وليد جنبلاط رجل التحولات الكبرى في الأزمنة الصعبة.. معظمها فرضته ظروف سياسية قاهرة

راداراته القوية تلتقط في لبنان إشارات التغيرات الخارجية

TT

يقف الزعيم الدرزري اللبناني، وليد جنبلاط، في هذه الأيام عند مفترق طرق مصيري لا يحسد عليه، فالتطورات السياسية الأخيرة وضعته أمام خيارات أحلاها مرّ، في ظلّ تسارع الأحداث التي تخرج شيئا فشيئا عن مسار الصراع السياسي، وتقترب بسرعة من السيناريوهات الدراماتيكية الناشئة عن سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري، وتكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة، والدخول في أزمة بدأت سياسية على خلفية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكن تطوراتها مفتوحة على احتمالات التفجير الأمني وما قد يستتبع ذلك من هبوب لرياح الفتنة التي تشرّع أمامها كلّ الأبواب. معظم اللبنانيين الذين راقبوا المؤتمر الصحافي الذي اعلن فيه رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي قراره الوقوف هو وحزبه إلى جانب سورية والمقاومة في الاستشارات النيابية التي أفضت إلى تسمية نجيب ميقاتي، كانوا يدركون مدى الإرباك الذي يواجهه في تقديمه الاعذار لتوجهه عكس قناعاته السابقة، سيما أن قاعدته الشعبية لم «تهضم» تماما انقلابه على فريق 14 آذار الذي كان مؤسسه الأول وأعتى صقوره، وأكثر قادته تحديا لما كان يسمّى بـ«محور الممانعة».

صحيح أن القليلين يتفهمون تقلبات وليد جنبلاط الكثيرة منذ أن تسلّم الزعامة الدرزية في ريعان شبابه، إثر اغتيال والده كمال جنبلاط في ربيع العام 1976. وربما القليلون يغفرون له هذه التقلبات التي كان يمهّد لها دوما من خلال راداراته القوية التي تلتقط إشارات التغيّرات الدولية والإقليمية، وتأثيراتها على الواقع اللبناني. لكن للإنصاف لا بد من الاعتراف أن التحولات الكبرى التي طبعت حياة هذا الرجل كانت بفعل الظروف القاهرة التي حتمتها عليه مجريات الأحداث ومقتضياتها. ولا ينسى أحد من اللبنانيين مرارة الخيارات التي ذهب اليها جنبلاط إثر اغتيال والده، حيث وجهت يومذاك أصابع الاتهام إلى سورية، لكنه قال كلمته الشهيرة أنه قرر أن يسامح ويطوي هذه الصفحة الأكثر مأسوية في حياته، وأن يزور دمشق بعد نحو الشهر من الاغتيال. وهو بقي أقوى حلفاء دمشق حتى العام 2000 بغض النظر عن المكاسب التي حققها من خلال علاقته المميزة مع القيادة السورية، ورغم الطلعات والنزلات التي كانت تمرّ بها هذه العلاقة. أما التغيرات الداخلية بالنسبة له ولحزبه إبان سنوات الحرب الأهلية فكانت كثيرة، فلم يغب عن بال اللبنانيين تحالفه مع حركة أمل بزعامة نبيه بري (رئيس المجلس النيابي الحالي) على ضرب حركة «المرابطون» السنية في بيروت في العام 1984 وتصفيتها، قبل أن يتحولا إلى أعداء (الإشتراكي وأمل) ويخوضا معارك قاسية بشكل متقطع ولأشهر طويلة خلّفت عشرات الضحايا، وبقيا على هذا العداء الذي تحول إلى تحالف جديد إثر الإتفاق الثلاثي الذي أبرم في دمشق بين بري وجنبلاط وإيلي حبيقة.

أما التحول السياسي المفاجئ في حياة جنبلاط السياسية، والأول بعد اتفاق الطائف فكان في ربيع العام 2001، بعد أشهر قليلة من نداء المطارنة الموارنة الشهير في خريف العام 2000 الذي طالبوا فيه بخروج الجيش السوري من لبنان. ومعلوم أن القنبلة الجنبلاطية فجرت في المجلس النيابي في كلمة له دعا فيها سورية إلى تطبيق اتفاق الطائف، وتنفيذ بند إعادة إنتشار الجيش السوري والتمركز في البقاع تمهيدا للانسحاب من كامل لبنان، وعزا جنبلاط ذلك لكون إسرائيل انسحبت من لبنان بفعل تضحيات الشعب اللبناني ومقاومته وانتفاء أسباب بقاء الجيش السوري على اراضيه.

يومذاك واجه جنبلاط هجوما عنيفا ومركزا من النواب المحسوبين على سورية وهم كثر، وكان الهجوم الأعنف عليه من النائب البعثي عاصم قانصوه. وأقفلت بعدها أبواب دمشق بوجه زعيم المختارة من دون أن يتراجع هو، واستكمل مشواره مع البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير بما أسماها «مصالحة الجبل» التي ترجمت بزيارة صفير إلى الجبل لأول مرّة منذ الحرب الأهلية في العام 1975، والاستقبالات الحاشدة التي نظمت في قرى الجبل لسيّد بكركي، والتي ردّ عليها حلفاء دمشق بالاعتداءات والتنكيل بالطلاب والمتظاهرين الذين ينتمون إلى «القوات اللبنانية» والتيار العوني وباقي القوى المسيحية المناهضة لسورية، أمام قصر العدل في بيروت في السابع من أغسطس (آب) 2001 واعتقال ما يزيد عن 200 شخص منهم ومحاكمتهم أمام القضاء العدلي والعسكري.

بعد نحو الشهر على هذه الحادثة التي هزت لبنان وكادت تفجر حكومة الرئيس رفيق الحريري، جاءت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة الأميركية، التي فرضت أجندة جديدة للإدارة الأميركية في المنطقة، وبدأت إثرها حرب أفغانستان والتحضيرات للحرب على العراق والتلويح بمهاجمة سورية، إنطلاقا من تصريح جورج بوش الشهير الذي تحدث فيه عن صراع الحضارات ومقولة «من ليس معنا فهو ضدنا».

حصل التحول الجنبلاطي الجديد، الذي رفض فيه تهديدات أميركا وقال يومها «إنني أفضل ألف مرّة نظام العسكريتاريا التي يعيروننا به، على الديمقراطية الآتية على ظهر الدبابة الأميركية»، فشرعت أبواب العاصمة السورية أمام جنبلاط مجددا، وشهدت العلاقة «شهر عسل» دام نحو الثلاث سنوات، الى أن تفجّر الخلاف مجددا بين وليد جنبلاط ونظام بشار الأسد على أثر القرار السوري بالتمديد للرئيس السابق إميل لحود خلافا لإرادة أكثرية اللبنانيين الشعبية والنيابية.

بعد التمديد ومجيء حكومة الرئيس عمر كرامي بدأت الحرب الباردة تسخن شيئا فشيئا، وعندما صعق جنبلاط بعملية محاولة اغتيال النائب مروان حمادة أقرب المقربين إليه في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004، فهم أن الرسالة كانت مزدوجة، فهي كانت موجهة اليه والى الرئيس رفيق الحريري، يومها وقع الطلاق التام بينه وبين القيادة السورية التي أوكلت مهمة محاربته سياسيا إلى حلفائها اللبنانيين. وفي ذروة الصراع بينهما، وقعت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005، التي دفعت بجنبلاط إلى كسر حاجز الخوف واتهام النظام السوري بارتكاب هذه الجريمة. وحينها أشعل «ثورة الأرز» التي أفضت إلى خروج الجيش السوري من لبنان، وكان أبرز صقور 14 آذار وأكثرهم حدّة في المواقف لا سيما التي كان يطلقها من ساحة الشهداء في ذكرى اغتيال الحريري، إضافة إلى الهجومات الصاعقة التي شنّها على «حزب الله»، وذهب إلى حد وصف سلاحه بـ«سلاح الفتنة» ولم يتراجع قيد أنملة إلى أن وقعت أحداث السابع من مايو (أيار) 2008، حيث اجتاح حزب الله بيروت والجبل وفهم يومها جنبلاط ثقل الرسالة الدموية، فكان انسحابه من تحالف 14 آذار بعد انتخابات الـ2009، عندما أعلن انتقاله إلى الوسط كمقدمة للعودة إلى حلفه القديم مع سورية، وقوله إنه كان في غربة عن هذا الحلف في ما أسماه مراجعة ذاتية، قبل أن يعلن انتقاله وحزبه بالكامل إلى جانب سورية والمقاومة.

كان مفهوما أن لا يخرج جنبلاط في خضم هذه الأزمة عن طور الإرادة السورية، لكن ما لم يفهمه اللبنانيون تخليه عن حليفه سعد الحريري في هذه المواجهة القاسية. لكن كثيرين تفهموا موقف الزعيم الدرزي، وأعفوه حتى من اللوم بعدما أيقنوا أن تحوّله الأخير والسريع جاء تحت وطأة الضغط والتهديد، على حدّ المثل القائل «مرغم أخاك لا بطل». وفي الخلاصة صحيح أن جنبلاط سيد التحولات لكن ثمة فرق بين تحوّل يختاره هو وبين تحوّل يفرض عليه.