للقائد العسكري» أصبح بالنسبة إلى كبار المسؤولين العراقيين وشيوخ القبائل مصدرا الثراء. وأوضح قائلا: «لقد كان من الواضح أن البعض يستغلنا. لقد كان الأمر مثل المزحة بالنسبة إلى العديد من شيوخ القبائل الذين ظلوا يزيدون ثرواتهم عن طريق الوعد بفعل أشياء كانوا يعلمون يقينا أنهم لا يستطيعون فعلها». وقال هيرتلينغ إنه أصدر توجيها لمرؤوسيه بتقييد استخدام الأموال المخصصة للبرنامج وسعى إلى ضمان أن كل مشروع مكمل للعمليات العسكرية. وقال إن الكثير من زملائه شعروا بالضغط عليهم لإنفاق أكبر قدر ممكن من الأموال. وأوضح قائلا: «لقد كان الأمر يتعلق بالمال. فإذا لم يكن ما تنفقه مقاربا لما ينفقه زملاؤك، فستعد رجلا لا يدرك الأمر جيدا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»