ليلة لـ«الشرق الأوسط» مع المتظاهرين في ميدان التحرير.. متعة الغناء على إيقاع الشطرنج

الشباب ينظفون الميدان والنساء يعددن الطعام والشراب وطابور الصباح لتوزيع المهام

على الجدران تجلت عبقرية المتظاهرين في لافتات ومدونات امتلأت بالدعابة والنكات تعبر عن روح الصمود (أ.ف.ب)
TT

ليلة لها إيقاع متميز ورائحة خاصة، لا يمكن أن تتخيلها ما لم تعشها.. هنا في ميدان التحرير بقلب القاهرة عاشت «الشرق الأوسط» هذه الليلة أول من أمس «الأحد» حتى الصباح، وسط المتظاهرين المعارضين للنظام المصري، تحت لسعة البرد القارس، والأمطار أحيانا،، لكنهم استطاعوا كسر الملل والألم بعدة طرق ابتكروها بوسائل بدائية وكوميدية أحيانا؛ وهم يفترشون الرصيف ويلتحفون السماء.

ميدان التحرير نهارا يختلف كلية عنه في الليل، فما إن تغرب الشمس معلنة رحيل يوم جديد، حتى يقسم المتظاهرون أنفسهم عدة فرق، الأولى تتكون من 300 شخص يتبادلون الحراسة مع زملائهم على مداخل الميدان، لينال حراس النهار قسطا من الراحة، والثانية مكونة من 100 شخص مهمتهم الخروج لجلب طعام العشاء من عدة أماكن قريبة، وطعام العشاء عادة ما يتكون من الجبن والعيش والفاكهة (إن أمكن)، والثالثة مكونة من الأطباء وتكون مهمتهم متابعة حالة جرحى الاشتباكات، وإعطاء الدواء لكبار السن أو المصابين بنزلات برد نتيجة وجودهم في الشارع وسط درجات حرارة منخفضة في الليل.

وبخلاف تلك الفرق ينتشر المتظاهرون في أرجاء الميدان، البعض يتابع القنوات التلفزيونية الإخبارية التي يعرضها المتظاهرون على شاشة كبيرة في وسط الميدان، وآخرون يعزفون أغاني وطنية على الغيتار والعود، بينما من وقت لآخر يطوف متظاهرون يهتفون بشعارات مناهضة لمبارك وأغان وطنية لتحميس بعضهم.

إبراهيم عمر، أحد هؤلاء الذين يجوبون الميدان لتحميس زملائهم، طالب جامعي في السنة النهائية بكلية الحقوق، ترك منزله وحضر إلى الميدان هو وشقيقه الأكبر الذي تخرج في كلية التجارة قبل 4 أعوام ولم يجد عملا.. يقول إبراهيم «حضرت إلى ميدان التحرير للمشاركة في «جمعة الغضب» يوم 28 يناير الماضي، ومنذ ذلك الوقت لم أعد إلى منزلي في حي الهرم بالجيزة (غرب القاهرة)».

ويضيف «دخلت الميدان عن طريق كوبري قصر النيل، وكدت أن ألقى حتفي، الشرطة أطلقت علينا قنابل الغاز المسيل للدموع بصورة مكثفة، وخراطيم المياه من سيارات الإطفاء، كدنا نختنق، وبعد كر وفر مع قوات الأمن المركزي، انسحبت الشرطة وأفسحت لنا المجال لدخول الميدان».

ويقول إبراهيم «الليل هنا رغم قسوته إلا أنه ممتع، الكل يتعاون بشكل رائع، هناك من يجمع القمامة لتنظيف المكان، والسيدات يصنعن الطعام والشراب للمتظاهرين، وبين وقت وآخر نغني الأغاني الوطنية ونهتف ضد النظام، وعندما ننهك نخلد للنوم استعدادا ليوم جديد».

إياد صالح، مخرج شاب، حضر إلى التحرير مصطحبا كاميرته الصغيرة لتصوير فيلم تسجيلي عن «حالة التحرير»، ورغم أن لحيته نمت بشكل غزير وملابسه اتسخت، إلا أنه يرفض الرحيل من الميدان كي لا يفوت أي لقطة.

يقول إياد «التحرير أصبح بحق المدينة الفاضلة «يوتوبيا» التي نادى بها افلاطون لا توجد سرقات ولا تحرشات ولا أي مضايقات من أي نوع، والجميل أن الشعب المصري الذي وصمه البعض بالفوضوي، أعطى مثالا واضحا على أنه شعب متحضر».

ويضيف إياد «أكبر دليل على التحضر، هو حرص المتظاهرين على تنظيف الميدان أولا بأول من القمامة، بل وكنس الشارع وغسله أيضا».

«الجدع جدع والجبان جبان، واحنا يا جدع بايتين في الميدان»، هكذا كان سيد جمال محمد يهتف عضو لجنة النظام المسؤولة عن تفتيش الداخلين إلى الميدان من مدخل شارع طلعت حرب، يتجاوب معه البعض، وآخرون يبتسمون لكنه كان سعيدا بما يفعله. يقول سيد «ما أفعله قد يضايق البعض، لكن ضروري لحماية كل من في الميدان من متظاهرين يبيتون فيه، أو من حضر ليساندهم بعض الوقت»، مضيفا «تعرضنا أكثر من مرة لهجمات من بلطجية يقولون إنهم من مؤيدي مبارك، رشقونا بالحجارة والزجاجات الحارقة، واعتدوا على بعضنا بالأسلحة البيضاء، لذلك نحرص على تفتيش الداخلين بدقة والإطلاع على هوياتهم الشخصية، ومن نشتبه فيه نسلمه لقوات الجيش الموجودة في الميدان».

وعلى مسافة غير بعيدة تقف منى شقيقة سيد تفتش السيدات الداخلات إلى الميدان، ومن حين لآخر يأتي إليها شقيقها ليطمئن عليها، أو يتبادلان نظرة أو ابتسامة مطمئنة.

منى تخرجت في كلية الخدمة الاجتماعية قبل عامين، ولم تجد عملا فجلست في المنزل انتظارا لزوج لم يأت بعد، حضرت مع شقيقها رغم معارضة والدتها لأنها تريد أن تتخلص من نظام أحال «حياة شباب زي الورد إلى جحيم» كما تقول.

وتضيف منى «أبيت في الليل مع السيدات في مسجد عمر مكرم، وبعض الناس أحضروا لنا بطاطين وأغطية ثقيلة، لأن البرد ليلا لا يمكن احتماله»، وتشير إلى أنها تتولى وردية النهار على مدخل طلعت حرب في لجنة النظام، وعندما تنتهي من عملها مع غروب الشمس، تجهز الطعام مع بعض السيدات ثم تجلس وشقيقها يتابعان القنوات الإخبارية أمام الشاشة الكبيرة في الميدان ثم تخلد للنوم عندما يحين الوقت.

أما كريم عبد الحميد النجار، شاب في الثامنة والعشرين من عمره، ظل يعزف على عوده النشيد الوطني المصري وتجمع حوله عشرات الشباب يرددون كلمات النشيد، وعندما انتهى من «وصلته الوطنية» قال لنا ضاحكا «كنت دائما أبحث عن جمهور، الآن صوتي يسمعه كل من في ميدان التحرير».

ورغم الظلام الذي يسود الميدان في الثانية عشرة مساء، نتيجة إطفاء السلطات لأعمدة الإنارة، إلا أن محمد عبد العال جلس وحيدا بجوار فرع لأحد سلاسل الطعام العالمية وبجواره مجموعة من الهواتف المحمولة متصلة كلها بالكهرباء لشحنها، وعندما سألته عن مصدر الكهرباء، قال «أخذنا وصلة من المحل المغلق ووضعنا فيها مشترك (وصلة للكهرباء) لشحن الهواتف».

ويضيف «لا أعرف أيا من أصحاب تلك الهواتف التي أشحنها معرفة شخصية، ولكن هذا لا يهم.. يكفى أننا نساعد بعضنا بعضا على البقاء في الميدان».

ويقول «في الصباح يكون عملي قيادة الهتافات في المسيرات التي تجوب الميدان، وفي المساء أشحن هواتف الزملاء، وهذا الدور لا يقل عما أفعله نهارا، وربنا معانا».

أما عبد الله السيد، وهو طبيب من المنصورة بمحافظة الدقهلية، فقد افترش مدخل إحدى البنايات المطلة على الميدان متدثرا ببطانية صوفية حصل عليها من بعض النشطاء، وقال وهو يشرب كوبا من الشاي الساخن صنعه زملاؤه مستخدمين نارا أشعلوها باستخدام الحطب «أنا هنا منذ يوم السبت 29 يناير، وللأسف سأضطر للعودة إلى بلدتي غدا لأن نقودي شارفت على النفاد، ولكنى سأعود إلى هنا مرة أخرى بعد يوم أو يومين».

ويضيف أنا طبيب جراحة عامة، ساهمت مع زملائي في علاج العديد من المتظاهرين الذين سقطوا برصاص الشرطة أو على يد البلطجية، ورأيت إصابات لم أكن أتصور أنها يمكن أن تحدث إلا في الحروب».

ويقول «المشكلة الوحيدة التي واجهتني كانت عدم توافر دورات مياه كافية، فالعدد كبير ودورات المياه محدودة ودخولها بالدور، ولكن حتى دخول دورات المياه كان منظما وبالطابور».

وبينما خلد أغلب المتظاهرين للنوم في الثالثة صباحا، رأيت تجمعا لبضعة أشخاص يتابعون مباراة حامية في الشطرنج بين اثنين منهم وبجوارهم كومة من الحطب أشعلوها للتدفئة، وحين أبديت دهشتي، قال لي علي حسن عطية، أحد اللاعبين «ماذا سنفعل لكسر ملل الليل، أحضرنا الشطرنج لنلعب به ليسلينا».