مصر: ثورة ثقافية انطلقت من ميدان التحرير

شعارات لامعة خفيفة الظل وأخرى تخلو من السجع تعبر عن مطالب الشعب > تتسم بالدقة والجرأة والعمق السياسي

مواطن مصري يلتقط صورة تذكارية أمام دبابة بالقرب من ميدان التحرير أمس (أ.ف.ب)
TT

أصبحت الاحتجاجات الكاسحة التي اندلعت في ميدان التحرير في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي نافذة تطل على صورة مصر في المستقبل دون نظام حسني مبارك. لقد برع المحتجون المحتشدون في ميدان التحرير في صك شعارات لامعة خفيفة الظل أحيانا موجهة مباشرة إلى الرئيس، وأحيانا يميلون إلى ترديد شعارات تخلو من السجع للتعبير عن مطالب بعينها مثل «الشعب يريد إسقاط النظام». وكان يصاحب الغناء «الموسيقى البلدي» الشعبية فضلا عن إلقاء الشعر ورفع الصور. هذه هي الثقافة المصرية الشعبية التي تتسم بالعلمانية والجرأة والعمق السياسي. وتمثل هذه الثقافة تحديا مباشرا للثقافة التي كان يروج لها نظام مبارك والرؤساء السابقين والتي توصلها الدولة إلى الناس من خلال وسطاء لا يتقاضون أجورا مناسبة من فنانين ومفكرين مصريين لا يستطيعون جني رزقهم بأي طريقة أخرى. وقد قضى نجيب محفوظ الذي يعد من أعظم الروائيين المصريين الجزء الأكبر من حياته (يصل إلى أربعين عاما) كموظف حكومي رغم تعيينه مستشارا لوزير الثقافة في النهاية. والفكرة الشائعة عن أن محفوظ بأنه راوٍ من الشعب غير دقيقة، فهو يدري بما يجري في كواليس السلطة مثلما يدري بما يجري في أزقة القاهرة القديمة. ففي روايته «حضرة المحترم»، التي نشرت عام 1975، يروي محفوظ قصة عثمان بيومي، الموظف الطموح الذي يعمل في جهاز الدولة ويقدم حياته كقربان لـ«النار المقدسة» للدولة. ولسان حال عثمان في لحظة ما يقول: «ربما يكون المواطن المثالي في دول أخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو حرفيا أو بحارا، لكنه في مصر هو الموظف الحكومي.. حتى الفراعنة أنفسهم لم يكونوا سوى موظفين قام الإله بتعيينهم». قد تكون هذه مبالغة لكنها صحيحة، فمصر هي أول دولة عربية تبذل جهودا مكثفة من أجل الاستحواذ على طبقة المفكرين وقد وضعت المعايير اللازمة لذلك منذ ذلك الحين. فقد جند محمد علي الذي حكم مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر أجيالا عديدة من الطلبة لنقل المعارف والعلوم العسكرية من أوروبا. وتم تعيين هؤلاء الخبراء الجدد في مدارس حكومية وصحف رسمية تابعة للدولة. وقد استمر هذا النهج الثقافي الذي تبنته الدولة حتى بداية القرن الماضي ووصل إلى أوجه إبّان فترة حكم جمال عبد الناصر. فعقب ثورة الضباط الأحرار عام 1952، قام نظام ناصر بتأميم الصحافة والسينما وأكثر دور النشر مرسيا بذلك دعائم ما أطلق عليه أحد المؤرخين «احتكار الدولة الفعلي للثقافة».

وقد استغل مبارك هذا الاحتكار لصالحه، فخلال فترة التسعينات، دخلت قوات الأمن المصرية حربا محدودة النطاق ضد الجماعات الإسلامية في صعيد مصر وبذل النظام أقصى جهد ممكن لحشد دعم المثقفين له. لذا قدم دعما سخيا إلى المجلس الأعلى للثقافة ومعارض الكتب ومشاريع النشر التثقيفية ومكتبة الإسكندرية الجديدة. وكان المجلس الأعلى للآثار، الذي يرأسه عالم الآثار زاهي حواس، يتمتع بالحظوة. وكان الفكر الذي روجت له هذه المجموعة من المؤسسات واضحا، حيث أكدت على دور النظام كحصن للاعتدال والإصلاح الديمقراطي والاستقرار الاجتماعي في الوقت الذي كانت تصبغ فيه الإسلاميين بعكس ذلك بتصويرهم إرهابيين ضد التحديث والديمقراطية ولا يهتمون بالملك توت عنخ آمون. لم يأخذ هذه الحجة على محمل الجد سوى عدد قليل من المصريين، لكنها وجدت من يستمع إليها في الخارج.

لقد تراجع البرنامج الفكري والدور الذي تم تكليف المفكرين المصريين به إلى حد ما. ففي 31 يناير، أي بعد ستة أيام من بدء الاحتجاجات، أعلن مبارك تشكيل حكومة جديدة وعين بها جابر عصفور وزيرا للثقافة. وكان جابر عصفور ناقدا يحظى باحترام كبير خلال السبعينات والثمانينات وتولى رئاسة تحرير مجلة «فصول» التي قدمت النظرية الأدبية الفرنسية للقارئ المصري. ثم تولى عصفور منصب سكرتير عام المجلس الأعلى للثقافة، الذي يعد من المؤسسات الثقافية التابعة للدولة، عام 1991. وبدأ عصفور يؤلف كتبا تقرب رواية النظام للحرب من القلوب والعقول ومن هذه الكتب «دفاعا عن التنوير» و«ضد التعصب» و«مواجهة الإرهاب». لذا لم يكن تعيين عصفور وزيرا للثقافة مفاجئا، لكنه قوبل بالرفض من مفكرين من داخل مصر ومن خارجها. وخلال نهاية الأسبوع الذي سبق تعيينه، ذكرت قناة «الجزيرة» أن أكثر من مائة محتج قد قتلوا على أيدي بلطجية داعمين للنظام. وكتب الشاعر الفلسطيني وكاتب السيرة الذاتية، مريد البرغوثي، على موقع «تويتر»: «دم الشهداء يلوث يديك أيها الوزير».

المشكلة في شعارات النظام أن «التحديث» يعني بالنسبة للكثير من المصريين تكدسا مروريا لا نهاية له ومدنا محاطة بأسوار في ضواحي المدينة و«الإصلاح الديمقراطي» يعني إعطاء رشى وانتخابات مزورة و«الاستقرار الاجتماعي» يعني عصي رجال الشرطة أو الصعق بالكهرباء أثناء التحقيق. ليس مصادفة أن يكون هذا الواقع اليومي الجديد هو محور اهتمام الفنانين المعارضين المصريين الذين انضموا إلى هذا الحشد في ميدان التحرير أو كانوا مثل الأرواح الحارسة لمن فيه.

وكان الروائي علاء الأسواني من المشاركين المتحمسين في الاحتجاجات، حيث كان يخطب في الجموع ويكتب باستمرار على مدونته. وقد حققت أفضل أعمال الأسواني «عمارة يعقوبيان» أعلى مبيعات على مستوى العالم ومكنته من جني رزقه من الكتابة حيث يعمل أيضا طبيب أسنان. ومن أسباب نجاح هذه الرواية تصويرها الصريح للفساد السياسي والتعذيب الذي يمارسه أفراد الشرطة. وتتضمن آخر أعمال الأسواني الروائية «شيكاغو» شخصية الرئيس مبارك دون ذكر اسمه، لكنها تتضمن إشارة إلى أنه يصبغ شعره مما يوضح أنه هو المقصود. كذلك جاءت عبارة «يبتسم ابتسامة باهتة اعتبرها آسرة منذ ربع قرن لذا لم يغيرها» لتشير إلى شخص الرئيس. وجدير بالذكر أن الأسواني كان يقيم صالونا أدبيا يحضره ناشطون مصريون من الشباب. ومنذ بدء موجة الاحتجاجات بدأ الأسواني يستضيف صحافيين أجانب في عيادته، وكان دائما يجيب بالنفي عند سؤاله ما إذا كان يريد أن يصبح وزيرا للثقافة.

أما بالنسبة إلى الجموع المحتشدة في ميدان التحرير، فالوقت هو وقت الشعر وقد يكون الشاعر أحمد فؤاد نجم هو ملهم هذه اللحظة. فنجم الذي ولد عام 1929 عمل موظفا بالسكة الحديد وساعي بريد وكان مسجونا سياسيا قبل أن يصبح بطل الثقافة المضادة في فترة السبعينات. وقد اقترن اسمه خلال ذلك العقد بالشيخ إمام، عازف العود الذي سجل معه عددا كبيرا من الأغاني المعارضة للنظام منها أغنية تسخر من ريتشارد نيكسون وأغنية أخرى تمدح تشي غيفارا والتي ذاع صيتها بين طلبة الجامعة. ومنذ الأيام الأولى للمظاهرات، عادت هذه الأغاني والأشعار للظهور على الساحة مرة أخرى. وكان نجم مفعما بالحماسة أثناء مقابلة أجرتها معه قناة «الجزيرة» بعد فترة قصيرة من اندلاع الاحتجاجات، وسرعان ما طفق يردد قصيدته «صباح الخير» التي وجهها للطلبة خلال مظاهرات عام 1972 وقد اقتبس موضوعها من أغاني السبوع الشعبية. وعند سؤاله ما إذا كان ذهب إلى التحرير، أجاب بالنفي موضحا أنه «رجل عجوز». وفي الواقع هو أصغر من حسني مبارك بعام واحد فقط، لكن ربما كان نجم يعني أنه يعرف متى يبتعد عن الساحة.

وفي مقابل النموذج الثقافي للنظام الذي يتجه من الأعلى إلى الأسفل، خلق المحتجون ثقافة شعبية تصادمية خاصة بهم يطبق فيها مبدأ المساواة. وفي الوقت الذي قد تعاني فيه طبقة المفكرين المصريين من الانقسام، رسم الموجودون في الميدان حدودا واضحة. وكما يقول نجم الذي تتردد أشعاره في ميدان التحرير: «هما مين واحنا مين؟ هما الأمرا والسلاطين هما المال والحكم معاهم واحنا الفقرا المحرومين. حزر فزر شغل مخك، شوف مين فينا بيحكم مين».

* روبين كريسويل هو محرر للشعر في مجلة «باريس ريفيو» الأدبية. ونشر مقاله عن الروائي المصري صنع الله إبراهيم وألبرت كوسري في عدد فبراير (شباط) الحالي من مجلة «هاربرز».