الشارع العراقي.. من «بالروح بالدم نفديك يا...» إلى «هذا الشعب ما يريدك»

استعاد في أسبوعين ما فقده في أربعة عقود

TT

وفقا لتقارير معلنة من الحكومة والبرلمان العراقيين فإن أكثر من 180 قانونا من الدورة البرلمانية السابقة لم يتم تشريعها أو حتى قراءتها قراءة أولى.

وطبقا للتقارير ذاتها، فإن مجموع ما أنفق على الكهرباء الوطنية طوال السنوات الثماني الماضية بلغ 27 مليار دولار من دون نتيجة ملموسة. الأمر نفسه ينطبق على البطاقة التموينية، حيث وصل العجز الحكومي في معالجتها إلى حد إما إلغاؤها أو اقتصارها على أصحاب الدخول المنخفضة من الفقراء، وهو ما لم يتحقق إلا على مستوى الوعود. الرواتب والامتيازات والمنافع الاجتماعية التي كانت تستنزف من ميزانية الدولة المزيد من المليارات سنويا ظلت محل تجاذب وتنافر بين القوى السياسية.

كل هذه التقارير والبيانات الحكومية والبرلمانية كان يجري تداولها طوال السنوات الثماني الماضية، وكثيرا ما كانت تخضع للابتزاز حينا أو لتصفية الحسابات حينا آخر، خصوصا وقت الأزمات. لكن ما إن بدأ الشارع العراقي يأخذ زمام المبادرة ويستعيد السيطرة على ما كان قد فقده من «سلطة» طوال أربعة عقود من الزمن، حتى أصبح ما تم اتخاذه من قرارات حكومية وبرلمانية في غضون أسبوعين يفوق كل ما تم اتخاذه طوال سنين على الأصعدة المختلفة. فالبطاقة التموينية أعلن إنها ستكون جاهزة في غضون أسبوعين مع مبلغ تعويضي عن المفردات المفقودة لكل مواطن. أما القوانين والتشريعات المؤجلة من سنوات فقد انتفض مؤخرا لأجلها عدد من أعضاء البرلمان من الكتل النيابية نفسها التي تتحمل قدرا كبيرا من عملية التأخير والتسويف، والتي اعترضت على تأخير إقرارها بعد مرور ثلاثة شهور على بدء الدورة البرلمانية، بينما غطى بعضها التراب لمدة أربع أو خمس سنوات من دون أن ينتفض من أجلها أحد. وفوق هذا وذاك، وفي مسعى لاسترضاء الشارع، فقد أعطت الحكومة لنفسها مهلة لمدة مائة يوم للحساب وإعادة التقييم.

وهكذا، ولأول مرة منذ نحو أربعة عقود، يجد «الشارع العراقي» نفسه وقد تحول إلى سلطة قادرة على «إجبار» السلطات التشريعية والتنفيذية على اتخاذ قرارات تحاول قدر الإمكان الارتفاع إلى سقوف مطالبه عقب المظاهرات التي عمت العراق. فقبل عام 2003 كان النظام السابق لا يسمح إلا بخروج مظاهرات من إعداده وإخراجه وبمضمون واحد يتراوح بين التأييد والاستنكار والإدانة للاستعمار والإمبريالية والصهيونية. وبوجود سلطة الحزب الواحد الذي يمتلك الصوت الإعلامي الواحد من خلال الصحيفة الرسمية والتلفزيون الرسمي والإذاعة الرسمية فقد اختفت سلطة الشارع تماما إلى الحد الذي تحول معه ما كان يطلق عليها منظمات المجتمع المدني، مثل اتحادات الطلبة والنساء والشباب والأدباء والعمال والفلاحين، إلى مجرد واجهات حزبية.

بعد سقوط نظام صدام حسين على أيدي الأميركان عام 2003 تنفس العراقيون لأول مرة هواء الحرية، التي بلغت في ما بعد حد الفوضى الخلاقة. وكان من بين مظاهرها حرية إصدار الصحف وإطلاق الفضائيات وتأسيس منظمات المجتمع المدني التي وجدت من يغدق عليها من السفارات والدول والجهات المانحة. ومن خلال تمرير الكثير من الفعاليات مثل الانتخابات والدستور وغيرهما، فقد نجحت الطبقة السياسية في اللعب على حبال الانقسامات الطائفية والعرقية التي تمت تغذيتها على مائدة الخلافات السياسية بين الأحزاب والقوى المتنفذة، والتي بلغت في ما بعد حد الاقتتال الطائفي.

لكن سرعان ما تغيرت الأحوال مع بدء أعاصير التغيير في المنطقة، حيث انهارت العلاقة بين الطرفين إلى الحد الذي بات معه رجال الطبقة السياسية يقارنون بين أرقام المتظاهرين وما حصلوا عليه هم من أصوات الناخبين. ومع أنه من السابق لأوانه القطع بشأن ما يمكن أن يحصلوا عليه من أصوات في حال أعيدت الانتخابات من جديد، فإن الأمر الذي بات شبه مؤكد هو أن الشارع العراقي الذي كان مملوكا طوال حكم النظام السابق للحزب الواحد والرجل الواحد والهتاف الواحد «بالروح بالدم نفديك يا صدام»، فإنه وبعد أن صار بعد السقوط ملك الطائفة الواحدة أو العرق الواحد أو المذهب الواحد، تمكن وفي غضون أسبوعين من إعادة تحديد أولوياته كسلطة قادرة على فرض إرادتها من خلال هتافات وشعارات يهدر أصحابها في ساحة التحرير في قلب العاصمة، ومنها هتاف «يا مالكي شيل إيدك.. هذا الشعب ما يريدك».