أثرياء الهند يحيون طقوسا دينية بدأت تندثر

جهود للحفاظ على ترانيم وصلوات اعتبرتها اليونيسكو من الإرث غير الملموس للبشرية

كاهنة تعلم طفلة طقوس الفيدك في إحدى ضواحي ولاية حيدر آباد الهندية (أ.ف.ب)
TT

على مدى عشرات القرون حافظ الكهنة الهندوس في منطقة موندور على أداء طقوس نار تمتد على مدى 12 يوما، يجري خلالها تلاوة تراتيل وتقديم قرابين لإله الشمس، والصلاة من أجل عالم خال من الطاقة السلبية. وقد توارى هذا التقليد في العصور الحديثة، وخشي المتعبدون الهندوس من إمكانية اندثاره مع تبني الشباب الهندي لنمط الحياة الغربية وثقافة البذخ في الإنفاق.

لكن في خضم دولة تتسارع وتيرة التحديث فيها، يحاول الأثرياء الجدد إعادة العادات القديمة، حيث تجمع عدد من أبناء المدن، غالبيتهم من المهنيين، للمساعدة في إحياء طقوس النار هذا الربيع في قرية لم تشهد إقامة مثل هذا الحدث منذ 35 عاما.

ويقول نيلاكنتان بيلاي، المصرفي وعضو مؤسسة فارثاثي تراست التي تأسست حديثا، والتي تنظم الحدث: «نحن نرغب في بذل قصارى جهدنا لضمان الحفاظ على الثقافة الهندية. ففي دولة متطورة حديثة كالهند، يبدي الجميع استعدادهم للمساهمة في مثل هذه الجهود».

لم تقتصر الظاهرة على موندور فقط بل إن الأثرياء في الهند يعبرون عن فخرهم بالماضي واستخدام أموالهم للحفاظ عليه. ويجري إحياء الاحتفالات الهندوسية الصغيرة الآن في المدن الكبيرة بفضل الشركات الراعية. فقد تبرع رئيس شركة «أنفوسيز»، وهي أضخم شركة لتكنولوجيا المعلومات في الهند، بأكثر من 5 ملايين دولار لجامعة هارفارد لمشروع الأدب الكلاسيكي الهندي. ويقوم الهنود في المدن بتحميل الأبيات الدينية السنسكريتية كرنات لهواتفهم الجوالة.

ويرى محللون أن هذه الجهود تشكل جسرا ناجحا بين العولمة والطقوس الدينية الهندوسية. ولا يزال رجلان عجوزان يرتديان ثيابا خضراء في ولاية كيرالا الجنوبية قادرين على تأدية هذه الطقوس، وربما كانت أقدم وأطول طقوس نيران دينية في العالم. في كل صباح يقوم شنكاراناريانان أكيثيريبادو، الرجل ضئيل الحجم الذي يبلغ من العمر 77 عاما بمسح معجون خشب الصندل والرماد في جبهته ويربط شعره الرمادي، ثم يبدأ في تعليم الأغاني للشباب، ويسارع إلى تمرير هذا التقليد قبل حلول شهر أبريل (نيسان)، حيث يقام الحدث في قرية بانجال. وقال: «هذه الطقوس الأكثر صعوبة والأسمى منزلة بين كل طقوس قربان الحريق. لا يمكن تعلمها من مشاهدة الفيديو أو سماع الأسطوانات».

تعتبر الفيداس، أو «المعرفة» باللغة السنسكريتية، أقدم طقوس مقدسة هندوسية، وهي تتألف من عشرات الآلاف من الترنيمات التي تصف عبادة الطبيعة وأداء الطقوس وألغاز الوجود.

وقد نقلت الأثيراترام والطقوس الأخرى بصورة شفوية عبر القرون إلى عدد بسيط مختار - من المعلمين إلى التلاميذ، أو من الآباء إلى الأبناء في مجتمع الصفوة البراهمينية، أعلى طبقة في الترتيب الهرمي الاجتماعي الصارم في الهند. واليوم لا توجد سوى 10 عائلات براهمينية في ولاية كيرالا المخولة بممارسة هذه الطقوس، بحسب قول أكيثيريبادو.

شهدت القرية التي سيقام بها الاحتفال آخر نوع من هذه الطقوس عام 1975 عندما قام أستاذ أميركي بجمع الأموال من حول العالم لإعادة إحياء هذه الطقوس. وكان فريتس ستال، أستاذ دراسات جنوب وجنوب شرقي آسيا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي بتصوير الحدث وكتب كتابا حوله. وقبل وصول ستال كانت الطقوس تمارس بصورة سرية في تجمع للعائلات البراهمينية.

ويقول سيفاكاران نامبوديري، الطبيب الذي سيكون أحد المنشدين في أبريل: «هذه هي المرة الأولى التي تفتح فيها أمام الغرباء، لا الأجانب فقط بل الهنود من جميع الفئات».

في السابق شارك في تمويل الحدث معهد سميثسونيان والمؤسسة الوطنية للأعراق الإنسانية والجامعات الغربية، لكن الأموال التي جمعت العام الحالي والتي بلغت 200.000 دولار تم جمعها من الهند فقط. ويتوقع حضور ستال ومجموعة من طلبة هارفارد الحدث.

وقال إن من المتوقع أن يتم إعداد مذبح كبير على شكل طائر، مخصص لإله النار والحيوانات التي سيتم التضحية بها. وستكون رمزية وينثر اللبن والزبد والأوراق العطرية والأدوية الطبية في النار. وستستمر النار في الاشتعال إلى أن تنتهي الطقوس.

ويقول كبار السن إنه في كل مرة تقام فيها الطقوس يسقط مطر غير موسمي ويحوم نسر على المكان. ويقول الكهنة إن ترانيم الأثيراترام صعبة الأداء، وينبغي على من يقود الشعائر أن يعيش على اللبن والفاكهة والقمح خلال الطقوس التي تمتد 12 يوما. ولا يمكنه أن يخدش نفسه أو أن يحلق أو أن يتحدث إلى أي شخص، كما ينبغي عليه أن يبقي قبضتيه مغلقتين بإحكام طوال تلك الفترة ثم تفتحان فيما بعد بالماء الساخن، وينبغي أن يتم إشعال النار عبر احتكاك قطعتين من الخشب من شجرة خاصة، وقد يتطلب الأمر ساعات لإشعالها.

وفي اليوم الحادي عشر يعتقد الكهنة أن كل الآلهة نزلت من الجنة للاستماع إلى غناء التراتيل الخاصة. ويقول أكيثيريبادو: «إذا ما حدث خطأ أثناء تلاوة التراتيل يموت كبير الكهنة في العام التالي، إنها الطقوس الأخيرة بالنسبة للمنشدين مثلنا».

وفي عام 2003 اعتبرت منظمة اليونيسكو، أن ترانيم الفيدك، تعد واحدة من أهم عناصر الإرث الشفوي وغير الملموس الذي عرفته البشرية، وقد أسهم هذا التميز في جمع الأموال وحث الجهود للحفاظ على هذا التراث. وتقول سودها غوبالاكريشنان، التي أسهمت في إجراء البحث الحكومي من أجل مقترح اليونيسكو: «كيف حافظ أسلافنا على هذه المجموعة الكبيرة من مادة الفيدك دون نص مكتوب؟ لقد تحول المنشدون إلى آلات تسجيل وناقلات، لكن الكثير منها فقد خلال المائة عام الأخيرة».

عندما كانت غوبالاكريشنان تبلغ من العمر 12 عاما حضرت الشعائر التي أقيمت عام 1975 في بانجال مع جدها، وتحكي ذكرياتها عن هذه المرة: «سقطت الأمطار بعدها مباشرة، إنها إعادة إحياء لتقليد قديم أهمل منذ زمن بعيد».

لكن الكثير يقولون إن التقليد الشفهي الهندي الذي لم يتزعزع لا يملك سوى فرصة ضئيلة للاستمرار في القرن الحادي والعشرين. ويقول فينود بهاتاثيراباد (45 عاما) محقق جرائم الإنترنت الذي أنشأ موقعا خاصا يوثق الممارسات والمنح الدراسة للبراهمينية في كيرالا: «التكنولوجيا هي الحل الوحيد الآن، فسوف تتوقف هذه الطقوس عن الانتقال من جيل إلى جيل شفهيا». ويقول بهاتاثيراباد إن والده «ينظر إلى موقع الإنترنت ويقول: أنا أريد لابني أن يصبح مهندسا ليتقدم، لا أن يعود بالزمن إلى الوراء».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»