راشد الغنوشي: بورقيبة كان ديكتاتورا متنورا وبن علي كان ديكتاتورا بيده «هراوة»

زعيم حركة النهضة التونسية لـ«الشرق الأوسط»: قابلت الرئيس المخلوع مرتين في حياتي وكان يسمع ولا يتكلم

الشيخ راشد الغنوشي يتحدث أمام أنصاره في مسجد الزيتونة بتونس، حيث أدى صلاة الجمعة أمس (أ.ب)
TT

الشيخ راشد الغنوشي الذي يتزعم حركة النهضة الإسلامية التونسية، خضع إلى السجن في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة لمدة خمس سنوات وحكم عليه بالسجن المؤبد مرة واحدة. كما حكم عليه لاحقا نظام الرئيس زين العابدين بن علي، بالمؤبد مرتين. سمح له بورقيبة بالقليل من الحركة لكنه حجم نشاطه ونشاط حركته عندما أحس بنضجها وقربها من الشارع التونسي. أما بن علي فقد استأصل الحركة وشرد قياداتها ووضعهم داخل السجون لمدة فاقت العقدين. الغنوشي نجا من الموت بأعجوبة سنة 1981 واضطر للخروج من تونس سنة 1989 وقضى في المنفى أكثر من 22 سنة لم يزر خلالها تونس البتة ولم يكن رجوعه إليها إلا يوم 29 يناير (كانون الثاني) الماضي بعد الإطاحة بنظام بن علي.

منزله بإحدى ضواحي العاصمة التونسية تحول إلى ما يشبه المزار. عائلات بأكملها تأتي إلى المكان لتحية الشيخ راشد الغنوشي والاطمئنان عليه. كاميرات وسائل إعلام من مختلف بلدان العالم ترابط قرب بابه في انتظار كلمة منه. المكان الذي نصبت في حديقته خيمة كبيرة للضيوف، تحول إلى ما يشبه الفرح. مأكولات تقدم لبعض الزائرين، وأطفال صغار يلعبون في باحة الدار، ونساء يحملن أواني الطبخ في عدة اتجاهات. في هذا الزخم من الصور والأحداث التقت «الشرق الأوسط» بعد ساعات من الانتظار الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية، فكان معه هذا الحوار:

* هل كنتم تتوقعون سقوط نظام بن علي بهذه السرعة؟

- في الحقيقة لم أكن أرتاب لحظة في سقوط نظام اعتمد على البوليس السياسي وكمم الأفواه وقتل كل مبادرة في نفوس التونسيين وعقولهم. كان لدي إحساس قوي أن تغيير نظام الحكم في تونس لن يكون إلا عن طريق انتفاضة تكون على شكل انفجار في وجه الديكتاتور والديكتاتورية. كتبت أكثر من مرة حول الوضع السياسي في تونس، وذكرت أن الأحداث التي ظهرت في تونس بمناطق الحوض المنجمي ثم في منطقة بن قردان المحاذية لليبيا، مؤشر قوي على أن العمر الافتراضي لنظام بن علي في تقلص.

* لكنه واصل الحياة بعد تلك الأحداث؟

- كان من الواضح أنه عليل وأن تلك الانفجارات الاجتماعية التي أصبحت تنتقل من منطقة إلى أخرى ستأتي عليه.

* ألم يكن هناك أمل في الإصلاح؟

- للأسف لم أكن شخصيا أرى سبيلا لتطور هذا النظام بالوسائل العادية.

* بعد عودة حركتكم إلى النشاط الآن، تبدي بعض مكونات الشارع التونسي، مثل التيارات اليسارية والعلمانية، تخوفا منها. بماذا تفسرون هذا الخوف؟

- هو خليط بين الخوف السياسي والخوف الانتخابي. كل تلك القوى تدرك مدى قوة الحضور الإسلامي وسط الشارع التونسي ولكنها كذلك تخشى المناقشة السياسية وهي إلى جانب ذلك لا تعبر تعبيرا صريحا عن ذلك الخوف. لا ننسى أن هناك عمليات تخويف من حركة النهضة كذلك للاستيلاء على الكثير من الأصوات الانتخابية. وهناك فريق من التونسيين تم تضليله لسنوات متتالية، فقد وقع تحت ضغط الماكينة الإعلامية لبن علي التي جرمت حركة النهضة وربطتها في الأذهان بالإرهاب وأخافت النساء من الإسلام بما جعل الحركة عنصر إرباك لعدد من التيارات السياسية، والحال أننا دعونا في أكثر من مناسبة إلى المشاركة السياسية وإلى التعايش السياسي السلمي بين الجميع. فتونس بها متسع للجميع.

* وهل تنوون الترشح للانتخابات الرئاسية، وهل الحركة على استعداد بقبول نتائج الانتخابات؟

- لن أترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، وهذا قرار اتخذته قبل مجيئي إلى تونس. نحن مستعدون لقبول نتائج الانتخابات في نظام ديمقراطي نزيه، وهذا أمر مفروغ منه حتى وإن أفرزت صعود خصوم حركة النهضة إلى السلطة. لكننا كذلك نطلب من مكونات المجتمع المدني التسليم بها مثلنا تماما.

* كم من مرة قابلت فيها الرئيس المخلوع؟ وما الانطباع الذي تركه لديك؟

- قابلته مرتين فحسب، طوال حياتي، كان رجلا يسمع ولا يتكلم.

* عايشتم كلا من الرئيس بورقيبة والرئيس بن علي. كيف ترون الفارق بينهما؟

- الفرق كبير بين الرئيسين السابقين لتونس. الحبيب بورقيبة كان ديكتاتورا مثقفا. سمح بوجود حركة نقابية قوية، ونشأت في عهده الحركة الإسلامية وبلغت الذروة في وجودها السياسي والميداني. بورقيبة سمح بوجود حركة طلابية نموذجية وأعطى الضوء الأخضر لنشاط الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ولبعض الأحزاب والأصوات المعارضة، ومكن الصحف المستقلة وصحف الرأي من التعبير الحر، ولم تتمكن بعده أي صحيفة من التعبير عما يدور في تونس على الرغم من المحاولات اليائسة لصحافة المعارضة. لقد كان بورقيبة ديكتاتورا متنورا، قرأ عن كبار كتاب الثورة الفرنسية واطلع على كتب السياسيين ومذكراتهم، وهو مطلع على ما يدور في تونس من أحداث سياسية واجتماعية وله دراية كبيرة بالسياسة وفنون الخطابة. وكل تلك المكاسب تهاوت الواحدة تلو الأخرى في عهد بن علي ولم تبق غير المافيا والبوليس. أما زين العابدين بن علي الرئيس المخلوع، فقد كان ديكتاتورا بيده «هراوة» لا تسمح لأحد بالكلام وإن تجرأ على الكلام فإن الهراوة في انتظاره، ولكم أن تتصوروا عدد الذين يجرأون على الكلام بوجود هراوة فوق رؤوسهم. بن علي لم تكن في جعبته أي خبرة وأي معرفة حقيقية غير الخبرة البوليسية التي لا تكفي البتة لإدارة نخب مثقفة في تونس ومجموعات مطلعة على ما يدور في العالم ولها سقف مطالب عال للغاية لا يقدر نظام بوليسي على السماح بتحقيقه.

* كلت مديحا مبطنا لبورقيبة رغم وصفك له بالديكتاتور، ولكن بورقيبة كذلك غضب عندما حكمت عليك محكمة أمن الدولة بالسجن مدى الحياة بدل الإعدام؟

- هذا صحيح فبورقيبة قد غضب كثيرا من محكمة أمن الدولة وقيل إنه ضرب كفا بكف ودعا المحكمة إلى إعادة المحاكمة. بورقيبة غير منذ ذلك الحكم القانون وأصبح حكم الإعدام ينفذ في الشخص إذا صوت ثلاثة قضاة من بين الخمسة الذين تتكون منهم هيئة المحكمة، وكان من الضروري في السابق أن يحكم أربعة من القضاة على الشخص لكي يقع إقرار حكم الإعدام. فقد صوت ثلاثة من القضاة لصالح الحكم بالإعدام ونجوت بأعجوبة من عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. بورقيبة سجنني خمس سنوات في عهده كما حكم علي بالمؤبد، وقرر في حقي حكم الإعدام. ولكن كل هذا لا يمكن أن ينقص من مساهمات بورقيبة في تطوير الحياة في تونس ككل.

* أين كنت ليلة 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 ليلة الانقلاب على بورقيبة؟

- كنت داخل غياهب السجن. لقد كان رأسي مطلوبا. فقد اتهمت السلطات التونسية حركة النهضة بمحاولة الاستيلاء على السلطة ووضعت كل القيادات تقريبا في السجون. لكن بن علي أفرج عن تلك القيادات لغاية السيطرة على الشارع. فهو يدرك بحسه البوليسي أن حركة النهضة قادرة على جذب البساط من تحت قدميه، وتعرفون أنه بعد ذلك عاد ليستأصل الحركة من جذورها في بداية عقد التسعينات.

* من من بين أعضاء حكم بن علي ما زلت تذكره بخير؟

- الهادي البكوش الذي شغل منصب الوزير الأول بين 7 نوفمبر 1987 و27 سبتمبر (أيلول) 1989، فقد ذكر لي أكثر من مصدر أنه كان يدعم الاعتراف بحركة النهضة سواء في عهد بورقيبة أو عهد بن علي، بما يرجح صحة هذا الخبر. البكوش كان حاضرا في لقائي بالرئيس المخلوع يوم 6 نوفمبر 1988 عندما وعدني بن علي بأن الاعتراف بحركة النهضة أمر مقرر، وما على أعضاء الحركة إلا الصبر قليلا. تلك المقابلة كانت الأخيرة مع الديكتاتور المخلوع.

* وماذا عن محمد مزالي الوزير الأول في عهد بورقيبة، ألم يقدم لك شخصيا العون؟

- لقد حكم علي سنة 1981 بالسجن لمدة عشر سنوات، ولم يفرج عني إلا في أغسطس (آب) 1984 إثر وساطة من الوزير الأول محمد مزالي الذي كان قريبا من الحركة. ولكن مزالي كان يخطط لاستعمالها لضرب التيارات اليسارية ولم يكن على ما أعتقد من مناصري فكرة منح الترخيص القانوني للحركة.

* صادقت الحكومة المؤقتة الحالية على مشروع للعفو التشريعي العام والمعروف أن أعضاء الحركة هم من بين أكبر المتضررين خلال حقبة الرئيس المخلوع إذ قضى نظام بن علي على عائلات بأكملها وحكم على البعض بالسجن لمدة 20 عاما. ما التعويض الذي ترون أنه يرضي من قضوا تلك المدة الطويلة في السجون أو من تضرروا إثر فصلهم من أعمالهم والتضييق عليهم لأكثر من عقدين؟

- أولا الحركة تدعو إلى ألا يستثني العفو التشريعي العام أحدا من مساجين الرأي والمساجين السياسيين الذين قدموا للمحاكمة تحت تهم أخرى غير سياسية. حركة النهضة تعلم أن أكثر من ثلاثة آلاف شاب تونسي حوكموا بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب اللادستوري، والبعض منهم قرأ كتابا أو فتح موقعا على الإنترنت أو قام باكرا لصلاة الصبح في أحد المساجد فوجد نفسه متهما بالإرهاب. حركة النهضة تطالب منذ الآن بإعادة كل المساجين السياسيين إلى سابق وظائفهم واعتبار المدة التي قضوها في السجون التونسية أو في المنفى والتهجير القسري، مدة عمل فعلية. الحركة تعتبر أولئك الضحايا من بين الممهدات الأساسية لقيام الثورة في تونس، وعلى الثورة اليوم أن تعوض لهم تلك السنوات القاسية، وهذا الأمر لا يهم الإسلاميين فحسب بل كل الأشخاص الذين تضرروا خلال الحقبة الماضية.

* وما هو التعويض المجزي حسب رأيكم؟

- الحركة تعلم أن أمر إعادة ما فات صعب للغاية. فبعض القيادات والأعضاء لم تعط لهم فرصة الإنجاب وبعض الأخوات فاتتهم فرصة الإنجاب والتمتع بفرحة الحياة ولا ندري كيف سيتم التعويض لهم. الحركة تطالب بالاعتذار لكل الضحايا وطي صفحة الماضي ومحاولة ترميم حياة التونسيين من جديد.