«القيادة الشبحية» لمظاهرات «يوم الغضب» ترفع درجة التأهب في «المنطقة الخضراء»

جهات مقربة من الحكومة تسعى للانضمام للمتظاهرين لإسقاط الكثير من ذرائعهم

TT

لم يتعلم العراقيون بعد فن القيادة الجماعية لأي ممارسة حياتية أو سلطوية. ففي مجتمع عرف تاريخه بالعنف وبنوع من حب التفرد، فإنه سواء على مستوى القبيلة الواحدة، حيث يكثر الشيوخ والزعامات المختلفة تحت شتى التسميات أو على مستوى الثورات والانقلابات التي يحفل بها تاريخ العراق، فإنها سرعان ما تبدأ تأكل أبناءها بسرعة قياسية قبل أن يظهر الزعيم الأوحد مثلما كان عليه أمر عبد الكريم قاسم، أو القائد الضرورة، مثلما صار عليه أمر صدام حسين قبل نحو عقد من أول ثورة على الملكية في العراق.

وفي العهد الجمهوري لا سيما مع حقبة البعث وصدام حسين، فلم تعد كلمة معارضة تعني سوى الخيانة، والمنظمات الجماهيرية ليست سوى واجهات حزبية، بل وصل الأمر حتى ببعض الأحزاب السياسية إلى أن تحولت إلى واجهة أخرى لحزب البعث. وعلى الرغم من أن العراقيين لا يجارون المصريين بحس النكتة، فإن من بين أكثر النكات السوداء قساوة، والتي تعبر عن جوهر تلك المرحلة، ما كان يردده العراقيون بشأن اسم الحزب الذي انشق عن الحزب الذي كان يقوده الملا مصطفى البارزاني، وفي ما بعد نجله مسعود وقاده أحد القادة الكرد ممن تحالفوا مع صدام حسين، حيث كان يسمى لدى العراقيين «الحزب الديمقراطي الكردستاني لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي».

وبعد التغيير عام 2003 وجد العراقيون أنفسهم أمام نمط جديد من الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير التي كانت ولا تزال المظاهرات والاعتصامات أحد أبرز مظاهرها وتجلياتها. وفي وقت وصلت فيه إلى السلطة الأحزاب التي كانت قد تشكلت خلال سنوات المعارضة ونمت على أعتابها وبعضها واجهات لها مئات منظمات المجتمع المدني، فضلا عن عشرات مثلها من المنظمات والمراكز والصحف ووكالات الأنباء التي رعتها جهات مختلفة، بمن في ذلك الأميركيون، فإنه وطبقا لما باتت تشهده المنطقة العربية من تغيير غير محسوب خلال الأشهر الأخيرة، فقد بدا للعراقيين أن حصاد الأعوام الثمانية لم يكن وفيرا وأن ما كانوا يأملونه من تغيير لم يتحقق، طبقا لما حلموا به طوال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. ولأن ما حصل في تونس ومن بعدها مصر ودول أخرى، رفع منسوب الحاجة إلى التغيير، فإن القيادات العراقية ظلت طوال الأسابيع الماضية تشعر بأنها بمأمن مما حصل وما يمكن أن يحصل ما دام لا توجد في العراق مشكلة توريث، فضلا عن وجود دستور للبلاد يمكن من خلاله أن يتم سحب الثقة من الحكومة من قبل البرلمان. وحتى عندما حصلت عدة مظاهرات في أكثر من محافظة ومدينة في العراق فإن الحكومة وكبار المسؤولين تفاعلوا معها واعتبروا أنها مشروعة لا سيما بعد تأييدها من قبل كبار مراجع الدين في البلاد. لكن مع تطور المواقف هنا وهناك، تطور الموقف في العراق هو الآخر بسرعة بعد أن تنادت مجموعة من الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت إلى تنظيم مظاهرة كبرى عبر يوم محدد هو يوم الخامس والعشرين من شهر فبراير (شباط) الحالي، في بغداد ومعظم محافظات العراق. وحيث إنه لم تظهر قيادة واضحة ومحددة لمثل هذه المظاهرات والفحوى الحقيقية لمطالبها، فإنه حتى ومع تقدم جهات معينة إلى محافظة بغداد لاستحصال إجازة بعملية التظاهر، فإنه وطبقا للمعلومات التي تسربت هنا وهناك فإن هذه الجهات إما لا أهمية لها قياسا لمن يخطط لهذه المظاهرة أو يبرمج عملها أو أنها جهات مقربة من الحكومة وتسعى من خلال التظاهر مع جموع المتظاهرين يوم الجمعة إلى إسقاط الكثير من ذرائع المتظاهرين عبر رفع شعارات ذات طبيعة خدمية بحتة عملت الحكومة والبرلمان حتى الآن على اتخاذ مجموعة من الإجراءات لمعالجتها.

ويلاحظ في هذا السياق أن هدف هذه الجهات هو الحيلولة دون تحويل المظاهرات إلى مظاهرات ذات طابع سياسي يمكن أن يصل إلى حد المطالبة بإسقاط النظام أو رحيل الحكومة، خصوصا أن هناك الكثير من المؤشرات تؤكد استنساخ التجربة المصرية من قبل الشبان العراقيين الذين يمثلون حتى الآن ما يمكن تسميته بالقيادة الشبحية للانتفاضة. فالسلطات بدأت تكثر من حكاية «المندسين» في هذه المظاهرات، بينما رفعت درجة التأهب في المنطقة الخضراء التي يقطنها كبار المسؤولين إلى أقصى مدى وسط حديث يتردد بكثرة في الشارع العراقي عن نقل كبار المسؤولين لعوائلهم خارج العراق. ويتضح أن تأثيرات الحدث المصري وصلت إلى حد استنساخ الأسماء، مثل الثورة العراقية الكبرى، على غرار المصرية، وشباب 25 فبراير على غرار حركة 25 يناير في مصر، وبالتالي فإنه في الوقت الذي يبدو فيه تغييب القادة الحقيقيين لمظاهرات الجمعة مصدر قوة لهم ولما يمكن أن يسعوا إليه من مطالب، فإنه ومع افتقار العراقيين إلى عنصر القيادة الجماعية وعدم السماح لسيارات النقل التلفزيوني المباشر للمظاهرة، إلا ربما لقنوات معينة، فإن المظاهرات يمكن أن تقتصر على أهداف محددة. وفي هذه الحال فإنه في حال نجحت فإن الانتصار له ألف أب، أما الهزيمة التي لها أب واحد فإن من الواضح أن لا أحد يريد تحمل المسؤولية، خصوصا مع بدء الضربات الاستباقية للقوات الأمنية والحكومية.