ساحة التحرير: من منصة لخطابات الزعيم وإعدام «الجواسيس».. إلى ساحة لمظاهرات «الغضب» و«الندم»

حملت اسم الملكة عالية وحديقتها اسم الملك غازي.. و«تحررت» في العهد الجمهوري

عراقيان يمران أمام نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد (إ.ب.أ)
TT

لم يكن اسم «ساحة التحرير» التي تقع وسط بغداد هو السبب في اجتذاب المتظاهرين العراقيين للاحتجاج على سوء الأوضاع الحياتية والسياسية، تيمنا بـ«ميدان التحرير» وسط القاهرة الذي انتصرت فيه ثورة شباب مصر، بل إن لساحة التحرير البغدادية تاريخا من الاحتجاجات والأحداث السياسية في العراق ولعل أطرفها مظاهرة خريجي الجامعات العراقية في أواسط الستينات، خلال حكم الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف، عندما استأجر الجامعيون العاطلون عن العمل صناديق صبغ الأحذية وعلقوا عليها شهاداتهم الأكاديمية وهم يجلسون تحت نصب الحرية.

في هذه الساحة التي تلتحق بها حديقة الأمة، والتي كانت ملاذا للعائلات العراقية يجتمع ثلاثة من أهم فناني الحركة التشكيلية العراقية، ففي الواجهة التي تقابل جسر الجمهورية يرتفع نصب الحرية للفنان جواد سليم، الذي انتهي منه عام 1961، وتعد هذه المنحوتات الجدارية من شواهد الفن النحتي ليس في العراق فحسب، بل في العالم أجمع، بينما يتوسط تمثال الأم، أو الأمومة، للفنان خالد الرحال حديقة الأمة، وفي الواجهة الأخرى المقابلة لساحة الطيران تقف جدارية السلام للفنان فائق حسن والتي حاول رصاص الانقلابات العسكرية تمزيق الحمائم البيضاء التي تطير في فضاء الجدارية، كما أن نصب الحرية ذاته لم ينج من رصاص البعثيين عام 1963 الذي ما تزال آثاره واضحة على مرمر القاعدة العريضة.

وقبل أن تحمل الساحة اسم «التحرير» كانت تعرف باسم «ساحة الملكة عالية»، زوجة غازي ثاني ملوك العراق، لوقوعها مقابل جسر الملكة عالية (الجمهورية حاليا) الذي تم بناؤه في عهد حكومة نوري السعيد. وثمة حادثة ما زال العراقيون يتداولونها إلى اليوم وهي أن صباح، نجل نوري السعيد، الذي كان طيارا ماهرا تحدى طيارا إنجليزيا وحلق من تحت الجسر مما أغضب والده الذي قال له موبخا: «إذا أردت أن تموت فأنت حر وهذه حياتك، لكن لو الطائرة ارتطمت بالجسر كنت تسببت في خسارة العراق ثمن الطائرة وتكاليف الجسر الذي هو ليس ملكا لأبيك»، ثم عاقبه بنقله إلى مصلحة السكك الحديدية.

وقبل قيام ساحة الملكة عالية عام 1948، كان هناك الباب الشرقي لبغداد القديمة، أو باب كلواذي، والعراقيون ما زالوا يسمون المنطقة «باب الشرجي»، وتمت إزالة بقايا الباب التي تعود للعصر العباسي عام 1938، وبعد عشرة أعوام، 1948 تحولت إلى ساحة الملكة عالية، ثم تم شراء الأراضي المحيطة بالساحة لتتحول إلى حديقة واسعة افتتحها الملك غازي عام 1937 وحملت اسمه «حديقة الملك غازي» إذ كان شارع الملك غازي يمتد منها نحو الباب المعظم موازيا شارع الرشيد، كما كانت هناك واحدة من أشهر صالات السينما التي تحمل اسم الملك غازي أيضا.

بعد عشر سنوات من إقامة ساحة الملكة عالية، وبعد قيام النظام الجمهوري في 14 يوليو (تموز) 1958، تحولت العناوين الملكية إلى أسماء جمهورية، إذ تغير اسم جسر الملكة عالية إلى جسر الجمهورية، والساحة حملت اسم التحرير، وتم هدم سينما الملك غازي وإطلاق اسم «حديقة الأمة» بدلا من «حديقة الملك غازي»، وأقيمت فيها النافورات والحدائق وبركة المياه التي تسبح بها إوزات بيضاء.

وكان أول نشاط سياسي في الساحة قيام عبد الكريم قاسم، العسكري الذي ترأس أول حكومة في العهد الجمهوري، ببناء منصة أمام الساحة ليلقي من فوقها خطبه ويستعرض هناك حشود المواطنين الهاتفة بحياته، أما أسوأ ذاكرة لهذه الساحة فهي إعدام 35 عراقيا، بينهم 13 يهوديا، تم تعليق جثث قسم منهم في الساحة والقسم الآخر نفذ حكم الإعدام بهم في البصرة وتم تعليق جثثهم في ساحة أم البروم هناك وذلك في 27 يناير (كانون الثاني) عام 1969، بتهمة التجسس لإسرائيل. ووقف صدام عندما كان نائبا للرئيس على منصة الزعيم قاسم خاطبا ومتوعدا الخونة بالإعدام.

والحديث عن ساحة التحرير يقترن بالفضاء الذي حولها، إذ إن هناك بعض الأبنية التي صارت من علامات بغداد الحديثة، إذ تقع على الجانب الأيسر المقابل لها بناية مدرسة دجلة الابتدائية للبنات وثانوية العقيدة التي تأسست سنة 1921 وهي من المدارس المسيحية الخاصة سابقا، وكانت أول عمارة بنيت فيها هي عمارة مرجان 1954 وتعود لعائلة رئيس الوزراء في العهد الملكي (عبد الوهاب مرجان) والتي تعد إحدى المحطات الأساسية في منجز المعماري الشهير جعفر علاوي، ثم بنيت (عمارة الدامرجي) وهي أول عمارة في بغداد ذات ستة طوابق، وتم البدء في تنفيذها عام 1946 وانتهى العمل منها سنة 1948 وكانت من تصميم المهندس المعماري الشهير (نيازي فتو) واعتبرت في حينها عالية جدا ونسج حول ارتفاعها «الأسطوري»، موجة من الحكايات الخرافية التي لا تصدق.

وكان تمثال محسن السعدون، الشخصية السياسية في العهد الملكي يقع في بداية الشارع الذي حمل اسمه، أي مقابل الساحة قبل أن يتم نقله إلى ساحة النصر بسبب تنفيذ نفق التحرير، كأول نفق لمرور السيارات في العراق.