مدينة في مالي تعاني.. بسبب شروط اليونيسكو

جينيه تريد تحديث مبانيها الطينية لكن تخشى فقدان إدراجها كموقع للتراث العالمي ونفور السياح

TT

وقف أبو مايغا داخل فناء منزله القذر يدخن غاضبا، لأن منزله الذي بني من الطوب الطين قبل 150 عاما له قيمة ثقافية ولذا لا يمكنه تحديثه وبات لا يسمح له أن يضع أرضيات أو أبوابا أو حتى رش مياه. وعبر مايغا وهو كابتن قارب نهري متقاعد، عن ضيقه قائلا: «من يقبل العيش داخل منزل له أرضية من الطين؟».

تبدو الواجهة الكبيرة بشرفاتها المخروطية وأنابيب الصرف المصنوعة من خشب النخيل عتيقة، وربما يساعد ذلك على توضيح سبب إدراج هذه المدينة القديمة شرق مالي ضمن مواقع التراث العالمي بصورة رسمية. ولكن تنص القواعد التي حددتها منظمة اليونيسكو، على أنه غير مسموح بإجراء أي عمليات بناء تغير من الشكل الأصلي للمباني.

ويقول مايغا: «عندما توضع مدينة على قائمة التراث، فإن ذلك يعني أنه يحظر تغيير أي شيء. لكننا نريد تطوير المكان، ونريد المزيد من المساحات والمزيد من الأجهزة، نريد أشياء عصرية. يجعلنا ذلك كله نشعر بالغضب».

يتردد هذا الصراع الثقافي في مواقع التراث العالمي في مختلف أنحاء أفريقيا والعالم. وعلى الرغم من أن ذلك قد يكون أمرا جيدا بالنسبة إلى السياحة، يشتكي المقيمون في هذه الأماكن من أنهم يتحولون إلى ما يشبه قطع المتحف ومن أن حياتهم تتوقف حتى يمكن للزائرين النظر إليهم. ويقول لازار إلوندو أسومو، رئيس وحدة أفريقيا بمركز التراث العالمي التابع لليونيسكو: «ترتبط القضية في جينيه بحصول الناس على ما يجعلهم يشعرون بالراحة، واستخدام المواد المناسبة من دون الإضرار بالقيمة المعمارية».

وذكر أسومو قائمة بالمواقع التي تشهد توترات مماثلة، ومن بينها جزيرة سانت لويس في السنغال المجاورة وجزيرة لامو في كينيا وجزيرة موزمبيق قبالة سواحل الدولة التي تحمل نفس الاسم، إضافة إلى مدن آسيوية وأوروبية مثل ليون في فرنسا.

يقف المسجد الكبير في جينيه وراء ضم المدينة إلى الخريطة، فهو أكبر مبنى من الطوب الطين في العالم، ويبدو فريدا لدرجة أنك تحسب أنه جاء من كوكب آخر، وتلوح للعيان قلعة رملية فوق الميدان الرئيسي. ويعود أصل هذا النمط المعماري الذي يعرف بالسوداني إلى الساحل الأفريقي.

وتسيطر على واجهة المسجد ثلاث مآذن فريدة في شكلها، مربعة وتضيق في اتساعها في الأعلى وعليها أعمدة رفيعة فوقها بيضة نعام. وتبرز ألواح من أشجار النخيل داخل المسجد في شكل صفوف مثل أعواد تخليل الأسنان، وتصنع بذلك سقالة دائمة تساعد السكان على التجمع فوق المبنى من أجل إعادة وضع الجص على الطين، وهو طقس يقام سنويا خلال شهر فبراير (شباط) وتشارك فيه المدينة بالكامل.

تعد جينيه المدينة التوأم لمدينة تمبكتو ورغم أنها أقل شهرة، فإنها الأفضل من ناحية المحافظة على أصالتها. وقد وصلت كلتا المدينتين إلى ذروة الثروة والسلطة في القرن السادس عشر، لكونهما على مفترق طرق تجارة بضائع مثل الذهب والعاج والعبيد في منطقة الصحراء. كما كانت المدينة بوابة ساعدت على انتشار الإسلام في مختلف الأنحاء. وعندما تحول الملك إلى الإسلام في القرن السادس عشر، هدم قصره وبنى مسجدا. وفي النهاية أشرف المستعمرون الفرنسيون في مالي على إعادة بنائه في عام 1907.

ومرة أخرى، كان المسجد الكبير على وشك الانهيار عندما وصلت مؤسسة «أغاخان» لبدء مشروع ترميم قيمته 900.000 دولار، بحسب ما يقوله جوزفين ديلاريو، وهو أحد مهندسين معماريين اثنين أشرفا على ذلك. وقد تسببت عملية وضع الجص سنويا في زيادة عرض الحوائط بأكثر من الضعف وإضافة طبقة من الطين عرضها ياردة على السقف. وأصبح السقف ثقيلا جدا، على الرغم من وجود أعمدة سميكة داخل المسجد تدعم السقف المرتفع، حيث يوجد عمود مقابل كل اسم من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين.

وفي عام 2006 تسبب مسح ترميم أولي في حدوث أعمال شغب. وقام المحتجون بسرقة الأشياء الموجودة داخل المسجد وهاجموا مباني داخل المدينة ودمروا سيارات. وكان واضحا أن أعمال الشغب تعود إلى توترات مشتعلة بين سكان المدينة البالغ عددهم 12000، لا سيما الشباب الذين شعروا بأنهم مجبرون على العيش في وضع بائس، بينما يجني إمام المسجد ومعه مجموعة صغيرة من العائلات البارزة مكاسب كبيرة من السياحة.

ويبدو أن الشعور بالإحباط مستمر. فعلى الرغم من أن المسجد يؤكد على الطابع الوطني، يبدو السكان غاضبين من السياحة أكثر من سكان مدن أخرى كثيرة في مالي. ودائما ما تجدهم متجهمين من دون ابتسام، ويتصرفون بعنف عندما تتجه إليهم الكاميرات. ومع قرب الانتهاء من عملية ترميم المسجد تصرف المدينة الانتباه إلى مشكلات مهمة أخرى وهي مشكلة الصرف الصحي وترميم قرابة 2000 منزل آخر.

ورث الحاج دياكاتي (54 عاما)، وشقيقه ثلاثة منازل من أبيهما. ويكره دياكاتي الانحناء ليتمكن من المرور عبر مداخل هذه المنازل، التي لا توجد بها غرفة تتسع لسرير مزدوج. ويشير إلى أنه بالإضافة إلى ذلك تريد زوجاته وزوجات شقيقه خزانات ملابس. ويقول دياكاتي إن فريق ترميم ترأسه هولندية ويشرف على إنقاذ أكثر من 100 منزل رفض توسيع أي غرفة لتتسع لخزانات الملابس. ولذا قام بإخراجهم وهدم حائط داخل المنزل يزينه قوسان ضيقان. ولكن تهدم المنزل بالكامل، وبكت المهندسة الهولندية عندما رأت ما حدث.

تقع جينيه داخل جزيرة صغيرة وسط دلتا نهر النيجر وروافده. وكانت المياه مصدرا خصبا للطين حتى تراجع الطمي بسبب فترة جفاف استمرت طويلا خلال السبعينات من القرن الماضي. واستخدم البناءون المزيد من الرمل، مما أدى إلى إضعاف الطوب. كما أكل السكان الجوعى قشر الأرز بدلا من أن يستخدموه في البناء.

وكثرت المشكلات المرتبطة داخل المناطق العمرانية. ولم يتضمن مشروع توصيل المياه إلى المدينة صرفا صحيا، ولذا نجد مياه الصرف الصحي تفسد الشوارع غير الممهدة. وتشوه أكوام النفايات جسور النهر. وانتشرت القمامة إلى الطوب، حيث تظهر أكياس بلاستيكية سوداء من حوائط المنازل، كما تسيطر رائحة منتنة على المكان.

واشتكى السياح، وفي 2008 دعت اليونيسكو المدينة إلى القيام بشيء، حسبما يقوله فان يا موسى، مدير البعثة الثقافية داخل المدينة. ولا تعد القمامة والصرف الصحي سببا لإخراج موقع من قائمة التراث العالم، ما لم يؤثر ذلك على المباني الموجودة. ويقول وزير السياحة داخل مالي نداي باه إن المشكلة تكمن في تحديث المدينة من دون الإضرار بأجوائها. ويضيف: «إذا دمرت التراث الذي يأتي الناس ليشاهدوه، وإذا دمرت تاريخا يمتد لألفي عام، ستفقد المدينة روحها».

يشعر المقيمون في جينيه بالفخر بسبب تراثهم ويقرون بأن إدراج المدينة على قائمة اليونيسكو جعلها مشهورة. لكنهم يتساءلون عن جدوى البقاء فيها على ضوء عدم وجود أي مكاسب ملموسة وإذا كانوا سيضطرون إلى العيش وسط الطين.

ويريد الكثير من ملاك المنازل الاحتفاظ بواجهات المنازل المتميزة ولكن مع تغيير الأجزاء الداخلية وحظر قواعد اليونيسكو أي تغيرات كبيرة يودون القيام بها.

وقام ماهامام باميوي تراوري، رئيس نقابة البنائين القوية، بمسح الغرف داخل منزل كابتن القارب النهري المتقاعد، وحدد الأشياء التي كان سيغيرها لو كانت قواعد التراث العالمي أكثر مرونة. وأضاف، قبل أن يرقد على الأرضية الطينية بغرفة بلا نافذة مساحتها 6 أقدام في 3 أقدام: «إذا أردت أن تقدم يد العون لشخص فعليك أن تساعده بالصورة التي يريد، ومن غير المناسب إجباره على أن يعيش في وضع معين». وأضاف: «هذه ليست غرفة، ربما تشبه القبر».

* خدمة «نيويورك تايمز»