دماء المصريين.. تتوحد في فصيلة واحدة

تباروا في التبرع بها دون النظر إلى الخلافات

TT

في خضم الأحداث المتسارعة التي يشهدها الشارع المصر، حملت شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام الاخرى نداءات تهيب بالمواطنين التبرع بالدم لإنقاذ أرواح المصابين المتدفقين على المستشفيات جراء الاحداث التي تشهدها مصر منذ 25 يناير (كانون الثاني) الماضي.

داخل مستشفى «الدمرداش»، أحد أكبر وأعرق مستشفيات العاصمة، تواجهك بكل الطرقات لافتات تدعو للتبرع بالدم، وأمام السلالم المؤدية للغرف التي يجري التبرع فيها بالدم، احتشد المتبرعون لإنقاذ إخوانهم المصريين، بينهم وقف شاب يبدو في أوائل العشرينات حاملا مجموعة من الاستمارات ومناديا بأعلى صوته: «هل هناك من يريد التبرع؟» وسرعان ما يتهافت عليه الوافدون حديثا لملء استمارات تحوي الكثير من الأسئلة للتأكد من أهلية الشخص للتبرع بالدم، من ضمان خلوه من الأمراض وعدم تناوله عقاقير حديثا أو مروره بعمليات جراحية أو تعاطيه المخدرات ففي وقت مضى وما إلى غير ذلك. هذا الشاب لم يكن من العاملين بالمستشفى وإنما هو موظف بإحدى الهيئات القريبة فوجئ لدى ذهابه للعمل بتعطل العمل بها، فأبت نفسه أن يعود لمنزله وآثر التوجه للمستشفى لتقديم أي صورة من صور الدعم.

بين حين وآخر يفتح الباب، ليخرج أحد العاملين بالمستشفى، والذي علمنا أنه لم ينم منذ ثلاثة أيام، لينادي على بضعة أسماء ممن قدموا الاستمارات. وعندما تدير عينيك بين الواقفين، تجد شتى أصناف المصريين.. فهناك البسطاء الذين تشي ملابسهم برقة الحال، وهناك من يبدون من الطبقات المرفهة، وهناك من كشفت أسماؤهم عن ديانتهم المسيحية، وبجوارهم وقف حشد من الرجال الملتحين، الذين ما إن سمعوا أذان الظهر حتى ذهبوا إلى الصلاة، بعد أن أكدوا على المسؤول عن التبرع أنهم سيغيبون للحظات قليلة.

وخرج الشاب الذي ينادي على أسماء المتبرعين، فتحدثت إليه سيدة من المنتظرين قائلة: «أنا أستاذة جامعية هنا، والمفروض تمنحني أولوية الدخول». ولكن رجلا من البسطاء رد عليها: «هي دي كمان فيها واسطة؟؟ كفاية بقى.. كلنا زي بعض».

بعد فترة قصيرة، وقف شاب لم يتجاوز الـ 20 من عمرة يتوسل إلى مسؤولي تنظيم عملية التبرع السماح له بتسجيل اسمه والتبرع بينما أصروا على الرفض لعدم حمله بطاقة الهوية القومية، قال الشاب متوسلا: «لقد خرجت بسرعة من بيتي ونسيت أوراقي هناك. أرجوكم». لكن المسؤولين تشبثوا بالرفض.

في فترة الانتظار، تركزت الاحاديث حول تطورات الأوضاع بالبلاد. وعندما أبدى أحد الشباب دهشته من الأعداد الكبيرة من المتبرعين رغم أن دعوة المستشفيات للمواطنين بالتبرع بالدم ليست بالأمر الجديد، سارع أحدهم بالقول: «لم أكن أثق كثيرا من السيارات الطبية التي تجوب الشوارع والميادين للحث على التبرع بالدم. إنهم يحصلون على الدماء لبيعها. أما اليوم فالوضع مختلف». الوضع جدا مختلف، الأمر الذي انعكس على قرار منظمة «الصليب الأحمر» الدولية بعقد اجتماع اليوم (الثلاثاء)، من المتوقع أن يتمخض عن أحد قرارين، إما الانسحاب من القاهرة أو إعلانها منطقة عمليات.

ورغم الجدية التي غلفت الموقف، فإنه لم يخل من طرافة حال غالبية المواقف التي تضم ألوانا شتى من الناس. فعندما تعالى صوت موظف المستشفى بالنداء على المتبرعين، اعترض أحد الواقفين موجها حديثه لمن حوله من المتبرعين المنتظرين: «غير لائق أن ينادي الأسماء هكذا من دون ألقاب؟». وأجابته سيدة مازحة: «عندي فكرة، أرى أن يلحق كل اسم بعبارة: مع حفظ الألقاب!».

داخل غرف التبرع بالدم، بدت الحسرة على وجه إحدى السيدات وهي تخبر صديقة لها أن الأطباء رفضوا السماح لها بالتبرع بالدم لانخفاض ضغطها. وسرعان ما تحولت بوجهها للطبيبة الشابة قائلة: «أرجوك أن تقيسي الضغط ثانية، فإن ضغطي جيد للغاية، ربما ما أعانيه الآن مجرد إرهاق بسيط». في غرفة مخصصة للسيدات، اقتربت الطبيبة برقة من المتبرعة الخمسينية التي سارعت بتنبيهها قائلة: «أرجو أن تحصلي مني على نصف كيس دماء فقط لظروفي الصحية»، فاقترحت عليها الطبيبة ألا تتبرع فرفضت بشدة، وقالت: «هذا أقل شيء يمكننا تقديمه. أشعر بالخزي من الصور المعروضة على شاشات التلفزيون وأنا جالسة في بيتي». الحديث تطرق إلى الضحايا.. ورغم أن تقديرات بعض وسائل الإعلام نقلا عن مصادر طبية قدرت أعداد المتوفين بـ 145 والمصابين بالآلاف، أكدت الطبيبة أن الليلة السابقة فقط شهدت وصول 40 جثة من ضحايا الاحتجاجات إلى المستشفى، تتراوح أعمارهم بين الـ 12 و18 من العمر، واضطر الأطباء إلى وضع الجثث فوق بعضها بعضا لعجزهم عن توفير مساحة كافية لها.