الحرس الوطني.. نبتة الوطن العسكرية التي رعاها الملك منذ نصف قرن

بدأ من مكتب للجهاد ليتحول إلى مؤسسة حضارية عمادها بناء الإنسان

آلاف من المواطنين كانوا في استقبال خادم الحرمين الشريفين لدى عودته إلى البلاد بعد رحلته العلاجية («الشرق الأوسط»)
TT

نجح الملك عبد الله وبكل اقتدار وعلى مدى أكثر من نصف قرن في تحويل جهاز الحرس الوطني من مؤسسة عسكرية إلى مؤسسة حضارية، كما نجح في صياغة الجندي السعودي وتوسيع مداركه ورفع مستوياته العلمية والثقافية، وسجل الحرس الوطني اسمه كمؤسسة ثقافية عالمية وأحد مفردات النهضة الحديثة للبلاد، جامعا بين الضوابط العسكرية وآفاق الثقافة التراثية من خلال تحويل هذه الفكرة إلى عمل كبير، فكان المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الذي أبرز الوجه الثقافي والتوجهات الفكرية للدولة السعودية الحديثة، وحقق التفاعل والتواصل بين ماض ثقافي واجتماعي، وبين حاضر يشهد بالإنجازات في مختلف المجالات. كما سجل القطاع إنجازات طبية عالمية من خلال عمليات فصل التوائم وزراعة الكبد التي تجري في مدن الحرس الطبية. وقد أسهم الملك عبد الله عندما كان أميرا في بناء وتطوير الحرس الوطني ورعاه لبنة لبنة، وتحقق الحلم الكبير على يديه بتحول الحرس الوطني من قوة عسكرية مجردة إلى أكبر المؤسسات العسكرية والحضارية العملاقة التي أسهمت وتسهم في مسيرة النهضة والتنمية في البلاد.

وأعطى الملك على مدى نصف قرن كل جهده وفكره للحرس الوطني، وأثمرت مجهوداته إنجازات وعطاءات ممتدة لهذا الجهاز في كافة المجالات العسكرية والأمنية والتعليمية والصحية والعمرانية والثقافية على امتداد مساحة الوطن.

وجاء اهتمام ورعاية الملك للحرس الوطني متناسبا مع تاريخ أولئك الأبطال الذين أسهموا في صنع تاريخ البلاد في رحلة التوحيد التي قادها الملك المؤسس عبد العزيز، حيث أمر عام 1954م بتشكيل (مكتب الجهاد والمجاهدين) ليضم أولئك المجاهدين الأوائل ويجمع شملهم، وكان هذا المكتب النواة الأولى للحرس الوطني، حيث اقتضت تطورات الأحداث ضرورة تحديث وتطوير مكتب الجهاد إلى شكل جديد، وصيغة جديدة تتوافق مع مقتضيات الواقع، حيث صدر الأمر الملكي قبل 57 عاما بتشكيل الحرس الوطني وتدافع المجاهدون والأبطال للانضمام لهذا التشكيل الجديد (الحرس الوطني).

ومر الحرس الوطني بمراحل تأسيسية متعاقبة، تشكلت فيها أفواج المجاهدين المسلحين بالبنادق والأسلحة الخفيفة، حتى كان عام 1962م، حيث شهد الحرس الوطني منعطفا مهما في تاريخه، تمثل ذلك في صدور الأمر الملكي بتعيين الأمير عبد الله بن عبد العزيز، رئيسا للحرس الوطني، ومعه انتقل هذا الجهاز من مجرد وحدات تقليدية من المجاهدين إلى وحدات عسكرية، مسلحة بأحدث ما أنتجته عقلية العصر من أسلحة ومعدات وتقنية حديثة. وقد اعتمد الحرس الوطني في كل مراحل تطوره على القوة البشرية باعتبارها القاعدة الأساسية لأي تنظيم، فالإنسان هو هدف التنمية، وهو بانيها والمخطط لها والمستفيد منها، والحاصل على خيرها، فكان الإنسان محور قوة الحرس الوطني ومجال تحديثه وتدريبه وتطويره. وفي 1967م صدر مرسوم ملكي بتعيين الأمير بدر بن عبد العزيز، نائبا لرئيس الحرس الوطني. وسجل تاريخ الحرس الوطني أسماء كان لها دور في تفعيل خطط التطوير وتحقيق الإنجازات في هذا القطاع ومن أبرزهم عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، نائب رئيس الحرس الوطني المساعد، عبد العزيز بن عياف، وكيل الحرس الوطني. كما تم تشكيل لجنة عليا برئاسة الأمير بدر بن عبد العزيز، لإعادة تنظيم الحرس الوطني وتطويره إداريا والوصول به إلى أعلى المستويات من الكفاءة والقدرة. وقد أدركت قيادة الحرس الوطني أهمية مواكبة التطورات التقنية والعسكرية التي يشهدها العالم اليوم، وتعدد أنواع الأسلحة من كيماوية إلى بيولوجية، وجرثومية، وذرية، وصواريخ عابرة للقارات، وطائرات قاذفة، وناقلات جنود ضخمة، ومدرعات ودبابات صاعقة وأقمار صناعية تجوب الفضاء واتصالات مدنية، ولم يغب هذا التطور والتقدم المذهل عن أذهان مسؤولي الحرس الوطني، حيث شهد الجهاز نقلات تطويرية وحضارية، متوازيا مع القوة العسكرية وأعيد تشكيل الجهاز العسكري ليصبح أكثر قوة وقدرة على مواجهة المهام الموكلة إليه في مرحلة البناء.

ويعد عام 1974م نقلة كبيرة في جهاز الحرس الوطني وإيذانا ببدء مرحلة أكثر طموحا عندما وقع الأمير (الملك لاحقا) عبد الله بن عبد العزيز اتفاقية لتطوير الحرس الوطني، وفق أحدث النظريات العسكرية، تنظيما وتسليحا وتدريبا، ليشمل قوات المشاة، الميكانيكية الحديثة، والمدرعات والمدفعية، والصواريخ الميدانية، والرادارات وشبكات الاتصالات العسكرية، ووحدات الهندسة العسكرية، والإمداد والتموين، وكل متطلبات القوات الحديثة من مراكز قيادة وغيرها. كما شهد التطوير سلاح الإشارة للحرس الوطني، حيث تم في عام 1978م توقيع اتفاقية بين الحرس الوطني والحكومة البريطانية لتقديم أحدث أجهزة الاتصالات السلكية واللاسلكية، وتدريب الفنيين بالحرس الوطني على التشغيل والصيانة.. وتهيئة الاتصالات الداخلية، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية لتلبية مطالب القطاع، كما تخدم هندسة الميدان جميع قوات الحرس الوطني العسكرية، وتلبي متطلباتها في الحرب والسلم، في جميع ما يخص أعمال الهندسة العسكرية.

وأجرى الحرس الوطني خلال عدة عقود ومنذ توقيع اتفاقية التطوير عشرات التمارين التعبوية من أجل اختبار القادة والضباط والقيادات والوحدات والتشكيلات، ومعرفة ما وصلت إليه من كفاءة في تحقيق مهامها القتالية، وأهدافها التدريبية، وكفاءة السيطرة على القوات، والمقدرة على نقل المصابين والإخلاء الطبي وكفاءة الشؤون الإدارية والإمداد والتموين. وحرص الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز قبل أن يصل إلى سدة الحكم على حضوره تلك التمارين وتخريج الوحدات التي تم تدريبها. وقاد نجاح هذه التمارين الأمير عبد الله بعد رعايته لأحدها قبل عدة سنوات إلى القول: «إن ما شهدناه اليوم في هذه المناورات يجعلني فخورا ومعتدا ومتفائلا بأن جندي الحرس الوطني قادر على أن يتجاوز بكفاءة تامة كل تعقيدات الأسلحة الحديثة فقد تجاوزها واحدة واحدة، فكلما وضعنا في يده سلاحا حديثا وقدرنا لفهمه فترة زمنية.. تجاوزها بسرعة، وما هذه الدقة في الرماية وفي الإصابة، وما الانضباط وما الحيوية التي رآها الجميع إلا نتيجة لجهد شاق، ومران صعب، قابله في هذه الصحراء أعواما وشهورا طويلة».

وأولى قائد الحرس الوطني قضية التعليم وبناء الإنسان في هذا الجهاز اهتماما كبيرا، فالإنسان في نظر مؤسس هذا القطاع الثروة الحقيقة والعنصر الفعال في التنمية، بل هو أداتها وغايتها، فكانت رعاية عبد الله بن عبد العزيز للمدارس والمؤسسات التعليمية ودعمه لها لا يحده حدود، فأمر ببناء المدارس والمراكز العسكرية والفنية المختلفة وفتح فصول تعليمية في الوحدات والألوية لتثقيف وتعليم منسوبي الحرس الوطني. وقبل 36 عاما أصدر الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز، رئيس الحرس الوطني أمرا بإنشاء إدارة الثقافة والتعليم لتكون مسؤولة عن متابعة برامج التعليم في كافة مراحله، وبعد افتتاح المدن السكنية تم تحويل مدارس تعليم الكبار إلى مراكز لهذا النوع من التعليم، كما تم التوسع في إنشاء المدارس من مرحلة الروضة وحتى الثانوية، كما تم تطوير المدارس العسكرية وزودت بكل متطلباتها من ميادين الرماية وساحات التدريب وميادين الاقتحام لتأهيل كافة الرتب العسكرية.

ومع التقدم الهائل في تقنيات الأسلحة وإنشاء الجامعات والكليات العسكرية في العالم، كان لا بد من تطوير وحدات الحرس الوطني عسكريا، لتكون قوة نظامية تساير تطور العصر، وتستطيع القيام بواجباتها خير قيام وتوج هذا التوجه بإنشاء كلية الملك خالد العسكرية قبل 28 عاما وتمثل الكلية النظرة العسكرية الحضارية الشمولية التي يتبناها الحرس الوطني في مجالات التعليم والتدريب والتربية العسكرية وإعداد القادة العسكريين الشباب، كما أكد ذلك الأمير عبد الله عند افتتاح الكلية في 3/3/1403هـ. حيث قال: «على أن يكون هذا التطور محوره الأساسي هو إعداد الإنسان المؤهل القادر على حمل الأمانة.. وأن مهمة هذه الكلية هي أن تقوم مع أخواتها الأخريات.. بتأهيل العلم العسكري بين شبابنا، كي يعي حاجات بلادنا مستمدا قوته من انتمائنا الإسلامي العربي العريق، ومن سير أبطالنا ومعاركنا، ولحظات تاريخنا المجيد، الذي برز فيه قادة رواد في فنون القيادة والتعبئة والاستراتيجية».

وشكلت كلية الملك خالد العسكرية مرحلة مهمة من مراحل الحرس الوطني، وتم تجهيزها بأحدث الإمكانات لتكون على مستوى تطلعات الحرس الوطني في خريجيها، ومستوى تأهيلهم العلمي والعسكري والثقافي مستفيدة من خلاصة تجارب الكليات العسكرية والجامعات السعودية والعربية والدولية.

وسجل الحرس الوطني نجاحا في مشاريع الإسكان لمنسوبيه وأنفق المليارات عليها من خلال المدن السكنية التي يبلغ عددها ست مدن بلغ عدد فيللاتها نحو 13 ألف فيللا في مدن الرياض وجدة والأحساء والدمام والطائف بإنفاق وصل إلى أكثر من 15 مليار ريال.

وعاش قطاع الحرس الوطني وثبات عملاقة في مجالات الخدمات الطبية من خلال إنشاء المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية وتطورت هذه الخدمات لتصل إلى مدن طبية عالمية تجري فيها أدق العمليات وإجراء الدراسات حول الأمراض المستعصية ولفت الحرس الوطني بنجاحه في إجراء عمليات فصل التوائم، حيث يتم نقل حالات من الداخل والخارج لإجراء عمليات الفصل بأيد سعودية وتحت إشراف أحد منسوبي هذا القطاع الذي تحول إلى وزير للصحة وهو الدكتور عبد الله الربيعة، كما يتم في مستشفيات ومدن الحرس الطبية إجراء عمليات زراعة الكبد، والتشخيص الدقيق لأمراض الكبد.

ولم ينس الحرس الوطني ضرورة مكافحة الأمية بين منسوبيه العسكريين من خلال تدعيم تعليم الكبار وإنشاء المدارس الخاصة بذلك، بهدف تجفيف منابع الأمية ونشر العلم والمعرفة بين أفراده. ورسم الحرس الوطني على صفحات البلاد معالم حضارية، مؤكدا أن جهود الملك عبد الله التي أسهم بها بتحول هذا القطاع من قوة عسكرية مجردة إلى أكبر المؤسسات العسكرية والحضارية العملاقة من خلال المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الذي سجل اسمه كواحد من الفعاليات الثقافية والتراثية العالمية، معيدا إلى الأذهان تلك الفعاليات والأسواق التي كانت تقام في مدن الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده، ومنافسا قويا للمهرجانات العالمية والعربية في الوقت الحاضر.

ورعى الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز منذ أكثر من ربع قرن المهرجان، فهو صاحب فكرته وراعيه الأول منذ أن انطلق كسباق للهجن، ثم تطور شيئا فشيئا إلى أن أصبح مهرجانا بفعالياته المختلفة، بل عد واحدا من أبرز المهرجانات الثقافية في المنطقة العربية، وملتقى للحوار الثقافي والفكري الواسع بين كبار المثقفين والمفكرين والأدباء العرب.

ونبعت فكرة المهرجان باعتبار أن الثقافة هي أحد المحاور الأساسية التي ينهض عليها التطور في البلاد، ومن أجل ترسيخ القيم والعادات، وجمع شمل المثقفين العرب، والتحاور فيما بينهم من أجل الخروج بصياغة فكرية تخدم الأمة.

وقد انطلق المهرجان عام 1985م لتحقيق أهداف أهمها: التأكيد على أهمية التراث، وتغطية الجوانب الثقافية والفنية باعتبار الثقافة هي المدخل إلى الحضارة، والعمل على إيضاح العلاقة التبادلية بين التراث والنمو الثقافي، فكلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر، فالهدف الشاغل لكل منهما هو صنع حضارة الأمم، وتحقيق هدف إظهار الوجه الحضاري المشرق للسعودية من خلال التعريف بأوجه النشاطات الثقافية والفنية المختلفة وإبراز دور كل منها، وخاصة تلك التي تستمد مادتها من التراث، حيث إنها توضح جهود أسلافنا في شتى ميادين المعرفة، والإنجازات الضخمة التي حققوها، وتربط حاضر هذه الأمة العريقة بماضيها المجيد، وإبراز رسالة الأدب العربي والشعر الشعبي وأهدافهما في مضمار الحياة، من خلال الندوات الأدبية، والأمسيات الشعرية، وشعر النظم والمحاورة، وإشراك فرق الفنون الشعبية من مختلف مناطق السعودية لتعبر بفنونها ورقصاتها الشعبية المختارة عن صميم البيئة، وتسليط الضوء على دور الفن التشكيلي في الحفاظ على الثقافة وصيانتها في المجتمع باعتباره وسيلة مهمة من وسائل التسجيل التاريخي من خلال إعداد معارض مختلفة تبرز التراث بكل أشكاله. كما يهدف مهرجان الجنادرية إلى استعراض بعض جوانب التراث والثقافة في المجالات المختلفة من خلال معارض للصحف والدوريات الإعلامية ورسوم الأطفال، وصور الفروسية والهجن، وصور الصيد والرياضة، وإقامة الأسواق الشعبية، ورسم صورة لطبيعة الحياة التي عاشها الأجداد والآباء وإظهار الأنشطة التي كانت تمارس في القديم مثل الفلاحة والدياسة، والسواني، والحراثة، وإثراء الفنون الشعبية بفرق السعودية المختلفة لتعبر كل فرقة تعبيرا حيا عن صميم البيئة الجغرافية التي نشأت فيها من خلال التعبيرات والأهازيج والرقصات التي تنبع من ذات المجتمع. ويهدف المهرجان أيضا إلى تطوير سباقات الهجن التي كانت بدايات انطلاقة المهرجان، ففي عهد الملك فيصل كان التركيز على سباقات الهجن، ثم أصبح الحفل يقام سنويا، وتطور شيئا فشيئا في عهد الملك خالد، ثم برز تطوره بتشجيع من الملك فهد وبإشراف من الأمير (الملك) عبد الله، ولي العهد آنذاك، الذي أولى المهرجان اهتمامه البالغ، حتى أصبحت «الجنادرية» واجهة حضارية تضم سباق الهجن، ومهرجانا يضم فلكلورا شعبيا لكل مدينة ومحافظة من مدن ومحافظات السعودية، ويضم مباني تبين الطراز المعماري لكل منطقة بالإضافة إلى الحرف والصناعات القديمة والحديثة، بالإضافة إلى فعاليات ثقافية وندوات ومحاضرات يشارك بها مفكرون وعلماء من مختلف دول العالم.

وخلال السنوات الـ25 الماضية توسع المهرجان وأصبح يعرف بمهرجان الجنادرية، وحقق شعبية واسعة على الصعيد الداخلي، وسمعة كبيرة على الصعيد العالمي، لكونه نشاطا ثقافيا وفكريا، يرتبط ارتباطا وثيقا بمجمل الظروف الثقافية والمناخ الفكري السائد في المنطقة العربية.

ونجح المهرجان في إزالة الصورة النمطية المكررة التي كانت تعرض في وسائل الإعلام الغربية عن الجزيرة العربية وإنسانها والتي تصور مجتمع الجزيرة في «صورة جماعات البدو أمام الخيم والجمال».

وفي السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز أمرا بتعيين الأمير متعب بن عبد الله، رئيسا للحرس الوطني وهو الذي عاصر مراحل تطويره.