الحياة دبت في شوارع القاهرة.. المحال فتحت أبوابها وزحام شديد على ماكينات الصرافة

بائع زهور مجاور لميدان التحرير: أضع زهوري في واجهة المحل لعل قلوب الفرقاء ترق

الحياة عادت إلى طبيعتها في الأسواق المصرية أمس (رويترز)
TT

يسابق المصريون الزمن لعودة الحياة بإيقاعها الطبيعي إلى الشارع، خاصة بعد أن ألم التعب بهم جراء مظاهرات الشباب التي دخلت أسبوعها الثاني، وأصابت الحياة بشلل تام، وأصبح الكثير منهم يرفع الأكف تضرعا للسماء، حتى تصل سفينة البلاد إلى بر الأمان.. ملامح هذا السباق بدأت برفع الأهالي المخلفات من الشوارع والميادين، وفتح المحال والمطاعم واستئناف البنوك والمحاكم لعملها. كما طلب الكثير من شركات القطاع الخاص والعام أن يباشر الموظفون أعمالهم بدءا من أمس بشكل طبيعي.

وشهد أمس زحاما كثيفا وطوابير على ماكينات الصراف الآلي، خاصة أن أغلب المصريين لم يصرفوا رواتبهم، كما لم يتمكن بعضهم من الصرف من شدة الزحام، وانتابت البعض مخاوف من أن تنفد النقود من الماكينات. لكن على غير الأيام العادية «دبت الرجل» بشكل لافت في الشوارع.

محمد الشناوي (45) سنة، موظف، لا يصدق كيف وصل الحال إلى أن يصبح مجرد أن يمشي في الشارع حلما، ويصف ملامح عودة الحياة للشارع بقوله: «أردت أن أشعر بأن ساقي تفعل شيئا مختلفا غير الوقوف طوال الليل لحراسه العمارة ومدخل الشارع بعد حالة من الكمون في المنزل وتوقف دوام العمل الرسمي لمدة قاربت على الأسبوعين، أردت أن أستعيد روحي مرة أخرى بأن أمشي في الشارع بلا خوف على نفسي من هجام أو مسجل خطر هارب من السجن، أتحرك لأول مرة خارج نطاق منطقتي السكنية في الدقي وأنا غير خائف من ترك المنزل من دون حراستي».

وتقول سعاد محمود، عاملة في محل (كوافير) للسيدات: «اليوم أول يوم أنزل فيه إلى العمل بعد إغلاق المحل منذ أكثر من أسبوعين، لقد توافد علينا زبائن كثيرة منذ الصباح الباكر غير مصدقين أن المحل فتح أبوابه، وبطبيعة الحال الحديث عن السياسة هو الحديث الوحيد حتى وهن تحت السشوار».

وتروي نهى فتح الله قائلة: «لقد كان عرسي يوم 2 فبراير (شباط) الماضي وبالطبع تأجل كل شيء وألغي حجز القاعة وكل ما يتعلق بالفرح، ولكني مصممة على أن تستمر الحياة، فالجلوس في المنزل دون عمل شيء ولا حتى النزول للشارع هو موت بطيء، وقد جئت اليوم لأشعر بأني إنسانة تمارس عاداتها الأسبوعية العادية على الرغم من مواعيد حظر التجوال، قلبي حزين على حال البلد، ومعجبة بمظاهرات الشباب، لكن إلى متى سنظل مذعورين في منازلنا كمن يكون قد حكم عليه بالسجن المؤبد».

حال محال الكوافير الحريمي لم يختلف عن محال الكوافير الرجالي (الحلاق)، فكثير من الشباب قرر النزول لحلاقة الرأس وتهذيب الذقن كمجرد نظافة شخصية، وحسبما يقول شريف المتوكل: «أصبح شكلي مثل المساجين، وأصابتني الأحداث باكتئاب شديد وأصبحت أصحو من النوم على أخبار المظاهرات والبيانات العسكرية، ومهاترات المتحدثين من كل حدب وصوب عن حال مصر، وأنام على الإصابات والقتلى، فأصبت بحالة نفسية سيئة وقررت النزول للشارع وفعل أي شيء يعيد لي بعضا من قوتي النفسية لمواجهة الأيام المقبلة والتي لا تزال تحمل إلينا المجهول ولكن ربنا يستر على بلدنا».

وفي الوقت الذي قام فيه الكثير من محال الوجبات السريعة بفتح بعض فروعها مثل «كنتاكي» شوهدت لأول مرة «موتسيكلات الديلفري» تجوب الشوارع منذ فترة طويلة، كما بدأت سيارات جمع القمامة في الدوران في الشوارع لجمع أطنان القمامة التي امتلأت بها الصناديق ولم يتمكن السكان من حرقها للتخلص منها في ظل غيابهم الطويل، كما بدأت دوريات الشرطة في التجول، وشوهد العسكري بزيه الرسمي الأسود ينظم حركة المرور من جديد في الشوارع الرئيسية، وإن كان يرتدي خوذة لحماية الرأس في بعض التقاطعات.

تشير علا عاطف - صاحبة مقهى ومطعم «مومنتو» في منطقة المهندسين، إلى أن الحياة بدأت تعود تدريجيا لطبيعتها والناس بدأوا يبحثون عن منفذ لهم للخروج من حالة الحزن والتوتر التي يعيشونها منذ أكثر من أسبوعين، فتقول: «في بداية الأزمة وحتى اليومين الماضيين كان الوضع سيئا للغاية ومن يأتي للمكان فقط هم من سكان العمارات المجاورة بسبب مواعيد حظر التجوال، لكن منذ الأمس بدأت تعود الحياة تدريجيا، خاصة مع تأخير مواعيد حظر التجوال إلى7 مساء». وتواجه علا وغيرها ممن يملكون محالا خدمية مشكلة العمالة التي ما زالت غير منتظمة بسبب حظر التجوال، والنقص في الكثير من المستلزمات التي تخص المطبخ لتقديم الطعام للزبائن وهو ما يضطرهم لشرائها بأسعار مرتفعة من محلات «القطاعي» في حال توافرها ويضطرون لغلق المحال، على حد قولها.

كما فتح الكثير من محال الملابس الشهيرة في الشوارع والميادين البعيدة نسبيا عن ميدان التحرير أبوابها، حيث تقول ياسمين عبد الحميد، موظفة في شركة خاصة: «أسكن في إحدى عمارات شارع طلعت حرب، ولك أن تتخيلي حجم الذعر الذي نعيش فيه منذ تفجرت الأزمة، وطبعا كل المحال التي في الشارع كانت مغلقة تماما، خاصة أن بعض واجهات المحال الرئيسية قرب الميدان تحطمت تماما ونهب ما بداخلها، ولكن اليوم رأيت الكثير من محال الملابس والأحذية تفتح أبوابها من جديد للناس، وعلى الرغم من عدم وجود حركة بيع وشراء، فإن شكل المحال وهي مفتوحة أحيا الأمل في نفوسنا من جديد عن قرب انتهاء الأزمة الكبيرة التي نعيشها».

وكان لافتا أن بعض محال الهدايا والزهور بدأت في فتح أبوابها في الشوارع القريبة من ميدان التحرير، فيقول عبد الدايم شاهين، صاحب محل ورد: «علي أن أبحث عن أكل عيشي ورزقي أنا وأسرتي، فوقف الحال الذي نتج عن المظاهرات طال أمده، وأنا أعمل في مهنة حرة ولا أعتمد على راتب شهري سيأتي لي سواء اشتغلت أم لم أشتغل!! فمن الذي سيطعم أطفالي؟. ويضيف قائلا: «إنني أضع زهوري في مكانها المعتاد على واجهة المحل والرصيف المقابل للمدخل، لعل لغة الزهور ترقق قلب من يريد عنفا ودما بهذا البلد«.

وتتفق معه شيرين شوكت، صاحبة محل هدايا، حيث علقت قلوبا حمراء ودباديب في واجهة المحل الشهير الخاص بالهدايا، مما أثار دهشة المارين.. تقول: «ماذا أفعل؟ هل علي أن أموت في المنزل، وأغلق الأبواب إلى أجل غير مسمي؟ وهل سيرحمني مطالبو الإيجار الشهري والكهرباء والعمال من عدم دفع التزاماتي المادية تجاههم»؟ تضيف شيرين بحسرة: «إن عيد الحب أو (الفالنتاين) يوم 14 من الشهر الحالي، وشتان ما بين هذا العام والأعوام الماضية، لكن ما زال لدي بصيص أمل حتى وإن كان ضعيفا للغاية من الأمل أن ينصلح الأمر وترجع مصر كما كانت بلد الأمن والأمان قبل يوم 14 فبراير، حتى أستطيع بيع أي شيء يمكنني به أن أدفع جزءا من الديون التي أصبحت تتراكم على كاهلي يوما وراء يوم«.

وفي ظلال المشهد بدأت تنتشر عربات الباعة الجائلين في شوارع القاهرة، مثل عربات الترمس والبطاطا والسميط، حيث يصر بائعوها على أنهم لم يعودوا خائفين مثل الوقت الماضي، فيقول عم سيد عوف، بائع بطاطا: «ماذا أفعل وورائي كوم لحم؟ ربنا معانا، ونزول رجال الشرطة إلى الشارع مرة أخرى أعطانا طمأنينة كبيرة وعلينا أن نواجه الموت بالحياة، نريد أن نعيش وهذا من حقنا.. كفاية عطلة».