مواطنو هايتي يعانون من فقر مدقع رغم المساعدات الهائلة

متشائمون من المستقبل.. وليس أمامهم سوى الحاضر

TT

ساعدت إحدى أكبر عمليات الإغاثة الإنسانية في التاريخ وأكثرها تكلفة على إنقاذ أرواح الكثيرين، وذلك في أعقاب زلزال ضرب البلاد يناير (كانون الثاني) الماضي، ومع ذلك لم تقدم جهود الإغاثة الكثير من أجل تخفيف معاناة الهايتيين العاديين بعد ذلك.

وفيما أثنى مسؤولون أميركيون ومسؤولون لدى مؤسسات إغاثة دولية وداخل دول مانحة على الجهود المبذولة، والتي تضمنت مراحيض وخياما وتحصينات، يشعر المستفيدون من هذه المساعدات غير المسبوقة بالقلق بسبب عدم وجود تقدم ملحوظ على أرض الواقع، ولديهم شكوك إزاء مليارات من الدولارات الموعود بها لجعل حياتهم أفضل.

ويقول ديوسن فيل، وهو خياط ما زالت ماكينة الخياطة القديمة الخاصة به محطمة وموجودة بين الأنقاض: «لدينا قليل يبقينا على قيد الحياة، ولكنه لا يكفي لأن نعيش».

ويعيش فيل على أقل القليل، حيث ينام مع عائلته داخل خيمة بالية في سهل يواجه فيه خطر الفيضانات بالقرب من السفارة الأميركية. وينطبق الأمر ذاته على 810 آلاف من السكان يعيشون داخل 1150 مخيما.

ويوفر متعهدون من مؤسسة «أوكسفام» لهم المراحيض، فيما تدفع مجموعة ألمانية مقابل قدر قليل من الرعاية الصحية وتدير مدرسة صغيرة، وقامت جمعية خيرية تابعة للموسيقار يكليف جين بتوفير خيام وتقديم مياه نظيفة.

وكل بضعة أسابيع، يأتي متعهد تابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية - يدفع «أموالا مقابل العمل» - ليستعمل نحو عشرة أشخاص يحصلون على أقل من 5 دولارات يوميا مقابل جرف الزبالة من الشوارع. ويعد ذلك أكبر برنامج عمل داخل هايتي، وقد عمل فيه 350 ألف شخص، ولكنه لا يزال عملا قصير المدى، ويستمر عادة لأسبوع أو أسبوعين. وتبلغ التكلفة الإجمالية في العام 19 مليون دولار أو أقل من 50 دولارا لكل عامل بعد مصاريف التشغيل.

ويقول فيل: «لا يأتي شيء من الحكومة الهايتية، وبالنسبة إلى المواطنين داخل الخيام فإنهم لا يرون أملا في مستقبل، وليس أمامهم سوى الحاضر».

منذ الزلزال الذي ضرب البلاد في الثاني عشر من يناير (كانون الثاني) 2010، أصبحت الطرق في حال أسوأ، والكهرباء تعمل بصورة متقطعة، فيما ارتفعت تكاليف الأرز. ولا يوجد سوى مقدار قليل من الوظائف. ويغيب الرئيس رينيه بريفال عن المشهد العام، ويسيطر الشلل السياسي على الدولة، ولا يزال الغموض يكتنف نتائج الانتخابات الرئاسية الفوضوية التي عقدت في الثامن والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وبعد الكشف عن مشاكل وقعت خلال الانتخابات، من المقرر أن يوصي فريق متابعة من منظمة البلدان الأميركية بعدم إدراج المرشح الرئاسي المدعوم من الحكومة في الجولة الثانية من التصويت، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة «أسوشييتد برس» يوم الاثنين الماضي.

لقد أنفق المجتمع الدولي أكثر من 3.5 مليار دولار في صورة مساعدات إغاثة فورية، وتعهد بإنفاق 4.5 مليار دولار على مساعدات إضافية لتجاوز الكارثة في 2010 و2011، هذا إلى جانب 1.1 مليار دولار أخرى ديون إغاثة للحكومة الهايتية المعدمة.

وداخل محل الحلاقة «فانتستك»، كان كلينور فليورنت يحاول أن يشغل مولدا خاصا به. ولكن لم تكن هناك كهرباء ولا مقصات، وعلق فليورنت على ذلك قائلا: «لا أرى تقدما، ولا أرى شيئا. يستفيد من التقدم أشخاص بعينهم».

وحظيت مؤسسات إنسانية دولية، وهي مؤسسات غير حكومية تعد بمثابة حكومة موازية داخل هايتي، بترحيب شديد خلال الأسبوع الذي تلا زلزال قوته 7 بمقياس ريختر سوّى العاصمة الهايتية بالأرض وخلف 230 ألف قتيل و300 ألف جريح.

ولكن في الوقت الحالي ينظر الكثير من المواطنين إلى هذه المؤسسات بعين الريبة، ويقول الحلاق فليورنت: «الوحيدون الذين يجنون أموالا داخل هايتي هي المؤسسات غير الحكومية التي تستخدم الشعب الهايتي من أجل جمع المال وأداء ثمن سياراتهم الكبيرة».

ولم يتحقق حلم إقامة 100 ألف مأوى مؤقت، وتجمدت عملية إنشاء منازل جديدة، فيما عدا على أطراف المدينة حيث يغطي عشرات الآلاف من الأشخاص الأماكن الموجودة إلى جانب التلال بأكواخ في مجتمعات تلقائية يطلقون عليها «كنعان» و«القدس».

ويقول كين إيزاك، نائب الرئيس المسؤول عن البرامج لدى «ساماريتان بيرس»، وهي منظمة إغاثة مسيحية إنجيلية غير طائفية قامت ببناء 10 آلاف مأوى مؤقت: «إنها مثل سيتي سولاي». وتقع سيتي سولاي داخل بورت أوبرنس وهي من أسوأ المناطق العشوائية في العالم.

وعندما تجمع ممثلو الدول المانحة ومنظمات مدنية وحكومية داخل هايتي في الأمم المتحدة خلال مارس (آذار) الماضي من أجل التخطيط لمستقبل هايتي، وعدوا بعدم تكرار هذا النمط من التنمية غير المخطط لها والمتعجلة. وقال إيزاك: «تمثل هايتي عقدة كارثية مزمنة، وهي أكثر بيئة تعقيدا عملت فيها طوال حياتي».

وداخل استوديوهات إذاعة «سغنال إف إم»، قال المالك والمدير ماريو فيو، مستذكرا ما حدث، إنه لمدة ساعة بعد الزلزال كانت محطته تذيع أغنية «هوتل كاليفورنيا» لفرقة «إيغلز» التي بها عبارة لا تنسى تقول: «يمكن أن تدفع ما عليك، لكنك لا تستطيع الرحيل أبدا».

ويقول فيو، الذي يدير أيضا واحدة من أكبر شركات الأمن الخاصة داخل هايتي: «أشعر بالأسف، ولكنه يبدو وكأنه مر أسبوع على وقوع الزلزال، ويبدو وكأن الأغنية لا تزال تعزف ولا شيء يحدث. وقع الزلزال وبعد ذلك ظهرت الكوليرا، ثم الانتخابات، والآن الأزمة التي تسببت فيها الانتخابات. نحن الآن عبارة عن دولة منقسمة، لقد خسرنا التماسك».

ولا يظهر داخل بورت أوبرنس سوى القليل من مشاريع إعادة البناء الكبرى. وربما تكون المشاريع الأكثر وضوحا داخل قلب وسط المدينة المهجور، حيث تقوم شركة خدمات التليفون المحمول الكاريبية «ديجيل» بإعادة بناء نسخة من سوق الحديد التاريخي. وبدا الجد على العمال يوم الاثنين الماضي حيث كانوا يسعون إلى الانتهاء قبل الافتتاح الكبير يوم الثلاثاء.

وأزيل جبل من الأنقاض داخل المدينة، ولكن رغم ذلك فإنه لا يمثل سوى 5 في المائة من أكوام الأنقاض. ويوجد خلاف بين الدول المانحة بشأن من عليه الدفع مقابل ذلك. وقام مهندسون بعمليات فحص سريعة لأكثر من 380 ألف منزل داخل بورت أوبرنس. ويحتاج نصف المنازل إلى إعادة ترميمها أو هدمها، ولكن لم تصدر الحكومة الهايتية حتى الآن قواعد بناء. ويقول مسؤولون إنهم سيقومون بذلك بحلول مارس (آذار) المقبل.

ويقول إريك كالايس، وهو خبير عالمي في الجيولوجيا داخل هايتي وأستاذ في جامعة بورديو أخذ إجازة لمدة عام ليقدم استشاراته للحكومة الهايتية: «يمكن الحصول على أفضل رصد (سيزمي) وأفضل مخططات مخاطر في العالم، ولكن إذا لم تطبق قواعد البناء، فأنت لم تقم بشيء». ووصف عامه بأنه «محبط بصورة لا تصدق».

ويشك خبراء في الزلازل حاليا في أن صدعا أصغر لم يكن معروفا من قبل - وليس الصدع الرئيسي الذي يمتد عبر المدينة - يقف وراء زلزال العام الماضي، الذي أدى إلى تدمير مكاتب 27 وزارة من بين 28 وزارة، ومعها المدارس والمستشفيات والمكاتب وخلف أكثر من 1.5 مليون بلا مأوى بعد تهدم المنازل والشقق السكنية.

ويقول كالايس: «لم أر حتى الآن الكثير من عمليات إعادة البناء، ولكن أرى الكثير من عمليات الترقيع التي تعطي لك انطباعا زائفا بأنه تم تصليح شيء ما ولكن لم يحدث إلا مجرد إخفاء له». وأضاف: «سيكون هناك زلزال أكبر وأشد ويخلف مقدارا أكبر من الدمار، وسيكون أقرب من بورت أوبرنس. ويحتمل أن يظهر في عمر الأبنية الموجودة حاليا».

ولا تزال التوابع مستمرة، وقد اهتزت المدينة مرة أخرى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ودخل اقتصاد البلاد الهش، ولكنه كان رغم ذلك يشهد نموا عام 2009 قبل وقوع الزلزال، إلى مرحلة ركود على الرغم من المليارات التي يتم إنفاقها. ولا يوجد سوى مقدار قليل من الاستثمارات التجارية. كما أن الوظائف في الوقت الحالي أقل من معدلاتها قبل وقوع الزلزال، وتوفر مؤسسات الإغاثة الدولية مقدارا كبيرا من هذه الوظائف.

ويقول بيير ماري بويسون، الاقتصادي البارز لدى «سوغبانك»، الذي ينتشر في مبناه الإداري الكثير من الزجاج المتهدم: «مَن كسب المال خلال 2010؟ إنها المنظمات غير الحكومية».

وتراجعت التجارة والتصنيع والسياحة خلال 2010، وتضررت الشركات التي تقدم الغذاء والمياه والرعاية الصحية، كبيرها وصغيرها، بسبب التدافع الهائل للبضائع المجانية والخدمات من جانب المنظمات غير الحكومية والحكومات الأجنبية. ويقول بويسون: «الاقتصاد الذي تدفعه مساعدات إنسانية دائما ما يكون في وضع سيئ». ويضيف: «تساور رجال الأعمال شكوك، وقد شعروا بالضجر. نحن في انتظار حكومة جديدة. وتوجد الكثير من الخطط على الورق، ولكن نحن في انتظار حكومة جديدة تحول ذلك إلى قوانين وإلى واقع».

وتضغط الحكومة الهايتية على المنظمات الأهلية كي توقف تقديم الغذاء وغيرها من الخدمات داخل المخيمات لإجبار المقيمين على العودة إلى منازلهم أو إعادة بنائها. ويطالب المقيمون في مخيم كريه الرائحة داخل «شام دو مارس» أمام القصر الرئاسي المنهار، بالحصول على مال من أجل الرحيل.

ويرحل الناس، ولكن يقول نيغل فيشر، مدير عمليات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة: «لسنا متأكدين من المكان الذي يذهبون إليه».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»