الأمومة والأبوة دمعتان حائرتان على أرصفة ميدان التحرير

أم تبكي قائلة: مصير أولادي الثلاثة في يد المجهول.. وأب يبحث عن ابنه وجاره

مئات من المصريين افترشوا أرض ميدان التحرير قبل انطلاق مظاهرة «جمعة الرحيل» أمس (أ.ب)
TT

بدافع من الخوف عليهم وإحساسهم بأنهم أنجزوا شيئا مهما وسجلوا صفحة ناصعة في تاريخ الوطن، بدأ مئات الآباء والأمهات المصريين التوجه منذ ليلة أمس إلى ميدان التحرير لإقناع أبنائهم بالرجوع إلى منازلهم مرة أخرى وفض المظاهرات والاعتصامات التي يقومون بها في ميدان التحرير، والتي دخلت أسبوعها الثاني، خاصة بعد الاشتباكات الدامية والمواجهات العنيفة التي دارت بين جبهتي الموالين للرئيس المصري حسني مبارك والرافضين لبقائه على سدة الحكم. حكايات إنسانية تسبقها الدموع من عين كل أم جلست على الرصيف المواجه لميدان التحرير، وبعضهن تمركزن على أسوار كوبري السادس من أكتوبر لعل علو المشهد يساعدهن على رؤية ملامح أبنائهن الغائبين. الكثير من الآباء بكوا بحرقة على فلذات أكبادهم بعد أن بات مصيرهم في يد المجهول.

تقول نجوى عبد المنعم (محامية)، عضو الاتحاد العام للمحامين العرب، باكية «نزلت إلى ميدان التحرير بدافع غريزة الأمومة واستجابة للحس الوطني لوقف الدماء بين المصريين والمصريين، ولاستعادة ابني البالغ من العمر 29 عاما، وهو خريج كلية الآثار ولا يعمل منذ تخرجه منذ نحو 8 سنوات، لكنه رفض العودة معي. وقال لي: (يا أمي مطالبنا لم تتحقق). حاولت أن أستحلفه بالوطن وبكوني سيدة وحدي في وسط هذا الخضم من الأحداث أن يعود، فقال لي: (يا أمي مطالبنا أولا)، قلت له وما هي وإلى متى؟ قال لي: (أن يتم حل مجلسي الشعب والشورى، وأن يتخلى الرئيس مبارك عن السلطة لأن بقاءه إلى نهاية العام يعني أنه يعد نجله جمال للسلطة).

تتابع الأم المكلومة «حاولت إفهامه أن الرئيس استجاب لمطالب الشعب، وأن آخر ما كنا نتمناه أن يقتل مصري أخاه المصري، بعد أن تفرق المصريون ما بين موال لمبارك ومناهض له. استحلفته بضعفي والخوف الذي يملأ قلبي عليه، لكنه أصر وقال لي: (أنا لست أقل من إخواني في المظاهرة! مصر أولا)، قلت له إن الأمر خطير وإن خطاب الرئيس الأخير يعني أن تعديلات حقيقية في الطريق. رفض كلامي قائلا: (إنها مجرد مسكنات يا أمي)!».. لتنهار الأم باكية، فلا تعرف ماذا تقول بعد أن أمرها ابنها بالرحيل من المكان فورا قبل أن يصيبها أذى! أما شيرين عبد التواب (ربة منزل) فتقول «ابني (21 عاما) داخل المظاهرات، ولا أعرف عنه شيئا، وتليفونه المحمول لا يرد.. نزلت لميدان التحرير حتى أطمئن عليه، لكن قوات الجيش نصحتنا بعدم الدخول إلى قلب الميدان والاكتفاء بالتمركز خارجه لعل وعسى أن أرى ابني بالصدفة، لأن دخولنا يعني خطرا جسيما علينا. اتصلت به مئات المرات ولم يرد. آخر مكالمة بيننا كانت أول من أمس مساء، وقال لي: (اطمئني أنا بخير، ولا تحاولي الاتصال بي مرة أخرى لأنه لا وقت ولا تركيز في الإجابة على الهاتف الآن)، رجوته أن يعود للمنزل وأن الأمور ستهدأ، خاصة أنه ابني الوحيد، لكنه قال لي: (لا يا أمي، إنها فرصتنا الوحيدة الباقية، ولا مجال إلا الاستجابة لنا). قلت له إن أيادي خفية تعبث بأمن البلد ولا يمكن استتباب الأمن وهم هناك وحياتهم كل دقيقة معرضة للخطر. قال لي: (ربنا واحد، ومن كتب عليه أن يلقى ربه سيكون شهيدا وفي ميدان التحرير)!!». الأم ما زالت تجلس على الرصيف الخاص بكوبري السادس من أكتوبر وهي في حالة انهيار شأنها شأن الكثير من الأمهات الخائفات على أبنائهن.

أما مينا حبيب فيقول هلعا «كفانا تدميرا لمصر، وكفانا سقوطا للضحايا، العشرات من زهرة شباب مصر قتلى، وما يقارب الألف سقطوا جرحى، ثم ماذا بعد؟ أعرف أن ابنتي سماح (ثورجية) من يومها، وتناهض القهر والاستسلام لأوضاع لا يقبلها عقلها منذ الصغر، لكني غير راض عن عصيانها لي، لست راضيا عن تمردها هي وغيرها من الشباب والشابات على السلطة. نعم كانت لهم مطالب مشروعة، لكن المظاهرات السلمية تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية، منذ متى المصري يقف ضد المصري. ابنتي هاتفاها الاثنان مغلقان.. أصبحت كالمجنون أبحث عنها في المستشفيات الميدانية المقامة في الميدان، أو ربما أشاهد صورتها في الأخبار مع الجرحى أو أعرف حتى طريقها. والله حرام ما يحدث بنا، وفي النهاية لا يمكنني إلا القول إنهم شباب صغار غرر بهم»!.

وتقول توحيدة عبد القادر (مهندسة) وهي تجهش بالبكاء «لي 3 أبناء (33، 27، 22 سنة).. ثلاثة دفعة واحدة لا أعرف عنهم شيئا، وكل وسائل الاتصال معهم مغلقة، لا أعرف ماذا أفعل. آخر مكالمة بيني وبين أحدهم (27 سنة - خريج تجارة) قال لي فيها: (لن نتنازل عن أماكننا، ويا قاتل يا مقتول)، قلت له إن نائب الرئيس ورئيس الحكومة وشيخ الأزهر ورجال القوات المسلحة يناشدونكم التوجه إلى منازلكم، كفاية يا ابني حرام، البلد بتولع! قال لي: (يا أمي، إذا كان الرئيس دكتوراه في العند، فنحن لسنا أقل منه)!! قلت له عيب، هذا الرجل فعل الكثير لنا، وأنت صغير لا تعرف شيئا، لا تسمحوا للأيادي الأجنبية بأن تدخل البلد، أميركا ستدخل البلد. قال لي: (سيكون مصير أي أجنبي الشنق في ميدان عام! ونحن سنحمي أرضنا جيدا، لا تخافي علينا أنا وإخوتي، نحن كلنا هنا إخوة). قلت له يا ابني أعط فرصة للحوار، قال لي: (لا، يا أمي انت غلبانة، إن أول ما سيفعله النظام معنا إذا عدنا هو الانتقام منا والموت في السجون والمعتقلات على فعلتنا، على حقنا في البلد، إذن فلنمت في شرف في الميدان)!. قلت له أنا سأنزل إلى الميدان ولن أعود إلا بك، قال لي: (لا تفعلي، لن تستطيعي الوصول لي)، قلت له بل سأفعل، فأغلق التليفون، وها أنا أجلس على الرصيف لعلي أجد أحدا منهم».

أما عبد الرحمن عمران (مدرس) فيقول «لقد دخل جاري الميدان ولم يعد! دخل للبحث عن ابنه ولم يعد!! وهاتفه مغلق، وأنا أيضا أجلس هنا لعلي أجد ابني (خريج علوم 25 سنة)، لاستعادته للمنزل ولو بالقوة، لكن لا سبيل لي بعدما دخل جاري للبحث عن ابنه وقال لي إنه سيخبرني بالتطورات أولا بأول ثم اختفى بالداخل ولا أعرف هل هو بخير أم لا، والآن أصبحت عائلته في عنقي بالإضافة إلى بناتي، فإذا دخلت ولم أعد من سيتكفل بهم؟».