ملك الإنسانية.. لم تشغله ظروفه الصحية عن «كارثة جدة»

توجيهاته عالجت جراح أهالي المدينة المكلومة

سعوديان يرفعان العلم السعودي في الرياض أمس احتفاء بعودة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى بلاده (ا.ب)
TT

لم تكن الظروف الصحية عائقا أمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، لاتخاذ قرارات صارمة بشأن ما شهدته مدينة جدة من أمطار وسيول غزيرة تسببت في تكرار الكارثة الأولى، وذلك في السادس والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي.

انشغال ملك الإنسانية بأوضاع كارثة جدة في ظل ظروفه الصحية التي كان من المفترض أن يقضي عقبها فترة نقاهة، بحسب ما أوصى به الأطباء آنذاك، دفع الكثير من المواطنين السعوديين إلى محاولة طمأنته وترديدهم بشكل دائم «لا ينشغل بالك يا أبو متعب ارتاح».

وعلى الرغم من صعوبة اليوم الذي عاشته جدة وسكانها جراء غرق الشوارع والأحياء وتوقف حركة البر والبحر واحتجاز الناس لساعات طويلة، فضلا عن توقف معظم مناشط الحياة نتيجة الأمطار التي اعتبرها مسؤولون في جدة أمطارا غير طبيعية وغير مسبوقة، فإن توجيهات خادم الحرمين الشريفين جاءت بمثابة بلسم خفف جراح الكثيرين من المتضررين بجدة.

الأمطار الغزيرة التي شهدتها محافظة جدة آنذاك كانت سببا في تكرار بعض المشاهد التي عاشها أهالي جدة العام قبل الماضي، والمتضمنة تجمعات مياه في الشوارع مما أعاق الحركة المرورية، واستنفار الجهات الأمنية والمعنية بالكامل تحسبا لحدوث أي طارئ يستدعي التدخل، فضلا عن حالة الترقب التي يعيشها السكان، إلى جانب وقوع نحو 10 وفيات.

وفور حدوث كارثة جدة في نسختها الجديدة، وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أثناء قضائه فترة نقاهة عقب الوعكة الصحية التي ألمت به بتوفير كل التعزيزات وبشكل عاجل للحد من الأضرار التي واكبت الأمطار والسيول التي طالت محافظة جدة في حينها.

ووفقا للأمر الملكي، فإنه «نظرا لما واكب الأمطار والسيول في محافظة جدة وما جاورها، من أضرار جسيمة، أدت لكثير من الأضرار الخطيرة على الإنسان والمنشآت، وأن محافظة جدة تواجه خطر الغرق في كثير من المناطق، فيعتمد حالا ودون أي تأخير، البدء بشكل عاجل في توفير كل التعزيزات للحد من تلك الأضرار». وطالب الملك عبد الله جميع الجهات المختصة بـ«العمل ليلا ونهارا لإنهاء هذا الأمر، ومن يتهاون في هذا الأمر الخطير فيحاسب بشدة، ويرفع لنا أولا بأول».

وجاء في نص الأمر الملكي الذي صدر آنذاك: «صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام. نسخة لصاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية. نسخة لصاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة. نسخة لصاحب السمو الملكي وزير الشؤون البلدية والقروية. نسخة لمعالي وزير المالية. نسخة لمعالي وزير النقل. نسخة لمعالي وزير المياه والكهرباء. نسخة لمعالي وزير الصحة. نظرا لما واكب الأمطار والسيول في محافظة جدة وما جاورها، من أضرار جسيمة، أدت لكثير من الأضرار الخطيرة على الإنسان والمنشآت، وأن محافظة جدة تواجه خطر الغرق في كثير من المناطق، فيعتمد حالا ودون أي تأخير البدء بشكل عاجل بتوفير كل التعزيزات للحد من تلك الأضرار، خاصة أن الأمطار مترقب استمرارها في الأيام المقبلة، وقد زودنا سمو أمير منطقة مكة المكرمة بنسخة من ذلك للرفع حالا عن الجهات المقصرة وتقرير شامل حول ذلك، ومن تأخر في تنفيذ الأوامر السابقة. كما زودنا وزير المالية بنسخة من أمرنا هذا لاعتماد المبالغ اللازمة لتوفير كل الإمكانات والتعزيزات بشكل فوري. وعلى جميع الجهات المختصة العمل ليلا ونهارا لإنهاء هذا الأمر، ومن يتهاون في هذا الأمر الخطير فيحاسب بشدة، ويرفع لنا أولا بأول، فاعتمدوا ما يلزم. عبد الله بن عبد العزيز».

الكثير من الجهات المعنية سارعت في تنفيذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين على أكمل وجه وفي أقصى سرعة، فضلا عن جولات قام بها كل من الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، إلى جانب الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السعودي، بهدف متابعة أعمال تلك الجهات أولا بأول.

وكان الأمير نايف بن عبد العزيز قد ترأس بمكتبه في الوزارة عقب ما حدث لمحافظة جدة اجتماع اللجنة الوزارية المعنية بإنفاذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ونائب خادم الحرمين الشريفين الأمير سلطان بن عبد العزيز، حيال مواجهة ما تعرضت له جدة من أضرار، نتيجة هطول الأمطار الغزيرة عليها وما واكب ذلك من خسائر جسيمة أدت إلى الكثير من الأضرار الخطيرة على الإنسان والمكان.

وفي مستهل الاجتماع أكد الأمير نايف بن عبد العزيز على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق هذه اللجنة تجاه إنفاذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين ونائبه بشكل عاجل من خلال توفير كل التعزيزات اللازمة للحد من تلك الأضرار وتقديم العون والمساعدة للمتضررين وتخفيف معاناتهم وتعويضهم جراء ما لحق بهم من خسائر جسيمة.

ونوه الأمير نايف في ذلك الوقت بأن هذه اللجنة، بهذا المستوى الرفيع من المسؤولين المعنيين، سوف تعمل على تقصي الحقائق والتعرف عن كثب على جوانب الإهمال والتقصير، منعا لتكرار ما حدث من أضرار في الأنفس والممتلكات، إلى جانب تحديد المقصرين في أداء واجباتهم لينال كل مقصر جزاءه الرادع دون تهاون، مشيرا إلى أن هذه اللجنة باشرت مهماتها فور صدور التوجيه السامي الكريم كل في ما يخصه.

وأضاف حينها: «أن هذا الاجتماع يأتي لتقويم ما توافر من معطيات وحقائق حيال التعامل مع أوضاع محافظة جدة وما لحق بها وساكنيها من أضرار، ومتابعة جهود الجهات المعنية بإزالة آثار كارثة الأمطار بأقصى سرعة ممكنة من خلال عمل دؤوب متواصل ليلا ونهارا، إلى جانب التحديد الدقيق لأسباب ومسببات تفاقم الأضرار التي لحقت مؤخرا بهذه المحافظة واستكمال جوانب هذا الموضوع من خلال الوقوف ميدانيا على واقع ما تعرضت له محافظة جدة».

وأوضح آنذاك أن الزيارة الميدانية التي قام بها بعد نحو أسبوع من الأمطار، على متن مروحية تابعة لمديرية الدفاع المدني تعد وصولا إلى تقديم تصور شامل لما يجب القيام به في كل المجالات، وبما يحد من تكرار ما حدث وتحديد آليات تنفيذ ومتابعة ذلك ورفع تقارير فورية لمقام خادم الحرمين الشريفين ونائبه بهذا الشأن أولا بأول.

الأمير خالد الفيصل قال في كلمة ألقاها قبل عقد مؤتمر صحافي فور وقوع كارثة جدة: إن هناك «توجيهات صادرة من ولاة الأمر بالإسراع أولا في مساعدة المتضررين الذين اجتاحتهم الأمطار والسيول في مدينة جدة، وكذلك توجيهات القيادة بدراسة كيفية إنهاء هذه الأزمات من جذورها، وكانت توجيهات خادم الحرمين الشريفين وولي العهد صريحة وواضحة، حيث وجه نائب الملك توجيهاته للأمير نايف بن عبد العزيز لدراسة الوضع، وتعيينه رئيسا للجنة الوزارية التي ستعقد اجتماعها الأحد المقبل لمناقشة الوضع الراهن في جدة».

وتابع: «هناك تجمعات كبيرة للمياه في أماكن عدة من جدة، وقد كانت أمطار يوم أمس غزيرة وبلغت 111 ملليمترا، بحسب بعض الجهات، كما وصلت إلى 120 ملليمترا، في بعض المواقع، وهي كفيلة بأن تحدث أضرارا في أي مكان من العالم».

وبفضل توجيهات خادم الحرمين الشريفين، تمكنت الجهات المعنية من رفع الضرر عن نحو 80 في المائة من أصل 90 في المائة من المناطق التي طالتها أمطار محافظة جدة، وذلك في غضون 10 أيام فقط على الكارثة الثانية، وهو ما أكدته «الشرق الأوسط»، حينما حلقت على ارتفاع تراوح بين 500 و1000 قدم ضمن جولة بمروحية تابعة لقاعدة طيران الدفاع المدني.

أضرار الأمطار في ذلك الوقت تركزت حول أربعة أحياء تتمثل في السامر والتوفيق وأم الخير والبغدادية، إلى جانب بني مالك، لأنها ما زالت تعاني من إشكاليات وجود مستنقعات مائية، إلى جانب منازلها التي كان لأشعة الشمس دور في تجفيف الماء المستقر بها.

بينما ظهر مؤخرا وجه عروس البحر مع شيء من الشحوب، بعد أن عادت ملامحها إلى الحياة، منها الأنفاق والشوارع المتضررة التي قدرها الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، بنحو 90 في المائة من إجمالي مساحة جدة خلال جولته التي قام بها مؤخرا على المناطق المنكوبة.

اللواء طيار محمد عيد الحربي، قائد طيران الدفاع المدني في السعودية، الذي رافق «الشرق الأوسط» خلال الجولة، أوضح أن جدة قبل نحو 10 أيام لم تكن معالمها واضحة على الإطلاق، حيث إن أنفاقها اختفت بالكامل من الطرق، غير أنه ومع تضافر جهود كل الجهات المعنية المسؤولة في الدولة أصبحت حاليا «وكأن شيئا لم يكن»، بحسب قوله.

توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ومتابعته المستمرة لأحداث جدة طيلة فترة إقامته في المغرب لم تقتصر على إزالة ورفع الأضرار فقط، وإنما شملت أيضا صرف تعويضات مجزية للمتضررين كافة، في أسرع وقت ممكن.

وتأكيدا لذلك، جاءت تعويضات متضرري كارثة جدة بمثابة علاج لبعض جراح سكان المدينة المكلومة جراء كارثة المطر، حيث فاقت توقعات كل المراقبين والمتضررين، وسادت حالة رضا منذ بدء صرفها بين متضرري كارثة جدة الثانية، وذلك عقب صرف التعويضات المالية لأول 500 شيك.

وهنا علق سعد الغامدي، أحد المتضررين من سكان شرق جدة، ليؤكد، وهو أحد الذين تسلموا شيكات التعويض، أن المبلغ الذي حصل عليه فاق توقعاته بكثير، معبرا عن رضاه ورضا كل من يعرفه ممن تسلموا تعويضاتهم، وهو الأمر الذي اتفق معه فيه محمد الزهراني من سكان حي التوفيق أيضا، إذ يشير إلى أنه بدأ في الإصلاحات، وتغيير الأثاث بعد هدوء الأوضاع، وخسر حتى الآن ما يفوق 65 ألف ريال، إلا أن شيك التعويض غطى المبلغ وزاد.

في حين، قدر خبراء مختصون في قطاع العقارات والنقل لـ«الشرق الأوسط» التعويضات التي سيتم دفعها للمتضررين جراء سيول جدة من قبل الدولة بنحو 1.6 مليار ريال تقريبا، من خلال ما تم إعلانه من نتائج حصر الدفاع المدني، التي وصلت إلى 20911، ما بين عقار ومركبات، حيث بلغ مجموع العقارات نحو 12557 عقارا و8354 مركبة.

وقال عبد الله الأحمري، رئيس اللجنة العقارية في غرفة جدة: «هناك الكثير من المخططات والأحياء التي تضررت وسكانها، تكفلت الدولة بتعويضهم بشكل مجز ومرض للجميع، كما حصل في السابق، حيث من المتوقع أن يصل حجم التعويضات لتلك العقارات من أراض ووحدات سكنية إلى 1.2 مليار ريال تقريبا، التي توازي ما أعلنه الدفاع المدني».

من جهته، أوضح سعيد البسامي، نائب رئيس لجنة النقل العام في غرفة جدة، أن حجم التعويضات لأصحاب المركبات المتضررة، التي بلغ مجموعها نحو 8354 مركبة يقدر بـ400 مليون ريال تقريبا بالنسبة للأفراد، في حين وصلت تعويضات سيارات التأجير العامة للمستثمرين في قطاع الاستثمار بتأجير السيارات إلى 40 مليون ريال تقريبا. مشيرا إلى أن لجنة النقل توجهت إلى الجهات العليا، وعلى الفور تم تكوين لجنة خاصة لاستقبال طلبات سيارات التأجير العامة.