الزعيم الليبي يحارب المتمردين.. والواقع أيضا

المزاعم التي تسوقها وسائل الإعلام الحكومية الليبية لا يأتي منها سوى القليل من الحقائق

ثوار يتابعون تحليق الطائرات التابعة للقذافي فوق منطقة راس لانوف (رويترز)
TT

استيقظ سكان طرابلس قبل فجر يوم الأحد الماضي على صوت المدفعية والطلقات النارية في الشوارع. وعندما تحولوا إلى الإذاعة التلفزيونية الحكومية، سمعوا أخبارا مفاجئة: «لقد تمكن الجيش الليبي من إلحاق هزيمة ساحقة بالمتمردين الساعين إلى الإطاحة بالعقيد معمر القذافي. وقيل إن هذه الطلقات النارية كانت على سبيل الاحتفال بما حدث».

وقالت نورا السعيد، 17 عاما، وهي طالبة ذهبت للاحتفال في الميدان الأخضر وسط طرابلس: «قبل أن أشعل التلفزيون كنت أشعر بالقلق والرعب الشديدين. ولكن كان هذا أفضل خبر سمعته، تمكنا من استعادة الدولة بالكامل».

ولكن لا يأتي من المزاعم التي تسوقها وسائل الإعلام الحكومية الليبية سوى القليل من الحقائق – فلم يكن هناك انتصار حاسم لقوات القذافي – ولم يكن هناك تفسير مقنع لإطلاق النيران المكثف صباح يوم الأحد داخل طرابلس.

ولم تكن الدقة والمنطق يوما من الركائز التي يعتمد عليها العقيد القذافي في فلسفة حكمه، وغيابهما شيء واضح في الوقت الحالي، في الوقت الذي يمثل فيه المتمردون التحدي الأكبر لحكمه الملغز الذي استمر لأكثر من أربعة عقود.

ولا يمر يوم داخل طرابلس من دون بعض المزاعم غير المحتملة التي يسوقها العقيد القذافي أو المسؤولين البارزين المحيطين به: لا يوجد متمردون أو متظاهرون داخل ليبيا؛ المتظاهرون تناولوا حبوبا مخدرة من تنظيم القاعدة؛ ولم يتم إطلاق الرصاص من أجل قمع المعارضين.

ومع ذلك، يبدو أن هناك شريحة من السكان داخل ليبيا معجبين بالتحدي الذي يتحلى به القذافي في ترويجه لنظرته العالمية. ويساعد الارتباك والتشويش على توضيح كيف تمكن القذافي من جعل منافسيه في حالة من عدم التوازن.

كانت مؤسسات إخبارية أجنبية تورد تقارير، تعتمد على ملاحظات مباشرة، تشير إلى أن قوات التمرد تعرضت لإطلاق نيران ولكنها بقيت مسيطرة على النصف الشرقي من الدولة، إلى جانب جيوب كثيرة في الغرب. ويبدو أن الانتصار الرئيسي الذي حققته الحكومة تمثل في إخراج المتمردين من مدينة بن جواد، التي أخذت في ليلة السبت. واستمر كلا الجانبين في الاستعداد لمعركة حاسمة في معقل القذافي داخل سرت.

ولكن بدا أن عددا كبيرا من المقيمين داخل طرابلس سعداء بتجاهل هذه التقارير يوم الأحد، واختاروا قبول رواية العقيد القذافي، والقول إن مناصريه على أبواب مقر المتمردين في مدينة بنغازي الشرقية أو يسيطرون عليها بالفعل وأنهم أسروا قائد المتمردين.

وعلى مدار أكثر من أربع ساعات، قام مناصرو القذافي بإطلاق النيران في الهواء من داخل سيارات ووسط حشود متجمعة داخل وسط المنطقة، في تعبير عن الفرحة وإشارة إلى النصر. ولوح ما يصل إلى 2000 منهم بأعلام خضراء زاهية، وفي الكثير من الحالات بأسلحة، بينما كانوا يحتشدون داخل الميدان الأخضر وظل المئات من المتظاهرين المؤيدين للقذافي هناك حتى وقت غروب الشمس.

ووجه الكثير من المواطنين داخل الميدان الأخضر انتقادات إلى قناة «الجزيرة» وقناة «العربية»، ووصفوا القناتين بالكذب، وأنهما أربكتا وأثارا المواطنين الليبيين الشباب. وكانت الحماسة البادية وسط الحشود دليلا على قوة أسطورة البطولة الملحمية التي غرسها العقيد القذافي، منذ أن تولى السلطة في السابعة والعشرين من عمره.

وبصورة جزئية قام القذافي بذلك من خلال التأكد من أنه فعليا الصوت الوحيد في الحياة العامة. ولم تحاول التقارير الإخبارية الإشارة إلى أي مسؤول حكومي بارز آخر، أو حتى لاعب كرة قدم، بالاسم، ممن ضمن أن العقيد القذافي هو فعليا الشخصية العامة الوحيدة داخل ليبيا.

كما قام العقيد القذافي ببناء شخصية لنفسه، لا سيما كثوري لا يزال يهاجم قوى استعمارية بعيدة، وكان لذلك صدى لدى الليبيين الذين لديهم تجارب مريرة تحت الحكم الإيطالي. وساعدته أسطورته الشخصية على البقاء في قمة مجتمع فصائلي قبلي منقسم بدرجة كبيرة لفترة أطول مما قضاها أي زعيم على قيد الحياة بالقارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط. ويقول الأستاذ الجامعي المتخصص في الشؤون الليبية، ديدريك فاندوال، من دارتماوث: «ربما كان مجنونا، ولكن بالتأكيد كانت هناك وسيلة».

ومن الصعب معرفة ما هو مزيج الخوف والانتهازية والإعجاب المخلص وراء حضور أنصار إلى تجمعات القذافي التي انتشرت داخل طرابلس هذا الأسبوع. وكانت الحشود المهووسة تهتف «الله ومعمر وليبيا وبس». ولكن بدأت سطوة القذافي تتشكل في عام 1975، بعد ستة أعوام من انقلاب أبيض أتى به إلى سدة الحكم، عندما نشر الكتاب الأخضر. وأنشئت معاهد حكومية من أجل تفسير الكتاب الأخضر، ونشأ جيل كامل من الليبيين يدرس الكتاب على أنه عمل عظيم في مجال التنظير الاجتماعي والسياسي. وأنشئت تماثيل للمجلدات الثلاثة في كل مدينة تقريبا.

والتزاما بالمبادئ التي تضمنها الكتاب، تخلى العقيد القذافي في النهاية عن أي لقب رسمي في الحكومة الليبية، مما أظهر أحد النماذج الأساسية على الكلام الليبي غير المفهوم. وبينما يرى الجميع داخل ليبيا أن العقيد القذافي حاكم يحوز على كل السلطات ويقف وراء كل قرار حكومي، يرد القذافي في الأغلب على منتقديه الداعين إلى تنازله عن السلطة بقول إن ذلك متأخر جدا، فقد قام بذلك بالفعل. وبعد أن قاد الثورة، قال في كلمة الأسبوع الماضي «عدت إلى خيمتي».

وعلى الرغم مما يظهر من عدم اكتراث، بقي العقيد القذافي مسؤولا ويلعب دورا في كل التفاصيل الثانوية الخاصة بالحكومة الليبية. وأشارت مراسلات من السفارة الأميركية في طرابلس نشرها موقع «ويكيليكس» إلى أنه يدير بصورة شخصية قضايا السجناء السياسيين البارزين، كما يفحص بصورة شخصية كل تعاقد حكومي ليبي تبلغ قيمته أكثر من 200 مليون دولار، ويفحص الكثير من العقود التي لها قيمة أقل أيضا، بحسب ما ورد في المرسلات. وأضافت أنه يوزع تعاقدات على الموالين، الذين يمكنهم الحصول على رسوم كثيرة لصالحهم، ويهدف ذلك بصورة جزئية إلى شراء دعمهم. كما أبدى سيطرة على التفاصيل في معاملات معقدة، مثل محاولة إحياء صفقة تم إجهاضها تعود إلى عقد السبعينات من القرن الماضي لشراء طائرات شحن «سي 130» من الولايات المتحدة.

وكتب السفير جين كريتز في إحدى المراسلات: «تميز القذافي في المراوغة التكتيكية جعله يبقى في السلطة لقرابة 40 عاما، ولكن يتراجع في النهاية التحالف المريع للفساد والسيطرة الشخصية على الساحة السياسية الذي اعتمد عليها النظام». وأضاف قائلا: «الواقع أنه لا يوجد خليفة محتمل في الوقت الحالي يتمتع بقدر كاف من المصداقية للحفاظ على التوازن الحساس». الأكثر من ذلك أن العقيد القذافي لديه اهتمام قوي بالكتب الأميركية التي تتناول الشؤون العامة. وفي إحدى المراسلات، أوردت السفارة أن العقيد القذافي كلف مساعدين يثق بهم بإعداد ملخص باللغة العربية لكتاب فريد زكريا «عالم ما بعد أميركا»، وكتاب توماس فريدمان «العالم مسطح»، وكتاب جورج سوروس «عصر اللاعصمة: تبعات الحرب على الإرهاب»، وكتاب أوباما «جرأة الأمل». ويقال إنه من الكتب المفضلة للقذافي كتاب آخر لزكريا «مستقبل الحرية: الديمقراطية غير الليبرالية في الداخل والخارج».

وبدا العقيد القذافي من المعجبين بأوباما، على الأقل حتى وجهت واشنطن انتقادات لمحاولات الوحشية الرامية إلى القضاء على الانتفاضة الليبية. وحاول الزعيم الليبي أكثر من مرة أن يجتمع مع الرئيس الأميركي الجديد، بحسب ما أوردته السفارة، وكتب إليه قائلا: «باسم أفريقيا بالكامل» و«باسم زعماء العرب حيث إنني عميدهم».

وقال العقيد القذافي لأوباما: «الرجل الأسود ليس أقل كفاءة من الرجل الأبيض. وأحيي الشعب الأميركي لأنه اختارك في هذه الانتخابات التاريخية لهذا المنصب الكبير، حتى يمكنك السعي صوب التغيير الذي وعد به».

ومنذ بدء الانتفاضة في السادس عشر من فبراير (شباط) الماضي، كرر العقيد القذافي سلسلة من التأكيدات الزائفة. وفي خطاب إلى المؤتمر الشعبي العام الليبي، على سبيل المثال، أعلن أنه لا توجد مظاهرات ضده، وأن جميع الشعب الليبي يحبه. وقال إن الاحتجاجات سببها عقاقير مخدرة وزعها أسامة بن لادن، وأكد أن أميرا إسلاميا راديكاليا استولى على مدينة في الشرق، وفرض عليها الشريعة الإسلامية، وبدء عمليات إعدام يومية بحق من يخالفها.

ولكن في نفس الخطاب، أظهر سمته الغريب، حيث توقف مرات كثيرة في كلمته التي استغرقت ثلاث ساعات، طالبا من الجمهور مساعدته على تذكر شيء، اسم صحيفة بعينها، على سبيل المثال، ليعود إلى موضوع المخدرات. وتفضل عليه الحضور بذلك.

ومن الصعب الحكم على قدر الحيطة التي يتحلى بها، ولكن من المؤكد أن بعضا من توقعاته اتسمت ببعد الرؤية. وفي رده الأول على الانتفاضة، قبل أن يسلح المتمردون أنفسهم، قال إنه من المؤكد أن الاضطرابات ستؤدي إلى حرب أهلية. وحذر من أن هذا النزاع سيستحث تدخلا غربيا، ويستطيع حاليا أن يشير إلى سفن حربية أميركية قبالة السواحل وتقارير عن قوات خاصة بريطانية في شرق ليبيا ونقاش حول ضربات جوية غربية من أجل فرض حظر جوي.

وفي أوقات أخرى بدا أنه يضع مقدارا كبيرا من الثقة في الدعاية التي يقوم بها، وقامت حكومته بدعوة قرابة 130 صحافيا أجنبيا إلى طرابلس الأسبوع الماضي وأقلوهم في حافلات ليروا أماكن قام فيها محتجون مناوئون للقذافي بحرق أبنية والاستحواذ على مدن. ربما توقع مسؤولون ليبيون أن الصحافيون سيعززون رأي الحكومة في أن المتمردين كانوا متطرفين إسلاميين ينتهجون العنف. ولكن لم تكن ثمة علامة على الرابط الإسلامي، وتحدث متمردون عن أعمال عنف أكبر من جانب قوات العقيد القذافي. وفي يوم الجمعة، بدا أن الحكومة تكابد من أجل مراقبة الصحافيين.

ولا يمكن تحديد سبب بدء إطلاق النيران في طرابلس صباح يوم الأحد، وأشار محتجون إلى احتمال وقوع اقتتال بين أعضاء من قواته الأمنية، حيث إنهم وحدهم من يمتلك سلاحا في العاصمة. ولكن استمر إطلاق النيران لأربع ساعات – وسمع بصورة متقطعة خلال ساعات النهار – وكان ذلك استعراضا للقوة أمام أي شخص، ربما فكر في تحدي القذافي.

* « خدمة نيويورك تايمز»