أطفال الدبلوماسيين الأميركيين آخر ضحايا الثورات العربية

ينقلون إلى مجمعات سكنية ومدارس خاصة في أميركا ويظلون ممزقين بين عالمين

أبناء دبلوماسيين أميركيين عادوا إلى فولز تشرتش في فيرجينيا (واشنطن بوست)
TT

مع كل نظام تهتز أركانه، ومع كل ثورة تشتعل مجبرة سفارة أميركية على غلق أبوابها، يسعى مزيد من الدبلوماسيين وعمال الإغاثة الأميركيين وأسرهم إلى إيجاد ملاذ لهم داخل مجمع سكني بضاحية فولز تشرتش لا يحمل علامة مميزة، بينما يحمل اسما غير لافت «أوكوود». أما المؤشر الوحيد على صلة المبنى بالشؤون الدولية فيكمن في علم الأمم المتحدة الموجود أعلى المبنى.

وتسعى غالبية الأسر لإلحاق أطفالها بأصغر مدارس هذه الضاحية الموجودة في نورذرن فيرجينيا، «فولز تشرتش»، والانتظار حتى تهدأ موجة الثورات التي تجتاح العالم قبل العودة إلى مناصبهم في الخارج أو التوجه إلى دول جديدة. وبدأ تدفق الأميركيين العاملين بالخارج على الضاحية بموجة نزوح جماعي قادمة من ساحل العاج في يناير (كانون الثاني) أعقبتها مجموعة قادمة من مصر الشهر الماضي، بينهم 33 طالبا وأسرهم قدموا من القاهرة فقط. ثم بدأت موجة تفد من ليبيا خلال عطلة نهاية الأسبوع.

وخلال فترة إقامتهم في «أوكوود»، التي تحمل اسم شركة إسكان وطنية تملك المجمع، يغادر الأطفال صباح كل يوم منازلهم متجهين إلى فصول دراسية في مدارس «فولز تشرتش». ويستقل الآباء والأمهات حافلات تقوم برحلات مستمرة ذهابا وإيابا بين المجمع السكني القائم في نورث روزفلت بوليفارد ومقر رئاسة وزارة الخارجية بمنطقة فوغي بوتوم.

وعلق روب روز، مستشار الشؤون التنموية الذي وفد مع زوجته، الموظفة لدى وكالة أميركية تعنى بالتنمية الدولية، برفقة ابنتيهما إلى «فولز تشرتش» قادما من القاهرة، بقوله: «الأمر أشبه بغيتو خاص بوزارة الخارجية».

وتخلف هذه التنقلات تأثيرا سلبيا على الطلاب الذين يجري نقلهم سريعا من المناطق الساخنة بالعالم إلى هذا الركن الهادئ من الولايات المتحدة. وتعد الشقق الحديثة المجهزة في «أوكوود» جزءا من مجمع سكني مؤلف من 4 مبان تقع بين مقبرة واسعة وشارع مزدحم.

وقالت هادلي روز (13 عاما) وهي طالبة في الصف الثامن بمدرسة «جورج ميسون الثانوية»: «سألني شخص بالأمس ما إذا كنت أتحدث اللغة المصرية، وما إذا كنت أمتطي الجمل أثناء ذهابي للمدرسة. لا أعتقد أن هؤلاء يفهموننا حقا».

وشكلت «أوكوود» نقطة تجمع للدبلوماسيين الأميركيين المشردين منذ عام 1998 على الأقل، عندما قدم إليها أكثر من 10 دبلوماسيين بعد تعرض السفارة الأميركية في نيروبي لتفجير. واكتسبت العلاقة بين المجمع والدبلوماسيين طابعا رسميا عام 2006 عندما تعاقدت وزارة الخارجية مع «أوكوود» لاستضافة دبلوماسيين في زيارة لواشنطن. وتبلغ تكلفة استئجار شقة مؤلفة من غرفتي نوم 5.400 دولار شهريا، وتجري تغطية هذه التكلفة من بدل الإسكان الذي توفره الحكومة.

من جهتهم، رفض المسؤولون المعنيون بـ«أوكوود»، سواء داخل المجمع أو مقر الشركة، التعليق.

وتشتهر فولز تشرتش في الأوساط الدبلوماسية بمدارسها الصغيرة ومعدلات النجاح العالية بين طلابها. ومع وجود 2.100 طالب فقط بالمنطقة موزعين على مدرسة ثانوية وأخرى إعدادية ومدرستين للمرحلة الابتدائية، لفت الطلاب الوافدون في منتصف العام الدراسي الأنظار.

من ناحيته، قال لويس بيرلين، مدير الإدارة التعليمية بالمنطقة: «بمجرد مشاهدتي الصور المتعلقة بمصر، علمت أنها مسألة وقت قبل أن يفد دبلوماسيون للمنطقة. أينما تندلع اضطرابات، نتوقع وفود موجة من الطلاب على مدارسنا».

كانت المجموعة القادمة من القاهرة قد وصلت إلى البلاد بعدما قضت الأسر الدبلوماسية بها قرابة أسبوع محصورة داخل منازلها في ضاحية دبلوماسية يسودها الهدوء في العادة داخل العاصمة المصرية. وعلق ليام اوداود، الطالب بالثانوي، بقوله: «في البداية، لم يبد الأمر سيئا، لكن بدأنا نسمع أصوات أعيرة نارية، وبدأت الدبابات في الاقتراب من منطقتنا». وعاينت الأسر اختفاء أفراد الشرطة الذين كانوا يحرسون المجمع السكني الذي يقيمون به، وظلوا يستمعون لآخر الأنباء عبر راديو السفارة حتى صدرت أوامر إجلائهم.

غادر الطلاب «كايرو أميركان كوليدج»، وهي مدرسة ثانوية بارزة، في منتصف الفصل الدراسي، قبل شهور قليلة من إجراء الامتحانات وقبيل أيام من امتحانات منتصف العام بمادة الموسيقى. وبعد أقل من أسبوع، انتظموا في فصول دراسية في فولز تشرتش.

كان من المتوقع أن إقامة أبناء الدبلوماسيين لن تتجاوز فترة قصيرة، حتى تهدأ الثورة. لكن رغم مرور ثلاثة أسابيع على قدومهم، كانوا لا يزالون في نظام تعليمي يبدو أمامهم غريبا ومألوفا في الوقت ذاته. ورغم أنهم مواطنون أميركيون، فإن هذه هي المرة الأولى التي يلتحق فيها بعضهم بمدرسة في الولايات المتحدة. وعن ذلك، قالت فويبي بريدين (17 عاما) في إشارة للقاهرة: «أنا مستعدة للعودة. لقد عشنا بداية الثورة، والآن ننتظر في الضواحي. هذا وضع غريب».

علمت بريدين بنبأ تنحي الرئيس حسني مبارك خلال زيارتها لكلية فيرجينيا تيك. وعندما قفزت في الهواء فرحا مطلقة صرخة مدوية داخل مكتب قبول طلبات الالتحاق، «نظر إلي الناس وكأنني جننت، لكن هذا الأمر كان يشغل اهتمامي كثيرا».

يرتدي بعض هؤلاء الطلاب أثناء ارتيادهم المدرسة قمصانا رياضية تحمل كلمة «القاهرة» بارزة على صدورهم. ويرفض بعضهم تغيير توقيت ساعاتهم عن التوقيت المصري. ويتعرفون على أنباء مصر عبر صفحات أصدقائهم على «فيس بوك»، حيث ينشر أصدقاؤهم المصريون صورا من ميدان التحرير ورسائل بالعربية يعربون فيها عن فرحتهم وابتهاجهم. وقالت أردين روز (16 عاما): «هناك الكثير من الشائعات. ربما نعود هناك الأسبوع المقبل أو الشهر المقبل، أو ربما يستغرق الأمر وقتا أطول عن ذلك. أتمنى أن أتوصل إلى أنباء مؤكدة فحسب».

ولا تعد «فولز تشرتش» المدرسة الوحيدة التي استقبلت طلابا فارين من مناطق اضطرابات. فقد استقبلت «فيرفاكس» 28 طالبا من أسر الدبلوماسيين المقيمين بالقاهرة، وكذلك الحال مع ضواح أخرى في فيرجينيا، مما دفع وزارة التعليم في فيرجينيا لنشر رسالة على مستوى الولاية لمسؤولي المدارس حول كيفية التعامل مع الطلاب الأميركيين الذين عادوا إلى الولايات المتحدة من دون ذويهم أو ليس لديهم سكن.

وتستخدم وزارة الخارجية مصطلح «طفل ثقافة ثالثة» في وصف الصغار الذين يعيشون في نمط حياة شبيه بحياة الأسر العاملة بوزارة الخارجية والذين عادة ما يتنقلون من دولة لأخرى، من دون أن يتمكنوا من التكيف بصورة كاملة مع ثقافة الوطن أو ثقافات الدول المضيفة.

ويبدو هذا الوصف ممقوتا لبعض الطلاب الجدد في «فولز تشرتش» الذين لم يجدوا غرابة في مزيج الثقافات الذي قابلوه في «كايرو أميركان كوليدج». ولم يجدوا غرابة في تلقي دروس أميركية في التاريخ برفقة أحفاد مبارك وأنور السادات. ورغم أن غالبية الطلاب تمكنوا من التوافق أكاديميا (يرى الكثير منهم أن عبء الدراسة في «فولز تشرتش» أهون كثيرا عنه في القاهرة) فإن شعورهم بالإحباط يتفاقم.

ويبدي الطلاب الأكبر سنا رغبة قوية بصورة خاصة في العودة للقاهرة. وفي يونيو (حزيران) المقبل، يفترض أن يتخرجوا أمام أهرامات الجيزة مرتدين أردية حمراء وبيضاء. ويأملون في الحصول على شهاداتهم وصعود أحجار قاعدة الهرم لالتقاط صور هناك يزينون بها جدران غرفهم في الكلية. وعن ذلك، قالت بريدين: «إنه أمر نتطلع نحوه جميعا، وهو التخرج برفقة أصدقائنا ووسط ذلك المكان المذهل. أتمنى لو أن بمقدورنا العودة بالزمن للوراء».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»