ميدان التحرير.. عريس مظاهرات الغضب في مصر

أصبح سوقا لمستلزمات الاحتجاج والرفض والأغاني الوطنية

متظاهرون يحملون علما كبيرا لمصر في طريقهم إلى ميدان التحرير (ا.ب )
TT

برز ميدان التحرير (أكبر ميادين العاصمة المصرية القاهرة) كبطل شعبي يتصدر مشهد مظاهرات الغضب التي تجتاح مصر منذ أكثر من أسبوع، ويبدو الميدان بفضائه الواسع وحيويته الجغرافية، كرحم حاضن ودافئ لعشرات الآلاف من المتظاهرين، يتجمعون من شتى أنحاء الميادين والأحياء المجاورة والمترامية في أطراف العاصمة ومن المدن القريبة، ويتخذون من قلب الميدان منصة لإطلاق شعاراتهم المطالبة بتغيير نظام الحكم في مصر.. ومع استمرار التعنت في عدم الاستجابة لهذه المطالب بشكل صريح، حول المتظاهرون الميدان إلى سوق حي تتوافر فيه كل مستلزمات الاحتجاج والغضب والثورة والحياة أيضا.

زخم المظاهرة والتفاف الجماهير حولها جعل الميدان، الذي أنشأه الخديوي إسماعيل أواخر القرن التاسع عشر، يصبح وكأنه عريس يجد زفافه يوميا. فمع المساء، وتحت عباءة الليل تتناثر طقوس هذا العرس، ويتحول الميدان إلى حفل سمر كبير حيث يفترش أرضه وأرصفته وحشائشه المتظاهرون وتمتدد حبال الدردشة والنقاش وتبادل الرؤى والأفكار، حول ما يستجد على أجندة مظاهرتهم ومطالبهم، بينما يسطع إيقاع الأغاني الوطنية والثورية، لسيد درويش والشيخ إمام، وعدد من المطربين الشبان، ويمكنك لو قرصك الجوع، ان تتناول ساندوتشات الفول والطعمية.

من «الكشري» المعتبر، كما يمكنك التحلية بثمرة من البطاطا المشوية على نار هادئة أو طبق من البليلة مزين بالمكسرات، إذا أردت أن «تحبس» الأكلة على الطريقة المصرية، فيمكنك أن تتناول كوبا من «حمص الشام» بالدقة والشطة، أو الشاي الصعيدي المضبوط.. كل هذا متوافر على عربات اليد الجوالة بالميدان، ولا تخجل ان تطلب لو نسيت حافظة النقود.. بعد ذلك يمكنك ان «تتسلطن» مع صوت الشيخ إمام وهو يصدح بأشعار أحمد فؤاد نجم «مصر يا أمة يا بهية يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانت شابه.. هو رايح وأنت جايه»، كما يمكن ان يهز جسدك طربا، حين تسمع صوت سيد درويش، وهو ينشد بيانه السياسي الغنائي ساخرا من تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية: «شد الحزام على وسطك.. رزقك ما هو بايدك.. شد الحزام على وسطك.. ح يعدلها سيدك» يقصد الله سبحانه.

عرس الميدان الذي تقوم قوات من الجيش على حراسته بنبل وحياد وطني، أغرى بعض الجنود إلى المشاركة في طقوسه أحيانا، بدافع من حالة الدفء والتقدير المتبادلة بين المتظاهرين والجيش، خاصة أن الكثير من الأغاني الوطنية، تشكل في ذاكرة المصريين، نوعا من الاستعادة والانفتاح على لحظات وأزمنة جميلة من النضال ضد الظالم والاستبداد، كما انها تعيدهم إلى فترات من الصعود والنهوض الوطني والشعبي.

زاد من بكارة عرس الميدان ونضارته، حملة تكاتف يقوم بها عدد كبير من ربات البيوت المصرية خاصة المتاخمة للميدان، وإمدادهن المتظاهرين بوجبات منزلية طازجة وساخنة.. شممت رائحة الطعام من مجموعة لفائف تحملها سيدة أنيقة، يرافقها شاب، بعد إلحاح وتردد قالت السيدة وتدعى (س ـ ع)، موظفة بمؤسسة تجارية خاصة، وتقطن بحي غاردن سيتي، المعروف بحي السفارات الراقي المجاور للميدان: «أنا متحمسة لهؤلاء الشباب، ومتفائلة بهم، فهم غد مصر المشرق، وما أقوم به مجرد رمز بسيط، وواجب على كل ربة بيت، وأنا أصر أن أقدم لهم هذا الطعام بنفسي لأن هذا يسعدني».

ودعت السيدة وانشغلت بجغرافية الميدان، وحيوية موقعه كشريان حيوي للمواصلات بين شرق القاهرة، وغربها، ثم طراز مبانيه العريقة التي تنداح على جوانبه، يرافقها الكثير من المقار المهمة لمؤسسات وهيئات مصرية وعربية وأجنبية، بجوار الفنادق والمطاعم والمحال التجارية والمقاهي الشعبية، كمقر الجامعة العربية والمتحف المصري ومبنى الجامعة العربية والمقر الرئيس للحزب الوطني، الذي احترق في المظاهرات، ومبنى وزارة الخارجية القديم وجامع عمر مكرم، أشهر مكان لسرادقات العزاء في مصر، ومجمع التحرير، أكبر مجمع إداري.

هذه الجغرافية المتفردة كسبت الميدان هوية خاصة، حتى أن تحولات الأزمنة والأمكنة، لم تستطع ان تغير أو تبدل اسمه من الاسماعيلية في بداية إنشائه، ثم «ميدان التحرير» مع انطلاق ثورة 23 يوليو، ثم ميدان السادات عقب اغتيال الأخير في حادث المنصة الشهير، رغم كل هذا ظل «ميدان التحرير» هو المعتمد رسميا في وجدان وذاكرة المصريين.

على الرصيف بالقرب من مدخل كوبري قصر النيل الشهير، الذي يصب في قلب الميدان، على عجل قال لي وهو يرفع لافتة كتب عليها بالانجليزية «فليسقط النظام»: «اسمي طارق، وميدان التحرير ساحتنا، حنا بنتونس ببعضنا ولن نتنازل عن مطالبنا وحقوقنا».. ثم فجأة اختفى في طوايا الحشود، كأنه نسمة شاردة.

كلام طارق ابن العشرينيات ذي اللحية الخفيفة المهذبة أحالني إلى لحظات وطنية من عمر الميدان عشتها كان عام 1986 وعهد الرئيس جمال عبد الناصر، حيث تحول الميدان حينها إلى شعلة من الغضب والاحتجاج على الأحكام الصادرة ضد قادة الطيران المسؤولين عن هزيمة الجيش في حرب 1967.. ذكرت مشهد امل دنقل شاعر «الرفض العربي»، وهو يصرخ من فوق أكتاف الطلبة المتظاهرين بقصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية» وهم يرددون وراءه «أيها الواقفون على حافة المذبحة»: «المنازل اضرحة.. والزنايزن أضرحة.. أشهروا الأسلحة.. سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة». المشهد نفسه تكرر إبان عهد الرئيس السادات في عام 1972، حين تظاهر الآلاف من الطلبة وحشود من الجماهير احتجاجا على حالة ما سمي بـ«اللا سلم واللا حرب»، والتي أصابت روح المجتمع بحالة من اليأس والقنوط، وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، في عهد الرئيس مبارك بطل الأزمة الحالية رفض ميدان التحرير أن يكون مجرد مراقب للأحداث، وشهد واحدة من كبريات مظاهراته، احتجاجا على التدخل الأميركي وإعلان الحرب على العراق، ومشاركة الجيش المصري في القوات المشتركة لشن هذه الحرب.

في أحد نواصي الميدان، أمام مقهى علي بابا الشهير، حيث كان يفضل أديب نوبل نجيب محفوظ يرتشف قهوته الصباحية، وهو يتفرس في ملامح البشر والحياة في الميدان، قبل أن يذهب لعمله بصحيفة «الأهرام» لا يزال عم رمضان محتفظا بـ«فرشته» التي تتناثر عليها شتى الصحف والمجلات والدوريات العربية والمصرية والأجنبية.. قال لي بعد أن أعطاني الصحيفة معلقا على ما يحدث في الميدان: «المشهد يفرح، أنا معجب بهؤلاء الشباب، أنا أشبهم بالطير النقي البريء.. بس ربنا يستر، أنا خايف شوية»، وحين سألته عن مصدر هذا الخوف رد بتلقائية: «أصعب شيء الطعن من الخلف».

كلمات العم محمد، ابن السبعين، ذكرتني بمفارقة شديدة يفرزها واقع الحياة في شوارع وميادين العاصمة القاهرة، والتي تعاني من اختناقات وريكات مرورية، من النادر ان تسلم منها على مدار اليوم، لكن الأمر يتغير حين تعم ميدان التحرير ريكة من هذا النوع.. يلخصها أحمد علي سائق تاكسي، في تعليق عابر، ومتحمس قائلا: «ساعتها بدور على ركنة «موقف» آمنة للتاكسي، وأجلس على المقهى واشيش، وأردد في نفسي: «الله أكبر، تحيا مصر، لسه فيه أمل».