وسط القاهرة «شانزليزيه مصر».. في قبضة حظر التجول

أنشأها الخديو إسماعيل على الطراز الباريسي.. وحولتها المظاهرات إلى ثكنة عسكرية

احد المتظاهرين المصريين يرفع اسم مصر المحفور من الخشب في ميدان التحرير أمس (رويترز)
TT

لم يخطر في بال الخديو إسماعيل، الذي حكم مصر في الفترة من 1836 إلى 1879، أن تتحول منطقة وسط القاهرة وقلبها التجاري التي أنشأها على الطراز الباريسي إلى ثكنة عسكرية مغلقة، يعاني سكانها مصاعب جمة في النزول إلى الشارع.

فمنذ بدء المظاهرات يوم 25 يناير (كانون الثاني) الماضي بدأ الدخول والخروج من وإلى وسط القاهرة يتسم بالصعوبة، لكن مع تصاعد الأحداث وفرض حظر التجول يوم الجمعة 28 يناير باتت منطقة وسط القاهرة ثكنة عسكرية مغلقة، وأصبح مجرد التفكير في دخولها حلما صعب المنال.

فبعد أن كانت تلك المنطقة قلب القاهرة التجاري بشوارعها: قصر النيل، الذي كان يطلق عليه «شانزليزيه مصر»، وطلعت حرب، وصبري أبو علم، وميدانا مصطفى كامل وطلعت حرب، وكذلك منطقة عابدين ذات الكثافة السكانية العالية، قبلة لآلاف المصريين والسائحين يوميا، بدت تلك الشوارع كأنها تنتمي لمدينة أشباح لا لعاصمة يبلغ عدد سكانها نحو 15 مليون نسمة. ويعود الفضل في إنشاء وسط القاهرة وإكسابه الطابع الباريسي في القرن التاسع عشر إلى الخديو إسماعيل الذي كان ينزل بمقر حكم مصر من قلعة الجبل التي أسسها صلاح الدين الأيوبي إلى القاهرة، واختار منطقة كانت عبارة عن مجموعة من البرك كبراها تسمى «بركة فراعين» ويجاورها قصر لجنرال في الجيش المصري اسمه عابدين، وردم البرك واشترى قصر الجنرال عابدين من أرملته، ليقيم مكانه قصرا منيفا على مساحة 8 أفدنة ظل مقرا لحكم مصر حتى ثورة يوليو (تموز) 1952.

كان هذا القصر هو مركز وسط القاهرة أيام الخديو إسماعيل، الذي أنشأ أيضا ميدان التحرير، وكان اسمه في ذلك الوقت ميدان الإسماعيلية نسبة للخديوي ذاته، وميدان الأوبرا؛ حيث كانت تقع الأوبرا القديمة التي احترقت عام 1971، وميدان رمسيس؛ حيث تقع محطة القطارات الرئيسية بالقاهرة، بالإضافة إلى عدد من الشوارع التي اتسمت بالطابع الباريسي مثل شارعي قصر النيل وطلعت حرب والشوارع الجانبية بينهما التي ما زالت محتفظة بمصابيح من عهد الخديو إسماعيل.

لكن شتان بين ما خطط له الخديو وبين أرض الواقع حاليا؛ فجميع محلات شارعي قصر النيل وطلعت حرب وميدان مصطفى كامل وشارع شريف مغلقة أمام حركة السيارات. وأقام المتظاهرون المؤيدون للرئيس مبارك والمعارضون له متاريس خشبية وحديدية في منتصف الشوارع للحماية وصد أي هجمات محتملة من الجانب الآخر، كما تم نزع بلاط الكثير من الأرصفة وتحويله إلى قطع صغيرة من الطوب تكون سلاحا عند المواجهات، كما اكتست جميع واجهات المحلات بألوان مختلفة من الطلاء وكتب عليها شعارات إما مؤيدة وإما مناهضة لمبارك.

«أحتاج لساعة ونصف الساعة يوميا للخروج من مسكني بمنطقة عابدين إلى كوبري أكتوبر بميدان عبد المنعم رياض، بعد أن كنت أقطع تلك المسافة في أقل من 10 دقائق يوميا».. هكذا وصف خالد إبراهيم، موظف بأحد الفنادق بمنطقة العجوزة (غرب القاهرة)، حاله منذ حظر التجول.

يضيف خالد: «الدبابات تسد جميع الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير، حتى الجانبية منها، وبالتالي أضطر إلى الذهاب إلى ميدان رمسيس لأصعد الكوبري من هناك.. ربنا يفك الكرب ويصلح الحال». أما محروس إبراهيم، صاحب مقهى بمنطقة الشريفين التي تقع على مرمى حجر من ميدان طلعت حرب، أحد المداخل لميدان التحرير، فيقول: «الحال واقف.. لا أجد زبائن واضطررت إلى إعطاء أغلب العمال في المقهى إجازة مفتوحة لحين انتهاء تلك الأحداث حتى أتجنب دفع أجرتهم اليومية التي تكلفني 80 جنيها يوميا».

ويضيف إبراهيم: «زبائني تقلص عددهم إلى أقل من الربع بسبب إغلاق الشوارع، وأغلب من يأتون الآن هم سكان الشارع الذي يقع به محلي، وأضطر لغلق المحل قبل موعد بدء حظر التجول بساعة على الأقل حتى أستطيع الذهاب إلى منزلي.. الرزق قل.. ولكن ما باليد حيلة».

أما فيفيان سعد، طالبة مسيحية من الإسكندرية تدرس بجامعة القاهرة وتقيم في بيت للطالبات المسيحيات المغتربات بشارع صبري أبو علم المؤدي إلى ميدان التحرير، فلم تستطع العودة إلى أهلها في إجازة منتصف العام التي تزامن بدؤها مع تصاعد الأحداث الأخيرة لتظل حبيسة بيت المغتربات، لا تخرج منه إلا نهارا لشراء احتياجاتها ثم تعود بسرعة. تقول فيفيان: «حظي السيئ جعلني أتأخر في السفر إلى مسقط رأسي بالإسكندرية بعد انتهاء امتحانات الفصل الدراسي الأول، لأفاجأ بتلك المظاهرات التي أدت إلى غلق طرق السفر وتوقف القطارات، فاضطررت إلى البقاء في بيت المغتربات الذي أقيم به والمطل على ميدان التحرير».

وتضيف فيفيان: «يقيم معي 3 فتيات يعانين الظروف نفسها، وشاهدنا بأعيننا الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، وعشنا لحظات الرعب بسبب أصوات طلقات الرصاص التي كانت تتردد من وقت لآخر في التحرير، وسالت الدموع من عيوننا بسبب القنابل المسيلة للدموع».

وترى فيفيان أن المشكلة التي تواجهها مع زميلاتها حاليا هي صعوبة شراء الاحتياجات المعيشية اليومية من طعام وشراب وخلافه بسبب إغلاق أغلب المحلات بوسط القاهرة، منذ بدء المظاهرات، خوفا من تعرضها للتحطيم أو الحرق في حالة اندلاع أعمال شغب أو مواجهات بين الأمن والمتظاهرين، وخوفا من البلطجية وأعمال السلب والنهب التي اجتاحت القاهرة في بعض أيام الأسبوع الماضي.

ولم يختلف الحال كثيرا عند طارق صالح أحمد، موظف بإحدى الوزارات الحكومية بمنطقة قصر العيني ويقطن بشارع هدى شعراوي الذي يقع على مرمى حجر من ميدان التحرير؛ إذ يقول: «أصيب ابني بحمى شديدة وارتفاع في درجة حرارته فبحثت عن طبيب أو مستشفى فلم أجد.. كل عيادات الأطباء والمستشفيات مغلقة فاتصلت بأحد أصدقائي الأطباء فوصف لي حقنا مسكنة فنزلت مرة أخرى لأبحث عن الدواء فلم أجد في منطقة وسط القاهرة غير صيدلية واحدة متاحة، هي صيدلية الإسعاف التي تبعد نحو 20 دقيقة عن وسط القاهرة».

أما محمود عبد الفتاح، موظف في أحد البنوك الأجنبية بمنطقة المهندسين (غرب القاهرة) ويقطن بمنطقة عابدين، فقال، وهو يلهو بهراوة خشبية أمام منزله الذي وقف ليحميه كعضو في اللجنة الشعبية: «الحياة أصبحت مملة، فالبنوك معطلة منذ بدء الأحداث، ولا يمكنني الخروج من منطقة وسط البلد لأنني لا أضمن العودة، فلا عمل ولا خروج مع أصدقائي، حياتي أصبحت حراسة المنزل بالليل، والنوم حتى العصر».