«مشادات» البرلمان العراقي «الكلامية» تكشف عمق خلافات «الإخوة الأعداء»

فقدت طابعها المذهبي والعرقي السابق

TT

خلال السنوات الثلاث الأولى من الدورة البرلمانية السابقة كان رئيس البرلمان العراقي الأسبق محمود المشهداني هو البطل الوحيد للظاهرة التي لفتت الأنظار آنذاك، وهي «المشادات الكلامية»، التي غالبا ما كانت تقع بين الرئيس وأحد الأعضاء. وطوال تلك السنوات كانت غالبية المشادات تأخذ إما طابعا مذهبيا بين (المشهداني وأحد أعضاء الائتلاف العراقي الموحد قبل انشقاقه) أو طابعا عرقيا بين (المشهداني وأحد أعضاء كتلة التحالف الكردستاني قبل انشقاقها هي الأخرى حيث ولدت من رحمها كتلة التغيير).

وخلال السنة الأخيرة التي سبقت انتخابات العام الماضي وحين تسلم إياد السامرائي القيادي السابق في جبهة التوافق (قبل انشقاقها وتحولها إلى عدة كتل وكيانات منها العراقية، وتحالف الوسط، ووحدة العراق) رئاسة البرلمان، ظلت منصة البرلمان هادئة نسبيا، حيث كانت الأنظار تتجه نحو الانتخابات التي كان ينتظرها الجميع. لكن ما جعل السامرائي يتسلم رئاسة البرلمان في الوقت بدل الضائع هو إجبار المشهداني على الاستقالة بدل الإقالة محتفظا براتب تقاعدي مقداره 40 ألف دولار بسبب إجماع الكتل البرلمانية على تقديمه استقالته لأسباب تتعلق بما كان يتسبب فيه من مشادات كلامية على الرغم من أن المشهداني وخلال الفترة الثانية من عمر الدورة البرلمانية تحول، من وجهة نظر الكثيرين، إلى أحد أبرز المدافعين عن حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، وهو ما جعله يقف بالضد من استجواب عدد من الوزراء المتهمين آنذاك بالفساد، ومنهم وزير التجارة فلاح السوداني الذي تم استجوابه على عهد السامرائي، وهو ما تسبب في سحب الثقة منه وإحالته إلى المحاكم.

وبعد الانتخابات الأخيرة ووصول أعضاء جدد في البرلمان الجديد تغير نمط المشادات الكلامية، ربما بسبب الإدارة التي توصف حتى الآن بالحازمة لرئيسه أسامة النجيفي ذي الملامح الحادة والوجه الصارم القسمات الذي كثيرا ما ينهي أي جدل أو مشادة إما برفع الجلسة لمدة ساعة لتلطيف الأجواء أو رفعها إلى يوم آخر عندما يشعر أن الأوضاع بلغت نقطة اللاعودة. وجعلت سيطرة النجيفي على أجواء الجلسات وقدرته على تحييد نوابه بعكس المشهداني، الذي كان يوصف نائبه الشيعي خالد العطية بأنه أقوى منه وأكثر تأثيرا على مسار الجلسات، الاحتكاكات بين النواب على أسس طائفية (شيعة أو سنة) أو عرقية (عرب وأكراد وتركمان) أقل بكثير من السابق. ومع أن البرلمان الحالي لا يزال من وجهة نظر الكثيرين مجرد منبر للخطابة بدليل أنه لم يقر حتى الآن سوى قانونين من عشرات القوانين، وهما قانون الموازنة وقانون نواب رئيس الجمهورية، فإنه بات يتهم بأنه برلمان لنوع جديد من المشادات الكلامية بين أعضاء الكتل البرلمانية نفسها، التي انشقت عن بعضها، الأمر الذي جعل الاحتكاكات بين أعضائها أكثر بكثير من الاحتكاكات بين نواب من كتل متباينة مذهبيا وعرقيا. فعلى مدى الشهور الأربعة الماضية من عمر الدورة البرلمانية الحالية فإن أشهر المشادات الكلامية بين النواب كانت المشادتين الكلاميتين بين النائبين عن التحالف الوطني علي الشلاه (ائتلاف دولة القانون) وبهاء الأعرجي (التيار الصدري) وبين الأعرجي وصادق الركابي (ائتلاف دولة القانون) وكذلك المشادة الكلامية الحادة التي وقعت بين النائبة أشواق الجاف (ائتلاف الكتل الكردستانية) ونواب كتلة التغيير الكردية المعارضة، وبين حيدر الملا (ائتلاف العراقية) وأحمد العريبي (العراقية البيضاء). وكل هذه المشادات حصلت بين نواب كانوا ينتمون قبل الانشقاقات إلى كتل واحدة يجمع بينها المذهب والعرق فقط.

أما الآن فإن الأمر يبدو مختلفا تماما، ومع أن النواب الذين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» امتنعوا عن إعطاء مثل هذه المشادات توصيفا يخرجها عما هو عادي فيها ومألوف، من منطلق أن التجربة العراقية الديمقراطية جديدة، وأن البرلمانات في العالم تشهد تشابكا بالأيدي وتقاذفا بالكراسي، إلا أنها من وجهة نظر الشارع العراقي تعبر عن خلل في الأداء السياسي، ولاهتمامهم بما هو شكلي عما هو جوهري، أو أن البعض منهم يسعى لتصفية حساباته مع هذا النائب أو ذاك، انطلاقا من الخلافات التي بدأت تكبر بين الكتل التي كانت موحدة. النائب عن «العراقية البيضاء» أحمد العريبي، الذي وقعت مشادة بينه وبين حيدر الملا عن «العراقية» قال لـ«الشرق الأوسط» إن «المشادة بيننا لم تتطور وانتهت في وقتها وعادت الأمور إلى مجاريها»، معتبرا مثل هذه «الأمور طبيعية في البرلمانات ولا تؤثر على سياق العلاقة الشخصية». لكن ما لم يكن طبيعيا هو ما حصل للنائبة عن التحالف الكردستاني أشواق الجاف التي أبلغت «الشرق الأوسط» بما سمته «انزعاجها الشديد من السلوك السياسي لنواب كتلة التغيير الكردية المعارضة»، خلال المشادة التي وقعت بينها وبينهم خلال إحدى جلسات البرلمان فيما يخص المظاهرات في السليمانية. وقالت النائبة إن «بعض النواب لا يتسمون بالشجاعة وهم ينقلون أخبارا غير صحيحة، ففي وقتها أنا اعترضت على أسلوبهم وما دفعني إلى اتهامهم بالعملاء هو أنهم اتهموني بأني بعثية، بينما أنا لدي أربعة شهداء من ضحايا نظام البعث بالإضافة إلى 2000 من الذين قام النظام السابق بقتلهم خلال عمليات الأنفال»، مشيرة إلى أنهم لم يكتفوا بذلك «بل طالبوا عبر وسائل الإعلام بأن تتم تعريتي من ملابسي في ساحة الحرية في السليمانية لأكون عرضة للشباب، وبالتالي فإنني لا يمكن أن أتصالح مع هؤلاء مهما كانت الأسباب ولن أقبل اعتذارهم أيضا». أما النائب علي الشلاه، الذي كانت له مشادة مع بهاء الأعرجي، فقد أبلغ «الشرق الأوسط» أن «العلاقة بينه وبين الأعرجي طبيعية، خصوصا أن قرارا صدر عن التحالف الوطني بعدم تكبير المشكلة وحصرها داخل التحالف الوطني»، مشيرا إلى أن «المشادات أمر طبيعي شريطة أن لا تؤدي إلى تهييج الشارع، كما أن البرلماني هو مشرع أصلا وبالتالي يتوجب عليه اختيار مفرداته بعناية»، مع تأكيده أنه «لولا موقف التحالف الوطني والضغوط لكانت الأمور يمكن أن تأخذ مسارات أخرى».