بريطانيا تلجأ للعمل التطوعي للحد من عجز الميزانية

مشروع كبير لدفع الناس إلى العمل دون أجر يلقى رواجا بين المواطنين ويثير جدلا بين السياسيين

واحد من كل 6 شرطيين سيعمل دون أجر بحلول أولمبياد 2012 في لندن
TT

بزيه الرسمي الأسود المتجعد وخوذته التقليدية، لم يبد بيتر ويتني مختلفا عن أقرانه من أعضاء شرطة سكوتلانديارد. وخلال 8 شهور، تمكن ويتني، 23 عاما، من تنفيذ 10 عمليات اعتقال، وهرع لمساعدة عدد من الموظفين أصابهم ذعر من تسرب مواد كيماوية سامة.

إلا أن الاختلاف ظهر يوم تسلم الرواتب، عندما يعود ويتني، وهو واحد من أعداد متزايدة من «أفراد الشرطة الخصوصيين» العاملين في لندن من دون أجر، لمنزله خالي الوفاض. ويعمل ويتني من دون أجر، في إطار ما يطلق عليه هنا حلا جريئا لمشكلة كبرى: عجز الموازنة.

وتطبق الحكومة الجديدة التي يتزعمها حزب المحافظين هنا تجربة راديكالية للغاية سعيا للتصدي لعجز الموازنة في إطار استعدادها لتقليص الإنفاق العام بمقدار 131 مليار دولار على امتداد الأعوام الأربعة المقبلة. في الوقت ذاته، ترمي الحكومة لخلق جيش من المتطوعين والمنظمات الخيرية للعمل من أجل الملكة والبلاد، وهي فكرة وصفها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بأنها جزء من رؤيته لـ«المجتمع الكبير».

وباعتبارها واحدة من أكثر الدول الأوروبية المثقلة بالديون، تحولت بريطانيا إلى ساحة اختبار للحلول المالية المقترحة في وقت تستعد الولايات المتحدة للانطلاق في جهودها لتناول مشكلة العجز. وتأمل حركة «المجتمع الكبير» التي يتزعمها كاميرون في اجتذاب فئة جديدة من المواطنين النشطاء للاضطلاع بأدوار متنوعة مثل العمل في خدمات البريد والمكتبات العامة وتنظيم باحات انتظار السيارات والشرطة لسد الفجوة القائمة.

ومع شروع البلاد في استيعاب حجم وسرعة التخفيضات القادمة، تعرض «المجتمع الكبير» لهجوم حاد هنا، حيث يرى نقاد أن الحكومة تعاني من تفاؤل أعمى إذا ظنت أن حسن نية المواطنين يمكنها تعويض الحاجة لإجراء تخفيضات كبرى. إلا أن الحكومة، من جانبها، ترى في العمل التطوعي جزءا من الحل على الأقل. وفي بعض الحالات، لن تتاح أمام الراغبين في الحصول على وظائف مساحة كبيرة للاختيار، فمثلا، أقرت شرطة سكوتلانديارد التي تعاني من أزمة مالية، سياسة تفرض على غالبية المجندين العمل لمدة عام من دون أجر، وأصبحت تعتمد على نحو متزايد على أفراد شرطة خصوصيين يعملون من دون مقابل أمثال ويتني للمساعدة في الحفاظ على الأمن بشوارع لندن.

وبعد خوض تدريب لمدة 23 يوما، يخول إلى الأفراد الخصوصيين بالشرطة الكثير من السلطات التي يتمتع بها أقرانهم من العاملين بأجر، مع إدخال تعديل بسيط على زيهم الرسمي لتمييزهم كمتطوعين. وتسعى هذه القوة لزيادة أعدادها بصورة دراماتيكية لتصل قرابة 7 آلاف بحلول وقت انعقاد دورة الألعاب الأولمبية في صيف 2012، مما يعني أن واحدا من بين كل 6 ضباط في سكوتلانديارد سيعمل من دون أجر.

وتشهد صفوف الشرطة ازديادا كبيرا في أعداد المتطوعين أمثال ويتني، والذي يعمل مدرب سباحة وراوده منذ أمد بعيد حلم العمل لدى سكوتلانديارد. وفي الفترات التي يتوقف خلالها عن إعطاء دروس في السباحة كوسيلة لكسب العيش، يخصص ويتني ما بين 10 و30 ساعة أسبوعيا لتنفيذ دوريات في المنطقة التجارية قرب «أوكسفورد سيركس». وعن ذلك قال: «لقد عثرت بالتأكيد على ما أرغب القيام به». وترمي مبادرة «المجتمع الكبير» التي أطلقها كاميرون لنقل سلطة إلى الحكومات المحلية وتقليص الروتين البيروقراطي. وتسعى الحكومة بجد للعثور على بدائل للدولة. ففي الشهور الأخيرة، تحركت الحكومة نحو منح الآباء والأمهات والمدرسين حق تأسيس مدارس خاصة بهم، وبناء «بيغ سوسياتي بانك» (مصرف المجتمع الكبير) لمساعدة النشطاء الاجتماعيين على تمويل مشروعات مدنية بالاعتماد على أنفسهم.

لكن الضغوط ازدادت حدة مع تعرض الخطة الحكومية برمتها لخطر كبير وإصابتها بالفوضى. ففي خضم معارضة عامة قوية، تخلت الحكومة عن خطة لبيع 15% من الغابات الخاضعة للملكية العامة في بريطانيا لمنظمات خيرية ومؤسسات أخرى، الأمر الذي كان يعني، نظريا على الأقل، توفير عمال متطوعين بهذه الغابات، مما يحد من التكاليف.

وتكمن إحدى المشكلات في أن معظم المنظمات الخيرية في بريطانيا لا تزال تعتمد في ميزانياتها ليس على الإسهامات الخيرية، وإنما الحكومة الوطنية، التي غالبا ما تقدم تمويلا لمنظمات غير هادفة للربح عبر مخصصات سنوية لمجالس المدن.

على سبيل المثال، ربما تجد مدينة مانشستر نفسها مضطرة لإغلاق جميع مراكز الشباب الـ30 بها وتقليص برامج خدمة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. وصرح مسؤولون بالمدينة أنهم مجبرون على تقليص الأموال الموجهة للمنظمات الخيرية التي كان بإمكانها تحمل بعض العبء عن الحكومة.

أما في ليفربول، فثار غضب مجلس المدينة الأسبوع الماضي بسبب تخفيض التمويل الموجه إليه بنسبة 22% على امتداد العامين المقبلين لدرجة دفعت المسؤولين للانسحاب من برنامج «المجتمع الكبير». وكان من الممكن أن تشهد ليفربول تطوع عمال من العاطلين في مشروعات بناء لتعزيز ترشيد استخدام الطاقة بالمباني، مقابل الإعانات الحكومية الخاصة بهم. وقال بول برانت، عضو بمجلس المدينة من حزب العمال المعارض: «من الاحتيال أن تخبر الناس أن بإمكانك خلق (مجتمع كبير) عبر تخفيضات كبرى قاسية في الميزانيات. إذا عجزنا عن ضمان دعم المتطوعين أو التمويل للمنظمات الخيرية، فإنهم لن يتمكنوا من الانضمام لنا لمساعدتنا».

من جانبها، حاولت الحكومة طمأنة الرأي العام بأن خطتها لا ترمي لتقليص الخدمات العامة وأنها تنتظر انضمام جيش من المتطوعين للمساعدة في تحمل العبء. وأشار مسؤولون لخطط يجري تنفيذها بالفعل للاعتماد على متطوعين في المتاحف والمكتبات لزيادة ساعات العمل، وليس إحلالهم محل العاملين حاليا.

وعن ذلك، قال نيك هيرد، مساعد كاميرون لشؤون المجتمع المدني: «إن الحكومة لا تسعى للتراجع في انتظار مساعدة الآخرين. إن هناك نقلا حقيقيا للسلطة لأيدي المواطنين يجري حاليا، ويمنحهم حق رفض أسلوب تقديم أي خدمات». ويشير مسؤولون حكوميون إلى أن العمل التطوعي جزء من الحل، مشيرين إلى أفراد الشرطة الخصوصيين.

وتعود فكرة الاستعانة بمتطوعين في الشرطة يعملون من دون أجر لعصر شيرلوك هولمز، وانضمت أول مجموعة من المتطوعين للشرطة في القرن الـ19. لكن هذا البرنامج تلقى دفعة كبيرة في الشهور الأخيرة. ففي سبتمبر (أيلول)، بعد كشف الحكومة الائتلافية عن خطط لضم 50 ألف ضابط متطوع آخر لقوة الشرطة بمختلف أرجاء البلاد، أقرت قيادات سكوتلانديارد، سياسة ضرورة عمل غالبية المجندين كمتطوعين أولا. وفي خضم حملة تجنيد عبر إعلانات في مترو الأنفاق والحافلات، اقترب عدد أفراد الشرطة الخصوصيين الآن من 4200، بزيادة بنسبة 64% في غضون الـ12 شهرا الماضية فقط. وأعلن قائد شرطة سكوتلانديارد جورج كلارك أن القوة توفر نحو 20 مليون دولار بفضل البرنامج الجديد، مما يكفي لتعيين 300 فرد جديد بأجر في الشرطة سنويا. وينتمي المجندون لخلفيات شديدة التنوع، من محامين ومصرفيين يتطلعون لخوض مغامرات خلال عطلة نهاية الأسبوع، وأمثال ويتني الذي تلقى تدريبا خلال دراسته الجامعية حول علم الإجرام. في البداية، كان أفراد الشرطة الخصوصيون العاملون من دون أجر محط سخرية أقرانهم العاملين بأجر. لكن بالنظر للأزمة المالية الراهنة، حرصت حتى اتحادات الشرطة على تخفيف حدة انتقاداتها.

وفي هذا الصدد، اعترف بيتر سميث، رئيس «اتحاد شرطة العاصمة»، بأنه «في البداية لم نكن متحمسين لهذا الأمر. لكن بالنظر للأوضاع الراهنة بالميزانية، علينا الاعتراف أن هذا الأمر يوفر قدرا كبيرا من المال». لكنه استطرد بأنه لا يزال هناك بعض التردد. وقال: «يجب منح هذا البرنامج فرصة عام مع الإبقاء على النمط الآخر من التعيين للحفاظ على هيكل الشرطة بالروح والعقل معا، وسيقلص هذا من عدد الراغبين في الانضمام. في رأيي، هذه المهنة تستحق المشقة، وتستحق دفع أجر لمن يقوم بها».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»