القذافي.. من كتابه الأخضر إلى «هيئة الأمر بالمعروف».. آراء متطرفة لا تعرف الاعتدال

وزير سعودي راحل يدون تجربته مع العقيد ويتنبأ بتطرفه منذ 32 عاما

جنود تابعون للعقيد القذافي يسيطرون على مداخل أحد الطرق بين مدينة الزاوية والعاصمة طرابلس (رويترز)
TT

في الوقت الذي لا يزال فيه العقيد معمر القذافي يظهر على شاشات التلفزيون المختلفة بأسلوبه المتطرف، فإن هذا الأسلوب كان هو ديدنه منذ أمد بعيد.. فالكثير من مواقفه طيلة سنوات حكم نظامه التي جاوزت الأربعين عاما، شهدت سياساته وتصرفاته فيها مع دول عدة الكثير من علامات التعجب والاستفهام، حول طبيعة شخصيته المتطرفة، التي كانت دائمة التأرجح بين العنف الحاد، والتصالح الحميم، في تعامله مع الدول، قبل أن تظهر الشخصية ذاتها في تعامله مع شعبه الليبي.

الوزير السعودي الراحل، الدكتور غازي القصيبي، لخص في كتابه الذي أصدره قُبيل وفاته، طبيعة شخصية العقيد القذافي في تعامله الدولي بقوله «لا يكاد العقيد يعترف إلا بنوعين من أنواع التعامل الدولي: الوحدة الفورية، أو الحرب المسلحة».

الدكتور القصيبي كان قد رافق القذافي في مناسبات مختلفة، منذ دخوله العمل الوزاري عام 1975، ودوّن تجاربه الشخصية مع العقيد في أحد فصول كتابه «الوزير المرافق»، متحدثا عن عدد من المواقف التي شهدها مع القذافي، والتي تكشف التناقضات والتقلبات التي يعيشها العقيد.

وأشار الراحل القصيبي إلى أن «شخصية العقيد لا تعرف الاعتدال، فهو إما في حالة عشق عنيف أو كره صاخب، مع مصر، مع السودان، مع مالطا، مع تشاد، مع فرنسا، مع إيطاليا، باختصار مع الجميع»، مشيرا إلى أن علاقة العقيد مع السعودية غريبة ومعقدة، فكلما ساءت جاء بنفسه أو أرسل وفدا لتحسين العلاقات، وكلما وصلت العلاقات إلى درجة معقولة من الود، عاد ونسفها بنفسه وأعادها إلى حالة الفتور، مستشهدا بما قاله العقيد القذافي في حق الملك فيصل، حيث هاجمه بشكل صارخ، ثم جاء بنفسه إلى السعودية ليعتذر ويطلب العفو من الملك السعودي، قبل مقتل الملك فيصل بأشهر، حيث بثت حينها جميع إذاعات الدول العربية القرآن الكريم ما عدا إذاعة ليبيا، ولم يكتف القذافي بهذا فقط، بل صرح مستنكرا الضجة التي صاحبت مقتل الملك فيصل لمجرد أن «تاجر بترول» - على حد وصفه - قد مات.

وبعد إعلان «الجماهيرية» وتشكيل اللجان الشعبية، ومنح السلطة للمؤتمرات الشعبية، وتحويل الوزارات إلى أمانات في ليبيا، تخلى حينها العقيد عن كل ألقابه، مكتفيا بمسمى «قائد الثورة»، الأمر الذي جعله في حل عن المراسم البروتوكولية، حيث لم يصبح منذ حينها ملزما باستقبال أحد أو توديعه أو حتى لقائه، في الوقت الذي كانت فيه لدى القذافي عقدة من الألقاب، حيث كان ينادي «الملك خالد» من دون إضافة، في الوقت الذي تقتضي فيه البروتوكولات الرسمية إضافة لقب «جلالة»، كما أثار ثائرة الملك الحسن الثاني، ملك المغرب الراحل، في أول لقاء يجمعهما في قمة عربية، حين ناداه «يا أخ حسن».

ومما سجله الراحل القصيبي، في كتابه، حول أغرب ما لاحظه خلال إحدى زياراته لليبيا، هو افتقار العقيد القذافي إلى الشعبية بين الجماهير - على عكس ما كان يظهر أو يصوره العقيد - مشيرا إلى أن الوجوه التي تحيي الهتافات للعقيد، والشعارات التي ترفع لأجله، دائما ما تتكرر في مواقع مختلفة، وعلى الرغم من أن الوفد السعودي قطع مع العقيد مئات الكيلومترات، فإنه لم توجد أي جموع أو جماهير.

العقيد القذافي تصرفاته المتطرفة لم تكن على مستوى الدول فحسب، بل حتى مع معاونيه ورفاقه من أعضاء مجلس القيادة التاريخية للثورة الليبية، وفي إحدى الرحلات التي أعدها العقيد القذافي للوفد السعودي الذي زار ليبيا برئاسة الملك خالد، كان الوفد السعودي مستقلا حافلة مع العقيد القذافي لأكثر من 3 ساعات، وكان القذافي قد بدأ رحلته بعدد من الأوامر المتلاحقة للرائد عبد السلام جلود، وهو رفيقه في السلاح، والرجل الثاني في ليبيا حتى منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي، وهذه الأوامر التي تلقاها جلود، كانت - بحسب القصيبي - بلهجة جارحة لا يستطيع الرجل المهذب أن يستخدمها مع خادم في منزله، حيث كان يأمره قائلا «عبد السلام، دير (صُب) قهوة وشاهي»، «عبد السلام، أخبر الشرطة ألا يسرعوا»، «عبد السلام، ما قلت لك دير قهوة وشاهي؟».

وعلى الرغم من أن العقيد القذافي كان يعلن أن الثورة الليبية التي قادها، والثورة الإيرانية، أختان شقيقتان، وكان خلال الحرب الإيرانية العراقية يزود إيران بكميات هائلة من المعدات العسكرية، فإن المفاجأة التي سمعها القصيبي كانت إجابة القذافي عن سؤاله المتعلق بالخميني وثورته في إيران، حيث قال العقيد «الفرس كلهم مجوس، شعوبيون ومجوس، كانوا وما زالوا. والخميني لا يختلف عنهم».

الكتاب الأخضر، الذي ألفه العقيد القذافي، ويحوي ما سماه «النظرية العالمية الثالثة»، والتي تأتي بعد الشيوعية والرأسمالية اللتين وصفهما القذافي بأنهما أفلستا وانكشف إفلاسهما، يستعرض أفكاره حول أنظمة الحكم وتعليقاته حول التجارب الإنسانية كالاشتراكية والحرية والديمقراطية، حيث يعتبر هذا الكتاب بمثابة كتاب مقدس عند معمر القذافي، وذكر العقيد ذات مرة في حديث على مسمع القصيبي، أن نظريته (النظرية العالمية الثالثة)، هي طريق المستقبل، لا للعرب والمسلمين فحسب، بل للعالم الثالث كله، وللبشرية كلها. وأضاف «الشيوعيون أدركوا أن الماركسية مقضي عليها بالفناء، وأنها ستنتهي على يد نظريتي، وستثبت الأيام لكم ذلك».

وكان القذافي قد نظم مؤتمرا في ليبيا حضره مندوبون من مختلف أنحاء العالم لمناقشة الكتاب الأخضر، دعا إليه العشرات من الأساتذة الجامعيين والصحافيين والكتاب، ليقضوا أسبوعين يبحثون النظريات التي تضمنها الكتاب، حتى فاجأهم العقيد ليلا ليقول لهم جميعا «أنتم في واد، والكتاب الأخضر في واد»، وأعلن حينها أنه سيتولى شرح الكتاب بنفسه ولن يعتمد على أحد.

الراحل الدكتور القصيبي اعتبر في كتابه أن إيمان القذافي بكتابه الأخضر هو ظاهرة تستحق العجب والرثاء معا، مشيرا إلى أن العقيد قال ذات مرة «سمعت أن الناس في السعودية يتخاطفون الكتاب الأخضر، عشرات الآلاف من الناس، وأكثر من يطلبه الفتيات».

ويذكر القصيبي في كتابه أحد النقاشات التي دارت بين الوفد السعودي الذي زار ليبيا برئاسة الملك خالد، والعقيد القذافي، ودارت حول سبب اتخاذه تأريخا مختلفا عن العالم، حيث غير التاريخ الإسلامي وجعله يبتدئ بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، بدلا من هجرته، وبرر العقيد ذلك بأن «لكل إنسان حدثين تاريخيين رئيسيين، ميلاده ووفاته، وما عدا ذلك لا يهم، وقد أرخ المسيحيون بميلاد المسيح، فينبغي علينا أن نخالفهم فنؤرخ بوفاة الرسول»، ومع احتدام النقاش حول هذه القضية، أضاف القذافي «من أرخ بالهجرة؟ هل هناك نص من القرآن؟ إنه اجتهاد من عمر بن الخطاب، مجرد اجتهاد. وعمر حاكم مسلم، وأنا حاكم مسلم، وله اجتهاده ولي اجتهادي».

وهنا ذهل الملك خالد، وسأل القذافي «أنت مثل عمر بن الخطاب؟»، ليجيب العقيد «الأيام بيننا، سوف ترون، خلال 10 سنوات لن يكون هناك إنسان في العالم الإسلامي يأخذ بالتاريخ الهجري، سوف يتبع جميع المسلمين تقويمي».

وفي الوقت الذي كانت فيه علاقة ليبيا بالسعودية تمر بحالة من الفتور عام 1979، قرر العقيد القذافي زيارة السعودية ودول الخليج، طلبا لفتح صفحة جديدة ونسيان الماضي، وفي أثناء زيارته للرياض كانت زوجة العقيد وعدد من مرافقاتها، يرغبن في زيارة إحدى أسواق الرياض، وأصر الليبيون على أن تتم الزيارة من دون حراسات وترتيبات أمنية، وتصادفت الزيارة مع مرور «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، الذي يعملون على مكافحة ما يعتبرونه مخلا بالآداب والفضيلة.

وكانت إحدى مرافقات زوجة العقيد ترتدي ثوبا قصيرا بعض الشيء، الأمر الذي أدى في آخر المطاف إلى إثارة الجو بحالة من العنف كادت تصل إلى التشاجر اليدوي، وغضب العقيد حينها من هذا التصرف بعد أن ورده الخبر، معتبرا إياه إهانة مقصودة، وأصر على أن تستعد طائرته للإقلاع الفوري، وسمع الراحلان الملك خالد والملك فهد - الأمير فهد حينها – بالحادثة، وقدما اعتذارهما للضيف، وبعد أن رفض العقيد أن يرضى أو يقتنع، قال له الملك خالد إن الشامت الأكبر من فشل الزيارة سيكون أنور السادات، وهنا اقتنع العقيد بالبقاء في الرياض، بعد أن طلب حضور رئيس الهيئة، ليحاوره عن نظرة الإسلام عن المرأة والحجاب، ويدخلا في جدل زاد على الساعة.

الراحل القصيبي، الذي سرد في أحد فصول كتابه قصته مع القذافي، أشار إلى أن هناك مفتاحا أساسيا للدخول إلى شخصية القذافي بكل تعقيداتها ومتناقضاتها وأبعادها، هو الطموح والطموح المخترق والطموح الأعمى والطموح غير المحدود.. الطموح هو الذي يتحكم في تصرفات العقيد ويدفعه إليها، ويتناقض مع نفسه بدافع منه.

لكن ما هو طموح العقيد؟ هنا يذكر القصيبي بأنه وببساطة «يريد أن يكون زعيم العالم الثالث كله، لا زعيمه السياسي فحسب، بل معلمه الروحي والفكري»، معللا ذلك بحرصه على التدخل في أوغندا وتشاد وآيرلندا، وفي شؤون الهنود الحمر أيضا. ويختم القصيبي سيرته مع القذافي، متسائلا «ألا يعتبر الطموح، عندما يصل هذا الحد من العنف، أخطر أنواع الجنون؟».