القاهرة تسعى لإشاعة جو من الاطمئنان في مدينة تموج بالمظاهرات

زيادة في رواتب موظفي القطاع العام وإعلان موعد عودة البورصة للعمل

محتج يرتدي قبعة صنعها من ورق جريدة مصرية، خلال وجوده في ميدان التحرير أمس (أ.ف.ب)
TT

في الوقت الذي تدخل فيه الثورة المصرية أسبوعها الثالث، تسعى حكومة الرئيس مبارك إلى اقتناص زمام المبادرة من المحتجين الذين لا يزالون محتشدين في ميدان التحرير، حيث أعلنت الحكومة عن زيادة في رواتب موظفي القطاع العام، كما أعلنت عن موعد عودة البورصة إلى فتح أبوابها، في محاولة لإشاعة جو من الحياة الطبيعية في مدينة تموج بالمظاهرات منذ عدة أيام.

نبرة الثقة التي تتردد في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، التي بدأت في الاعتراف بالمظاهرات عقب أيام من الدعاية الفجة، تشير إلى أن كلا الجانبين اعتقد أن فاعلية الانتفاضة قد تعتمد على قدرتهم على تغيير آراء الأشخاص الذين لا يزالون منقسمين بشدة بشأن الأحداث التي تمثل أهم تعديل جوهري للسياسيات في مصر منذ ما يقرب من ثلاثة عقود.

يقول عمر الإتربي، الذي انضم إلى عشرات الآلاف من المتظاهرين في ميدان التحرير يوم الاثنين: «يبدو الآن وكأن الرئيس مبارك يلعب لعبة النفس الطويل».

يتبدل هذا الزخم ويتحول خلال اليوم في نضال مناخي حول نوعية التغيير التي ستشهدها مصر وما إذا كان المسؤولون المصريون صادقين بشأن إمكانية حدوثه. وفي إشارة إلى التوتر، وصف المسؤولون الأميركيون بيانات عمر سليمان نائب الرئيس المصري بأن البلاد ليست مستعدة للديمقراطية «غير المقبولة»، لكنهم لم يبدوا أي إشارة على التحول عن دعم سليمان، الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه خليفة مبارك القادم.

وبعد إظهار قدرتهم على دفع مئات الآلاف من المتظاهرين إلى النزول إلى وسط القاهرة، سعى منظمو المظاهرة إلى توسيع نطاق حركتهم هذا الأسبوع معترفين بأن الأعداد البسيطة ليست كافية لرحيل مبارك. ويبدو أن الحكومة - عبر محاولتها بث الفرقة بين المتظاهرين وتقديم تنازلات محدودة والالتزام بالصبر - تعتقد أنها قادرة على النجاة من واحد من أكبر التحديات التي شهدتها خلال فترة حكمها.

ما يؤكد على وجهة نظر الحكومة هو أنها استجابت بالفعل لبعض مطالب المتظاهرين، ويقول نجيب ساويرس، رجل الأعمال المصري الذي سعى للعمل كوسيط لحل الأزمة: «الموجودون في التحرير يقللون من قيمة انتصارهم، ينبغي عليهم أن يعلنوا الانتصار».

وقد عادت الازدحامات المرورية المزمنة إلى القاهرة يوم الاثنين حيث بدأت المدينة في التأقلم مع المتظاهرين الذين يغص بهم ميدان التحرير، أحد المعالم البارزة في القاهرة، مع مشهد الدبابات وحاملات الجنود المدرعة والجنود الذين واصلوا سد بعض الشوارع، كما عاودت البنوك فتح أبوابها مرة أخرى، حيث شهدت ازدحاما كبيرا خارجها، وأزاحت بعض المتاجر الصحف عن نوافذها، في الوقت الذي لا تزال فيه بعض السيارات المحروقة موجودة في بعض الشوارع.

سعت الحكومة المصرية إلى بث صورة عن عودة الحياة الطبيعية، حاشدة في ذلك الصحف القومية والتلفزيون للإصرار على أن الحكومة تعيد فرض سيطرتها على العاصمة بعد غياب قوات الشرطة الكامل في الثامن والعشرين من يناير (كانون الثاني)، كما عقد مجلس الوزراء أولى جلساته منذ إعادة تشكيله بعد المظاهرات.

وأعلن المسؤولون المصريون أن سوق الأسهم المصرية التي انخفض مؤشرها قرابة 20 في المائة خلال اليومين الأولين للاحتجاجات، ستعيد فتح أبوابها يوم الأحد، وأنه سيتم الإعلان عن زيادة رواتب العاملين في القطاع العام بنسبة 15 في المائة، التي أعلن وزير المالية الجديد سمير رضوان عن بدء تنفيذها في أبريل (نيسان) المقبل.

تأتي هذه الزيادات مشابهة للخطوات التي اتخذتها كل من الأردن والكويت من رفع رواتب العاملين في القطاع الحكومي أو تقديم إعانات في محاولة لامتصاص غضب الشارع بشأن ارتفاع الأسعار في منطقة الشرق الأوسط، مدفوعة في ذلك بنتائج المظاهرات التي شهدتها مصر والثورة السابقة في الجزائر. وفي العراق، قال نوري المالكي إنه سيخفض راتبه، الذي يعتقد أنه يصل إلى 350.000 دولار، إلى النصف وسط غضب إزاء الخدمات الحكومة السيئة.

وكما هي الحال في الماضي، تأرجحت الحكومة بين أعمال القمع والخطوات المتواضعة نحو الإصلاح. ففي هجمات مروعة، اعتقلت الحكومة 30 ناشطا حقوقيا، لكنها عادت لتطلق سراحهم صباح يوم السبت، كما أطلقت سراح وائل غنيم مدير تسويق «غوغل» ومنظم الاحتجاجات يوم الاثنين بعد اختفائه لمدة أسبوعين تقريبا.

كانت الحكومة المصرية قد نجحت خلال السنوات الماضية في فرض سيطرتها على الأحداث، لكن تدفق المتظاهرين إلى ميدان التحرير حال دون ذلك. في حين لا يزال القتال مشتعلا في شبه جزيرة سيناء حيث يحارب البدو - الذين طالما عاملتهم السلطات المصرية على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية - قوات الأمن المصرية منذ أسابيع.

وأوضحت اللقطات التي بثتها محطات التلفزة العالمية مشاهد أصبحت أمرا مألوفا، حيث عاد عشرات الآلاف إلى ميدان التحرير ونشط جيش من الباعة الجائلين يبيعون التبغ والقهوة؛ بل وحتى البطاطا ملفوفة في قوائم مطالب المتظاهرين. وقد وصلت فرقة موسيقية للاحتفال بزفاف في منطقة لا تبعد كثيرا عن المنطقة التي شهدت معارك صاخبة الأسبوع الماضي، وكذلك تحولت عشرات من العربات التي تجرها الخيول (الحنطور) عن عملها المعتاد لتنتظر الركاب في نهاية كوبري قصر النيل المؤدي إلى الميدان.

ويقول محمد عادل، 38 عاما، سائق حنطور وقف بعربته بالقرب الميدان: «لا يوجد سائحون هذه الأيام، فماذا يمكننا أن نصنع؟ آمل أن أجني بعض المال من هنا».

ويبدو أن المرح الشديد قد أقلق بعض المتظاهرين الذين سعوا إلى استعادة المبادرة من الحكومة المصممة على استنفاذ عزيمة المتظاهرين. فدعا قادة المظاهرة لإضراب عام يوم الثلاثاء كجزء من أسبوع الصمود، ودرسوا أيضا محاولة تنظيم مظاهرات أوسع نطاقا في المدن المصرية الأخرى والقيام بعصيان مدني مثل الإحاطة بالمقرات التلفزيونية المملوكة للدولة، التي قال العديد من المتظاهرين إنها تنقل صورة مضللة عنهم بشكل صارخ.

وقال زياد العلوي، 30 عاما، منسق للمظاهرات: «هذا يعني أن وسائل التصعيد لا تزال مستمرة، ووسائل قيادة حركتنا لا تزال موجودة».

وقد اعتبر بعض المتظاهرين أن مجرد وجودهم في ميدان التحرير، حيث تخطت أعداد الحشود 100.000 مرات عديدة، كاف. وأنهم كلما واصلوا وجودهم بالميدان، ستضطر الحكومة إلى تقديم مزيد من التنازلات. على الرغم من ذلك أبدى آخرون قلقهم من أن ينقلب المد ضدهم في باقي أنحاء القاهرة نتيجة لاضطراب الأوضاع الاقتصادية والقلق حول الشكوك الحالية.

هذا القلق جعل من أغنية المطرب الراحل عبد الحليم حافظ «صورنا يا زمان» نشيدا للمتظاهرين الذين غنوا: «هنقرب من بعض كمان، واللي هيبعد من الميدان عمره ما هيبان في الصورة» وتقول منى ربيع، 28 عاما، الناشطة في مجال حقوق الإنسان: «سيطر علينا تيار الخوف لبعض الوقت، لكنه بدأ في الانحسار، تمتلك الحكومة الكثير من القوة وأعتقد أن الأفراد سيتحولون ضد المتظاهرين، وقد بدأوا بالفعل في ذلك».

وكتب أحد المتظاهرين في كراسته بعض الشائعات التي سمعها بشأن الميدان عندما خرج خارج الأسلاك الشائكة، مثل شائعات بأن موائد المتظاهرين تكتظ بالحشيش والماريغوانا، وأن الإسلاميين فصلوا الرجال عن النساء، وأن المتظاهرين يتلقون مساعدات من الخارج (50 يورو ووجبة). أما أفضل الشائعات التي سمعها، فهي أن المتظاهرين كانوا يوزعون ورودا مسمومة تقتل كل من يلمسها.

وأذاع التلفزيون الرسمي للدولة أن المتظاهرين كانوا يتلقون وجبات سريعة مجانية.

وقد أصبحت عبارة «فين وجبة كنتاكي بتاعتي؟» عبارة للسخرية في الميدان.

لكن بالنسبة للمتظاهرين الحزينين، فقد تمكنت الشائعات من أن تصبح جزءا من الحديث اليومي في القاهرة. وعلى الرغم من كون قناة «الجزيرة» هي المحطة الرائدة في نقل المظاهرات الصاخبة في كل من تونس ومصر والمناطق الأخرى، فإن التلفزيون المصري لا يزال أداة قوية في يد الدولة، وعلى الرغم من بدء الاعتراف بالمظاهرات، فإنه لا يزال يصفها ببذور الفوضى.

ويقول سعيد أحمد، سائق علق في إشارة مرورية مزدحمة: «إنهم لا يزالون هناك، وطوال هذه الفترة لم أجن مليما واحدا، ولا أجد ما يكفي لسد حاجتي».

وأخرج ثلاثة جنيهات وخمسين قرشا قال إنها كل ما تبقى معه.

وقد ازدادت حالة الامتعاض بين الأجانب في القاهرة الذين وجهت لهم وسائل الإعلام المملوكة للدولة والمسؤولون المصريون الاتهامات بالوقوف خلف هذه المظاهرات. وعلى الرغم من الإجماع الكبير بأن الفساد وعدم كفاءة الحكومة ناهيك بالوحشية التي تعاملت بها قوات وزارة الداخلية والشرطة السرية مع المتظاهرين، فإن مبارك أثار عاطفة البعض عندما أصر على أنه سيموت في مصر.

عادة ما يسمع البعض أن مطالب المتظاهرين تمت تلبيتها.

وقال محمد أحمد، 32 عاما، مالك متجر: «في هذه المرحلة يتحدث الشباب في ميدان التحرير إلى أنفسهم بأن الأمر انتهى وأنهم لو ظلوا 100 عام أو مليون عام فلن يجلبوا أي قيمة إضافية سواء لأنفسهم أو لنا».

لا يتفق الجميع على هذا الرأي، وحتى أولئك الغاضبين من المشهد في ميدان التحرير عادة ما يعبرون عن تعاطفهم مع المظاهرات السابقة، فالانتفاضة في حد ذاتها أحدثت حالة من الكبرياء.

يقول شافعي محمد، مالك متجر آخر، عن أول الاحتجاجات: «لو سألني أحد عن تاريخ ميلادي سأقول له 25 يناير (كانون الثاني). مطالبهم مطالبنا، ولو كنت أملك المال لأعطيتهم إياه، فهم يستحقون كل خير».

* خدمة «نيويورك تايمز»

* شارك في إعداد التقرير ديفيد كيركباتريك وكريم فهيم ومنى النجار وروجر كوهين وثانسيس كامبانيس وويليام ستاك