الحريري للبنانيين: ركنوا بنود الحل جانبا وطالبوا فقط بإقصائي

تمسك بترشحه لرئاسة الحكومة وقال: قدمت المبادرة تلو المبادرة والتضحية تلو التضحية * قال: تجاوبت مع توجهات خادم الحرمين والتزمت بكامل البنود التي توصلت إليها الجهود القطرية - التركية.. ولكن مرة جديدة يتوقف قطار الحل بفعل فاعل

رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، سعد الحريري، خلال كلمة وجهها الى اللبنانيين أمس في بيروت (رويترز)
TT

أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، في كلمة وجهها للبنانيين، أنه سيذهب إلى الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية ميشال سليمان الاثنين المقبل، ملتزما بترشيحه لرئاسة الحكومة من كتلة نواب المستقبل وسائر الحلفاء، مشيرا إلى أن «المهم بالنسبة له أن يكون الاحتكام إلى الدستور والمؤسسات الدستورية قاعدة يعمل بموجبها الجميع، وأن لا يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد».

ولفت إلى أنه «لا يشعر في هذه الساعات أننا أمام حائط مسدود، بل إن المسؤولية الوطنية توجب علي العمل على إيجاد ثغرة بهذا الحائط»، معتبرا أنه «إذا كان المطلوب إبعاد سعد الحريري عن رئاسة الحكومة فلا بأس، فهناك مسار دستوري ونرتضي أي نتائج تخرج عنه، وبغض النظر عن الترهيب الذي يحيط المسار في الشارع».

وكان الحريري وجه كلمة إلى اللبنانيين من «بيت الوسط» في حضور رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة وأعضاء الكتلة. وفيما يأتي نص الكلمة:

«أيها اللبنانيون، أيها الإخوة والأخوات، أيها الأصدقاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قبل نحو ست سنوات، حملتني الأقدار إلى الحياة السياسية اللبنانية. وما كان لهذا الأمر أن يحصل، وأن أقف متحدثا إليكم اليوم، وإلى كل الأشقاء والأصدقاء في العالم، لو لم تكن هناك جريمة إرهابية أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الأبرار.

لقد اتخذت مع العائلة قرارا بخوض هذا المعترك، بهدف العمل على خطين: خط المحافظة على الإرث الوطني للرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومنع الجهات التي خططت للجريمة من تحقيق أهدافها باقتلاع حالة رفيق الحريري من الحياة الوطنية اللبنانية. وخط الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة في جريمة الاغتيال الإرهابية، وسائر الجرائم السياسية، التي طالت الكثير من قيادات لبنان ورموزه الفكرية والإعلامية والعسكرية. المحافظة على الإرث الوطني للرئيس الشهيد، لا تقل شأنا عن التزام قضية العدالة، بل هما عنوانان لقضية واحدة، اسمها حماية لبنان، وهي القضية التي نذرت نفسي للدفاع عنها، وأقسمت أمام الله سبحانه وتعالى وأمام جميع اللبنانيين أنني لن أتخلى عنها، مهما تبدلت الظروف وتعاظمت التحديات.

اليوم، نحن أمام منعطف مصيري جديد في تاريخ لبنان. وقد سبق لي أن أعلنت قبل عشرة أيام، أن كرامة أهلي وأبناء وطني هي عندي أغلى من أي موقع وسلطة. وهذا ليس مجرد موقف للاستهلاك السياسي أو العاطفي، لأنه في أساس قناعاتي الوطنية، وفي أساس التربية التي نشأت عليها والتي تدفعني إلى تجديد هذا العهد أمام جميع اللبنانيين.

إن نقطة دم واحدة تسقط من أي لبناني هي عندي أغلى من كل مواقع السلطة. فلا سلطة يمكن أن تعلو بالنسبة لي على التزامي عهود العيش المشترك بين اللبنانيين، وعلى تمسكي بالنظام الديمقراطي البرلماني، سبيلا لتنظيم العلاقات بين المجموعات اللبنانية.

فعندما نقول، أيها الإخوة والأخوات، إن لبنان يقف أمام منعطف مصيري، فهذا يعني أن علينا أن نحدد الاختيار: في أي وجهة يجب أن نتحرك، وفي أي اتجاه نتحمل مسؤولية السير بلبنان. نحن قيادات لبنان، السياسية والروحية، نملك بأيدينا المصير الذي سيذهب إليه لبنان. وليس صحيحا على الإطلاق، أن مخططات الخارج هي التي ترسم لنا خريطة الطريق إلى الهاوية. إذا قررت قيادات لبنان أن يتحرك الوطن نحو الهاوية، فإن الوطن سيقع حتما في هذه الحفرة، وإذا قررت قيادات لبنان أن تنأى بالوطن عن الهاوية، فإن لبنان سيبقى على بر الأمان. لعبة الشارع، واستخدام الشارع، والتهديد بالشارع، هذه لعبة لا تمت إلى تربيتنا الوطنية بأي صلة.

نحن لن نذهب إلى الشارع، لأننا في الأساس اخترنا الذهاب إلى المؤسسات. ولن نلجأ إلى سياسة الويل والثبور وعظائم الأمور، لأننا اخترنا في الأساس الاحتكام إلى الدستور، ولا ضيم علينا في أن نتقبل النتائج السياسية لأي مسار ديمقراطي، حتى ولو كانت هذه النتائج تحصل بفعل موجات متتالية من الضغوط.

لقد جاهدت، أيها الإخوة والأخوات، على مدى الشهور الماضية، والله على ما أقول شهيد، جاهدت في سبيل درء الفتنة عن لبنان، سواء بالكلمة الطيبة، أو بالممارسة السياسية المسؤولة، واخترت سلوك الطريق الذي اختاره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، منذ قمة الكويت قبل عامين، وقدمت المبادرة تلو المبادرة، والتضحية تلو التضحية، ووجدت في المساعي المشتركة للمملكة العربية السعودية وسورية سبيلا لخروج لبنان من نفق التجاذبات السياسية والمذهبية، وجسرا للعبور نحو مرحلة جديدة في علاقاتنا الوطنية.

إنما، وللأسف الشديد، توقف العبور على هذا الجسر، وانتقلنا إلى مرحلة جديدة من المساعي الأخوية والصديقة المشكورة، ارتكزت إلى جهود قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ثم إلى التحرك المشترك لكل من الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، ودولة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ومباركة خادم الحرمين الشريفين.

ولقد أتيح لكل اللبنانيين والأشقاء العرب أن يكونوا على بينة من هذا التحرك، الذي بدأ في دمشق، وأعاد إنتاج حركة دبلوماسية جديدة، على قاعدة الالتزامات التي توصلت إليها المساعي السعودية - السورية، فكانت الزيارة المشتركة التي قام بها إلى بيروت كل من دولة رئيس الحكومة القطري الأخ الشيخ حمد بن جاسم ومعالي وزير خارجية تركيا الأخ أحمد داود أوغلو.

والأمانة تفرض علي أن أصارح اللبنانيين جميعا، وليس فئة واحدة أو جهة سياسية واحدة من اللبنانيين فحسب. الأمانة توجب علي أن أتوجه إلى الجميع من كل الأطياف والاتجاهات لأقول: لقد ارتقينا في تعاملنا مع كل المساعي، لا سيما المساعي السعودية - السورية، ثم مع الجهود التركية - القطرية، ارتقينا إلى مستوى الشهادة الكبرى التي يمثلها الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

وهذا يعني أنني قررت الدخول في التسوية إلى أبعد مدى ممكن، وأنني تجاوبت مع توجهات خادم الحرمين الشريفين، والتزمت كامل البنود التي توصلت إليها الجهود القطرية - التركية المشتركة للحفاظ على العيش المشترك. ولكن، مرة جديدة يتوقف قطار الحل بفعل فاعل، ويعودون مع ساعات الفجر لإبلاغ الموفدين القطري والتركي بمطلب واحد لا ثاني له: غير مقبول عودة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. ركنوا بنود الحل جانبا، ولم يتقدموا بأي ملاحظة أو أي تعليق، وطالبوا فقط بإقصاء سعد الحريري عن التكليف برئاسة الحكومة.

ربما من حق اللبنانيين أن يستعيدوا من خلال هذه التطورات تجربة عام 1998، وأن يتذكروا الحملة السوداء التي استهدفت الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتلك الأبواق التي اندلعت لتنادي باقتلاع رفيق الحريري من السلطة. المشهد يتكرر هذه الأيام، والأبواق التي كانت عادت هي ذاتها، ومعها جهات أعماها الجموح إلى السلطة، والهدف من كل ذلك واحد: محاكمة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإخراج سعد الحريري من المعادلة الوطنية والإعلان عن اغتياله سياسيا.

أيها الإخوة والأخوات، أيها الأصدقاء، لا أشعر في هذه الساعات أننا أمام حائط مسدود. بل خلاف ذلك، أشعر أن المسؤولية الوطنية توجب علي العمل على إيجاد ثغرة كبيرة في هذا الحائط المسدود. إذا كان المطلوب إبعاد سعد الحريري عن رئاسة الحكومة فلا بأس، هناك مسار دستوري نرتضي أي نتائج يمكن أن تنشأ عنه، وبغض النظر عن مناخات الترهيب التي تحيط بهذا المسار في الشارع وغير الشارع.

نحن سنذهب إلى الاستشارات النيابية التي سيجريها فخامة رئيس الجمهورية يوم الاثنين المقبل، بإذن الله، وسندلي برأينا وفقا للأصول، ملتزما بترشيحي لرئاسة الحكومة من كتلة نواب المستقبل وسائر الحلفاء. المهم، بالنسبة لنا، أن يكون الاحتكام إلى الدستور والمؤسسات الدستورية، قاعدة يعمل بموجبها الجميع، وألا يكون هناك صيف وشتاء على سطح واحد، فتصبح العملية الديمقراطية رهينة لإرادة الشارع.

لقد كنت، أيها الإخوة والأخوات، في الثالثة من العمر عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وأنا الآن في سن الأربعين. ما يعني أنني عشت 37 سنة من عمري، أي 90% من هذا العمر، في وطن يتأرجح بين الحرب والسلام، بين الانقسام والوحدة، وبين الأمان والقلق.

اليوم أستعيد هذه المسيرة وأرى نفسي في كل شباب وشابات لبنان، أتطلع للخلاص من هذه المحنة التاريخية، التي طاولت بيوت ومناطق وطوائف جميع اللبنانيين دون استثناء، ورافقت في خلالها أبا جاهد في سبيل تقدم وطنه وأمته، وواجهت من موقعي في العمل السياسي ظروفا وتحديات ومتغيرات تشبه إلى حد كبير تلك التي واجهت والدي الرئيس الشهيد، وحملته في غير مناسبة وموقع على إعلاء شأن العقل، وتحكيم المصلحة العامة على المصالح الشخصية الضيقة.

إننا ننتمي إلى مدرسة وطنية وسياسية وأخلاقية، اسمها مدرسة رفيق الحريري، التي اختارت في أحلك ساعات الغضب أن تقفل طريق الثأر والانتقام، وأن تسلك طريق الحقيقة والعدالة.

ورفيق الحريري تعرفونه جيدا فتى عربي الأحلام، تدرج في حقول النجاح الوطني والقومي والإنساني، ولمع في ميادين الاقتصاد والإعمار والسياسة، فترك أثرا طيبا في العمل العربي المشترك، وأطلق حيوية كبرى في الحياة الوطنية اللبنانية، إلى أن اختاره الله سبحانه وتعالى شهيدا في سبيل أمته ووطنه وكرامة شعبه.

لقد رفض لعبة الدم في السلطة وخارج السلطة، ووهب عمره لقضية السلام في وطنه، فصارع الحرب الأهلية، حتى صرعها بهمة الأشقاء، والشركاء في الوطن، من خلال اتفاق الطائف، ورسم بعد ذلك خريطة الطريق لتجديد الثقة بلبنان وإعادته إلى موقعه الطبيعي في العالم.

لقد اغتالوه، واغتالوا معه، ومن بعده، نخبة من رجال لبنان، لكنهم لم يتمكنوا من اغتيال روح العيش المشترك بين اللبنانيين. لأن دماء رفيق الحريري لم تكن، ولن تكون، حقلا تشتعل فيه صيغة الوفاق الوطني، ولأن قضية رفيق الحريري لن تكون عاصفة يغامرون من خلالها بمصير لبنان. والفتنة ليست هي الثمن المطلوب للحقيقة والعدالة. لعن الله الفتنة ومن يوقظها ويتسبب فيها.

نحن، أيها الإخوة والأخوات، لم نقطع كل هذه المسافة، ولم نقدم كل هذه التضحيات، ولم نتصدر واجهة العمل لإعمار البلد، وندعم أسس النمو الاقتصادي والاجتماعي، وصمود لبنان وشعبه في وجه العدو الإسرائيلي، كي نسلم كل هذه المكاسب إلى الفتنة. إن نظامنا السياسي، القائم على تداول السلطة وصيغة العيش المشترك، لا يعني شيئا، ولن يعني شيئا إذا سلمنا مستقبل أولادنا لمزيد من النزاعات والحروب. نحن أمناء على مسيرة وطنية، سنبقى بإذن الله أوفياء لها ولشهدائها الأبرار. سنبقى أوفياء لوحدة لبنان وعروبته، وكرامة شعبه، وستبقى أولويات الناس الاجتماعية والاقتصادية والإنمائية في صدارة اهتمامنا، سواء كنا في السلطة أو خارج السلطة.

لن نتخلى عن مسؤولياتنا وواجباتنا، لا في المجلس النيابي، ولا في الحياة السياسية، ولا في تيار المستقبل، ولا في العمل مع كل الأصدقاء والحلفاء، في سبيل العبور نحو دولة متقدمة وحديثة، سيدة عربية حرة ومستقلة.

إن الظلم لن يمنعني عن مواصلة المسيرة، طالما أراد الله سبحانه وتعالى لي أن أواصل العمل بها.

بسم الله الرحمن الرحيم «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار».

صدق الله العظيم.

أستودعكم الله جميعا، عشتم وعاش لبنان».

* الحريري «مرتاح الضمير» يخوض معركة النائب الأخير

* بدا الحريري مرتاحا قبيل إلقاء كلمته، وبعدها. دخل القاعة وسط تصفيق مؤيديه، واختار أن يقوم بجولة شملت كل الحضور قبل إلقاء كلمته التي توجه فيها إلى اللبنانيين.

في الدردشة التي سبقت الكلمة المتلفزة، رفض ضاحكا الرد على الشائعات التي بثت في شارع «المعارضة» عن إمكانية إعلانه التنحي، ودعوة جماهيرهم إلى «عدم الاحتفال»، قائلا بابتسامة: «سأتخذ موقفا يتناسب مع شخصيتي وقناعاتي». أما بعد الكلمة، فقد بدا أكثر راحة «كأنما انتزعت شيئا ثقيلا عن صدري». الحريري الذي كان واثقا من أن فرص عودته إلى رئاسة الحكومة تتضاءل مع ما نقل عن موقف حليفه النائب وليد جنبلاط بدا ميالا إلى «تفهم» مواقف الأخير في مواجهة الضغوط التي يتعرض إليها. لكنه يبدي عتبه على الذين وقف معهم في انتخابات رئاسة البرلمان ولم يقفوا معه في استحقاق رئاسة الحكومة، مع أن الموقفين متشابهان.

الحريري «مرتاح الضمير» مقتنع أنه قد يغادر إلى ضفة المعارضة، لكنه مع ذلك مصمم على المضي بترشيحه، سعيا للحصول على تصويت «النائب الأخير»، وإذا كان البعض قد حصل على تنازلات من سعد الحريري «في سبيل درء الفتنة»، فهو مقتنع بأن أيا كان الشخص الذي سيأتي خلفا له فلن يكون قادرا على إلغاء المحكمة الدولية.

على أي حال، يبدو الحريري وفريق عمله واثقين من أن خليفته لن يستطيع أن يحكم في ظل وجود شخصية كسعد الحريري في المعارضة.