الروس يحتجون بالهجرة

روسيا تشهد سادس موجة رحيل جماعي خلال قرن.. والسبب منظومة الحكم وقلة فرص العمل

الشاب الروسي بوريتشيف يقول إنه سيهاجر إلى بالي لشعوره بقلة الفرص في بلاده (واشنطن بوست)
TT

في الوقت الذي ينظم فيه محتجون في منطقة الشرق الأوسط مسيرات تجوب الشوارع مطالبة بالحرية، يلتزم الروس الصمت في أغلب الأوقات، وبدلا من النزول إلى الشوارع، أخذ البعض منهم يعبئون حقائبهم في هدوء، باحثين عن الحرية من خلال موجة جديدة من الهجرة. وليس من السهل توثيق عمليات الرحيل، لأن أغلبها لا يتم تسجيله، لكنها أصبحت حديث الصحافة المستقلة والدوائر الاحترافية في موسكو. ويُرجع الروس تلك الهجرة إلى شعورهم بعدم الرضا عن المنظومة السلطوية، وسيطرة معوقات سياسية على المجتمع في المجمل، إضافة إلى فرص العمل التي تبعث على الإحباط.

ويقول ديمتري أورشكين، وهو محلل سياسي وعالم جغرافيا تحدث عن موجة جديدة من الهجرة في مقال نشر بصحيفة «نوفايا غازيتا» نهاية يناير (كانون الثاني) «هناك شعور عام بوجود حائط صد، ويتساءل الجميع: هل حان الوقت للرحيل؟». ووصف أورشكين عمليات الرحيل الجماعي بأنها الموجة السادسة خلال أقل من قرن، وهي مختلفة عن الموجات السابقة لأن الراحلين يرغبون في العودة عندما تتحسن الفرص، على الرغم من أنهم نادرا ما يقومون بذلك. وكتب في مقاله «إنهم في الواقع لا يرغبون في الرحيل، لكن ليس أمامهم مكان يذهبون إليه، ولا شيء يفعلونه، ولا أمل لديهم».

وقال أورشكين إنه من المحتمل بدرجة كبيرة أن يرحل شباب طموحون وموهوبون مثل ناتاليا كوزمينا، وهي طبيبة أمراض قلب تبلغ من العمر 29 عاما رحلت عن موسكو في يناير الماضي.

وكانت كوزمينا تتدرب وتعمل في مستشفى بموسكو، وشعرت كأنها لا تتعلم سوى مقدار قليل ولا تذهب إلى أي مكان، واصطدمت بحائط الصد نفسه الذي وصفه أورشكين. فلم يكن لدى المستشفى المال اللازم لشراء دوريات مهنية، وكانت التقنية والعلوم متأخرة بدرجة كبيرة. وتقول الطبيبة «أدركت أنني إذا كنت أرغب في مقدار أكبر من التعليم والتدريب، فعلي الرحيل».

وحصلت كوزمينا، وهي ليست يهودية، على إقامة مدتها خمسة أعوام في مستشفى بالقدس، وترى أنها تتقدم هناك. وتقول «اكتسب خبرة أكبر بآلاف المرات». وقالت إن الحكومة الروسية تخصص الأموال للمستشفى الذي كانت تعمل فيه بموسكو، لكنها لا تصرف هذه الأموال على الاحتياجات. وقالت «كل المؤسسات فاسدة، ولا يمكننا التحرك إلى أي مكان، كنا بمثابة أشخاص عالقين». وتخطط كوزمينا إلى العودة خلال خمسة أعوام، لكن أورشكين قال إن هذه التحركات المهنية غالبا ما تصبح انتقالا دائما. وأضاف «يصنعون حياتهم هناك، ولا يعودون».

وفي الحقبة السوفياتية، كانت الهجرة تصرفا جريئا لا رجعة فيه يتطلب تصريح خروج والتخلي عن الجنسية وترك معظم العائلة وممتلكات أخرى للأبد. وفي الوقت الحالي يرحل معظم المهاجرين بصورة مؤقتة للدراسة أو بموجب عقد عمل لعام أو عامين في أي مكان آخر. ويعودون إلى أرض الوطن بصورة متكررة للزيارة، ويتحولون تدريجيا إلى مهاجرين.

بدأ يوري سوروف، وهو مترجم يبلغ من العمر 41 عاما كان ذهب إلى كندا منذ 2003، يسمع أصدقاء في موسكو، طالبين النصح بشأن الهجرة. ويقول «يشتكي أصدقائي طوال الوقت: لا توجد فرص كافية ولا أموال كافية ولا وظائف جيدة كافية». ويعود سوروف إلى روسيا بصورة متكررة، ويقوم بزيارة والديه وأصدقائه.

ويقدر سرجي ستباشين، رئيس غرفة المراجعة التابعة للحكومة التي تشرف على النفقات العامة، أن نحو 1.25 مليون شخص من بين 140 مليون هم عدد سكان روسيا، غادروا البلد خلال الأعوام القليلة الماضية. ويقول غنادي غودكوف، رئيس لجنة الأمن في الغرفة السفلى بالبرلمان، إن الرقم يبلغ 96.000 في العام. وقال صحيفة روسية إن عددا كبيرا من رجال الأعمال الصغار يغادرون لأن العمل هنا صعب للغاية. ويقول غودكوف «لا يوجد سوى طريق للخارج، وهو: شيريميتيوف 2»، في إشارة إلى المطار الدولي الرئيسي.

وكرئيسة لمعمل الهجرة في أكاديمية العلوم الروسية، درست زانا زايونتشوفساكايا موجات هجرة سابقة، ومن بينها موجة هجرة خلال التسعينات، عندما رحل ما يصل إلى 6 ملايين شخص. لكن رغبتها في بحث هذه الموجة وضعتها في مواجهة حائط يواجهه الآخرون. وتقول «يعد نزيف العقول من المواضيع الملحة في الوقت الحالي، ونرغب في دراسة هذا الموضوع، لكن لا يمكننا الحصول على الأموال اللازمة للقيام بذلك».

وجذب الرئيس ديمتري ميدفيديف الانتباه إلى نزيف العقول في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما حصل عالمان مهاجران ولدا وتعلما في روسيا على جائزة نوبل في الفيزياء. وعمل الاثنان في بريطانيا، وإلى هناك جذبا عددا من العلماء المولودين في روسيا.

وقال ميدفيديف «نحتاج إلى بذل جهد حتى لا يذهب مواطنونا الموهوبون إلى الخارج»، وأضاف أن الحكومة فشلت في الاستثمار في مجال البحث بالصورة المناسبة. وحاول توظيف أجانب لجعل روسيا أكثر تنافسية.

وتعمل زايونتشوفساكايا داخل مبنى من 20 طابقا يبدو كأنه لم يمس منذ إنشائه في الستينات من القرن الماضي. وظهرت شقوق في درجات السلم الخارجي الخشبية، كما تغير لون الأرضية. ويبحث الخريجون الشباب الموهوبون عن العمل في أي مكان آخر، وأصغر أفراد ضمن فريقها في العقد الخامس. وتقول «أعتقد أن هناك هجرة، ربما ليست كثيرة مثلما كان الحال سابقا. وما أراه ينمو هو هجرة الأطفال في المدارس، حيث يذهبون إلى مدارس داخلية وبعد ذلك الجامعة. ولن يعود هؤلاء يوما».

وأصبح إرسال أطفال إلى الخارج للدراسة أمرا شائعا بين هؤلاء الذين يمكنهم تحمل تكلفة ذلك. وخلال الأشهر الأخيرة قبل سبتمبر (أيلول) 2010، أصدر مسؤولون بريطانيون في موسكو 9241 تأشيرة دراسة، مقارنة بـ8319 تأشيرة خلال الفترة نفسها من العام السابق.

ويبحث المواطنون الأكبر سنا عن وسيلة للخروج من خلال شراء عقار في دول أقل تكلفة مثل بلغاريا، ويقومون بتأجير شققهم الأغلى ثمنا في روسيا من أجل الحصول على الأموال. وبالنسبة إلى سكان سيبيريا تعد الصين من المقاصد المرغوب فيها. وشجعت على ذلك فرص السفر القليلة التكلفة. وقد سافر أرتيوم بوريتشيف، نائب مدير التقنية في مجمع التلفزيون الحكومي وخريج معهد تقني بارز في موسكو، إلى جزيرة بالي الإندونيسية قبل عام ونصف العام، وأعجبته هناك الشمس والمياه وطبيعة الحياة، ولذا قرر الانتقال إلى هناك.

ومن المقرر أن يرحل هذا الشهر ليعمل في وظيفة إدارية داخل مدرسة تزلج تخضع لإدارة روسية، ويخطط أن يتعلم العمل التجاري. ويأمل في النهاية أن يؤسس شركة خاصة به، على الرغم من أن ذلك ليس ضروريا في بالي. وقد غير بالفعل من تسريحة شعره، ويتخيل اليوم الذي يترك فيه البرد الشديد ويستمتع بالفاكهة الطازجة والأسماك. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك. ويقول بوريتشيف، 28 عاما «السبب الرئيسي هو أنني أحس بمستقبل جيد هنا، فقد عملت في ست شركات مختلفة، بداية من أيام الدراسة. لكن كان الوضع متشابها في الجميع، ويمكن أن تعمل بصورة جيدة، وتعمل بصورة غير جيدة، لكن ستبقى في المكان نفسه. لماذا ستعمل بجد إذا كنت ستبقى على حالك؟». ويقول إن الكثير من الأشخاص يشعرون بأن ذلك أمر عادي. ويضيف «لا أعتقد أن ذلك أمر عادي، وسأرحل».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»