الليبيون على الحدود يتساءلون: هل هناك قلاقل في الداخل؟

روايات مشوشة تنفي وجود حرب أهلية أو قصف بالقنابل أو جيوب للثوار

TT

يناقض الكثير من الليبيين العابرين إلى الحدود التونسية هنا ما تبثه وكالات الأنباء وتلفزيونات العالم، مصرين على أن الأوضاع في ليبيا هادئة، فلا وجود لحرب أهلية أو قصف بالقنابل أو قتال أو خوف. يقول فوزي علي خليفة لغريبي (22 عاما)، رجل شرطة ليبي: «أنصحك أن تشاهد التلفزيون الوطني الليبي، الجميع هنا يؤيدون القذافي».

ربما تكون هذه إحدى العبارات الغريبة التي يرويها الليبيون الذين يدخلون إلى تونس ويخرجون منها كل يوم عبر هذه المحطة الحدودية المتداعية إلى جانب آلاف العمال المهاجرين الذين يواصلون الهرب من العنف الدائر في ليبيا. لكن الكثير من الليبيين يقولون إن كل شيء جيد وهم في طريقهم إلى المدن القريبة لبيع الملابس والبنزين الليبي مقابل المواد الغذاء والأدوية التي لا يمكنهم الحصول عليها من الجانب الآخر من الحدود.

يرفض غالبية الليبيين الحديث إلى الصحافيين، لكن من يوافقون على الحديث إلى الصحافيين لوصف الموقف في غرب ليبيا يتحدثون عن حالة نموذجية من الهدوء الكامل، أو كما يقول الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، بأن جيوب العنف هذه هي من صنع مقاتلي «القاعدة» والشباب الذين يتعاطون المخدرات. وسرت شائعات بوجود جواسيس ليبيين يسجلون لوحات أرقام السيارات، وتناقلت تقارير عن اعتقال ليبيين توقفوا عن الحديث مع الصحافيين.

يشير الخبراء إلى أن بعض هذه الروايات المشوشة دليل على مناخ الخوف الذي يفرضه القذافي على ليبيا، حيث تواصل القوات المتمردة والثوار معركتهم من أجل السيطرة على البلاد. بينما تعكس روايات أخرى إنكارا تاما للحقيقة والرغبة الواضحة في نقل كلمات القذافي المتسمة بالغلو أو على الأقل تكرار رواية المؤامرة التي تتعرض لها ليبيا. جاء لغريبي من مدينة زلتان في الشمال الغربي من ليبيا للحصول على الأدوية لعائلته، وقطعة من القماش الأخضر ترفرف من فوق المرآة الخلفية لسيارته، كرمز لدعمه حكومة القذافي. يقول لغريبي عن القذافي: «إنه مرشد الثورة وقائد معلم. فهو يدعمنا في كل شيء». وأكد أن المراسلين الأجانب هم الذين اختلقوا الأكاذيب بشأن العنف في المدن الليبية، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من تحديد السبب وراء ذلك، فإنه أصر على «أن شيئا لم يحدث وأنهم يختلقون الأكاذيب». وقال: «ما يروونه لا يحدث في بلادي. هذه ليست ليبيا التي أعرفها».

لكن الوقائع على الأرض تعارض ما يدعيه لغريبي؛ فهناك أكثر من 230.000 عامل أجنبي تركوا ليبيا هربا من القتال الدائر منذ منتصف فبراير (شباط) بأمر من الشعب الليبي، ويقول لغريبي: «لم نعد نرغب في وجودهم بعد الآن»، وعلل ذلك بأنهم جلبوا الأمراض والدنس إلى البلاد.

غير أن الكثيرين بدوا أقل يقينا من لغريبي حول الروايات التي ينبغي أن يرووها للأجانب. فحسين عايد العلافي (36 عاما)، قدم إلى تونس من مدينة الزاوية، التي تشهد قتالا مريرا، هاربا من خطر القتال الدائر هناك.

ويقول: «لم يعد بمقدوري الخروج من المنزل على الإطلاق. أنا أخشى المتمردين من الشباب المخدرين و(القاعدة) أو شيء ما آخر».ويضيف علاف، الذي كان يرتدي سترة جلدية ممزقة ويجلس خلف مقود سيارة «مازدا» سوداء رياضية: «إذا رفعت العلم الأخضر رمز القذافي في الزاوية سيطلق عليك المتمردون الرصاص».

على الرغم من تلك الرواية كان علاف قبلها بدقائق يصف الهدوء الذي يعم المدينة. وقال إنه لم ير أو يسمع نيران الأسلحة الصغيرة أو المدفعية على الرغم من التقارير الواسعة عن القصف الكثيف والقتال الدائر في الشوارع قبل استيلاء القوات الموالية للعقيد القذافي على المدينة خلال الأيام الأخيرة. وعاد مرة أخرى ليقول إنه كانت هناك اشتباكات محدودة في وسط المدينة تم تضخيمها على نحو بالغ من قبل وسائل الإعلام الغربية.وقال: «الحمد لله، كل شيء في الزاوية هادئ تماما، لكن ما أراه على شاشة التلفزيون غريب حقا».

انطلق العلافي بسيارته بعد تجمع أكثر من 10 تونسيين إلى جانب سيارته وصاحوا به: «أنت تقول الأكاذيب».

تفسير هذه الروايات المضطربة والمشوشة جاء من أحد شباب مدينة زوارة الليبية الذي قال إن الليبيين الذين يتحدثون مع الصحافيين يعتقلون من قبل الشركة. فكل شيء هنا ممكن. كان الشاب (21 عاما)، يتصبب عرقا في سيارته الـ«مرسيدس» وكان قلبه يدق بعنف أسفل السترة الرقيقة، رافضا ذكر اسمه خشية التعرض للانتقام من قبل السلطات.

تعيش ليبيا ثقافة ضاربة أطنابها فيها منذ زمن بعيد من الطاعة خوفا وارتيابا في ليبيا، كما هو الحال في حكومات مشابهة، بحسب خبراء وشخصيات أقامت من قبل في ليبيا.

ويقول لويس مارتينيز، مدير مركز أبحاث أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط في الرباط: «اعتاد الليبيون على عدم الحديث عن القذافي. فبعد 42 عاما من حكم القذافي توصلوا إلى قناعة أن أحدا لا يستطيع الحديث عن كل هذا».

وأرجع مخاوف الليبيين إلى اتساع نطاق عمليات التجسس الداخلي الذي رسخ في أذهان الليبيين بأن «هذا النظام موجود في كل مكان»، مشيرا إلى أن «الشرطة السرية تنتشر على نطاق واسع في ليبيا، وأن معارضي الحكومة اختفوا منذ عهد بعيد».

وتقول مونيا قدور (23 عاما)، طالبة تونسية عاشت مع عائلتها في الزاوية حتى بلغت من العمر 20 عاما: «ليس لديهم ثقافة التعبير عن أنفسهم، فالليبيون مهووسون بالخوف والارتياب»، على الرغم من اعترافها بأن هذه المخاوف ربما تكون مبررة. وعندما سئلت عن مصير الليبيين الذين ينتقدون الحكومة، رفعت إبهامها إلى عنقها، في إشارة إلى القتل.

ويزعم لازهر طايب (45 عاما)، تونسي يبيع السجائر والعلكة من صندوقه الخشبي على رصيف هذه المحطة الحدودية، أنه يعرف الكثير من التونسيين الذين كانوا يتلقون رواتب من نظام القذافي للتجسس على الليبيين هناك.

ويؤكد طايب أن سبب إحجام الكثير من الليبيين عن الحديث هو: «أن تونس تمتلئ بجواسيس القذافي». وقال: «هم يعلمون العواقب التي قد تطالهم في ليبيا. وعندما يشعرون أن النظام سيسقط حينئذ ستسمعون العديد من القصص». لكن على الرغم من ثقافة الخوف هذه التي انطبعت في النفوس وصف عدد قليل من الأفراد القتال في ليبيا، لكن بحذر بالغ.

فخلف مقهى منعزل ومتجر عام على المعبر الحدودي، تحدث أحد الليبيين (28 عاما)، من الزاوية بالقول: «هناك ليبيون هنا ينصتون، وهذا أمر طبيعي بسبب نظام القذافي»، كان الشاب دائم الطلب من أحد الزائرين إخفاء كراسته التي يدون فيها، وأخفى ذقنه في ياقة سترة المرتفعة، وعيناه تتابعان السيارات والشاحنات الليبية المارة. وأشار إلى أن مسؤولي الجمارك الليبية يحتفظون بقوائم تضم أسماء الأشخاص غير المسموح لهم بمغادرة ليبيا. وأضاف: «الليبيون يرغبون في التعبير عما يدور في البلاد، لكنهم لا يستطيعون، ولو كنت في بني غازي لفعلت»، في إشارة معقل المتمردين في شرق ليبيا. وعندما سئل كيف تتأكد من أن الصحافي الذي يسألك ليس من جواسيس القذافي؟ قال أنا أفوض أمري إلى الله. وعند سؤاله عن سبب قبوله الحديث عن الأوضاع لوح بيديه وابتسم بالقول: «أنا لم أقل شيئا».

* خدمة «نيويورك تايمز»