المخاوف من الإشعاعات النووية راسخة في التجربة اليابانية

20 مليونا عايشوا هيروشيما وناغازاكي ينتابهم القلق بشكل مختلف

ترومي تاناكا الناجي من هجوم ناغازاكي، يحمل كتيبه الصحي ويجلس إلى جانبه رفيقه الناجي أيضا من الهجوم ميكيسو إيواسا، في طوكيو (واشنطن بوست)
TT

قبل مغادرة منزله صباح يوم الخميس الماضي، جرّ ترومي تاناكا حقيبته التي كانت تحتوي على كتيب أرجواني بال مهترئ يلخص المساوئ المتوقعة. ويتضمن ذلك الكتيب تاريخ ميلاده، وعنوانه الحالي، وفصيلة دمه، ويتيح له إجراء تحاليل دم مجانية وقتما شاء لمعرفة ما إذا كان مصابا بأمراض مثل سرطان الكبد أو سرطان الدم. وتضم هذه الأوراق أيضا قسائم فارغة لكتابة ملاحظات الأطباء في حال وقوع أي مكروه.

يحمل تاناكا، مثل الآلاف في اليابان، معه هذا الكتيب الذي يحمل اسم «الكتيب الصحي الخاص بضحايا القنبلة النووية»، الصادر عن الحكومة، لأنه نجا من القنبلة الذرية التي سقطت على ناغازاكي في 9 أغسطس (آب) 1945 عندما كان في الثالثة عشرة من عمره.

طبعت الحكومة هذه الكتيبات عام 1957، وأعطتها للناجين من انفجار هيروشيما وناغازاكي النووي قبل وقوعه بثلاثة أيام، وهي توضح امتصاص كل جسيمات البيتا وأشعة غاما والنيترونات، وأصبحت دراسات حالة للضرر الذي يمكن أن تسببه.

في ظل الكارثة النووية التي شهدتها محطة فوكوشيما دياتشي النووية، يساور الملايين في اليابان القلق من الجسيمات العالقة بالهواء والتي يمكن أن تنتشر، ومما يمكن أن يحدث إذا أصبحت قريبة جدا. ويستطيع 20 مليون ياباني على الأقل تذكر الهجوم النووي، ويسيطر القلق بوجه خاص على نفوس الناجين الذين قضوا عقودا يعانون من القلق الفطري من احتمال التعرض لخطر الإشعاع النووي. وقبل بضعة أشهر من حصول تاناكا على الكتيب، توفي صديق له من ناغازاكي بمرض سرطان الدم. لقد كان كل من تاناكا وصديقه يبعد عن مركز الإشعاع بمسافة 2.2 ميل، وهو ما يعني أن ما يفرق الميت عن الحي أمر لا يمكن لتاناكا، البالغ من العمر 78 عاما ويتمتع بكامل صحته، تفسيره.

لكن تاناكا احتفظ بالكتيب الذي يزيد قليلا عن حجم جواز السفر لمدة أربعة وخمسين عاما منذ حصوله عليه وجعله في متناول يديه ليذكره على الدوام بالشك والقلق الذي يواجهه. وقال تاناكا، وهو يمسك بالكتيب القديم «على الجميع أن يدركوا أن هذا هو أهم ما في حياة المرء».

حاولت قوات الدفاع الذاتي (الجيش) في المحطة النووية الساحلية يوم الخميس الماضي أن تزود الوحدات المشعة التي لم يتسن تبريدها بالمياه. وقد قاموا بذلك عن طريق المروحيات المزودة بكمية مياه قدرها 7.5 طن، فقد أصبحت الطرق التقليدية أكثر خطرا. وقد أوضحت الصور التي التقطتها كاميرا تلفزيونية تقع على بعد 20 ميلا ما يحدث داخل المحطة النووية، وأظهرت التوهج الشديد الصادر منها من جراء السخونة.

وفي منزله بطوكيو، كان تاناكا يشاهد التلفزيون ويميل باتجاه شاشته لمتابعة المروحيات وهي تخفق مثل الحشرات، ولسان حاله يقول إنه لا توجد أي فرص للنجاح.

وتعد الطاقة النووية مثلها مثل الإشعاع ذاته جزءا من إرث وتاريخ اليابان. وتعتمد الدولة التي تتكون من أرخبيل وتفتقر إلى الموارد الطبيعية على 54 مفاعلا نوويا في توليد 30% من الطاقة. وخلال العقد الأول الذي أعقب الهجوم الأميركي النووي على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، منعت القوات الأميركية نشر أي تقارير إعلامية عن آثار الإشعاع النووي، وكذلك الكثير من الدراسات الخاصة بهذا الشأن. ويؤكد تاناكا أن هذا هو السبب الأساسي وراء تأخر اليابان في تقديم الرعاية الصحية للناجين من الانفجار النووي. لكن اليابان دشنت عام 1954 برنامج بحث الطاقة النووية الذي تطلب دعما شعبيا للمبادرة. وقال تاناكا «كان هدفنا الحصول على طاقة آمنة بدرجة مائة في المائة، لكن هذا لم يحدث إطلاقا».

تقع طوكيو على بعد 150 ميلا من محطة فوكوشيما، لكن الدبلوماسيين والأجانب بها يسارعون بالمغادرة. وتقول اليابان إن كل المناطق التي تقع خارج مساحة قدرها 19 ميلا محيطة بالمحطة النووية آمنة، لكن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وأستراليا لا تتفق مع هذا، وتحث رعاياها الذين يقطنون في حدود 50 ميلا على إخلاء المنطقة.

ويترأس تاناكا منظمة مقرها طوكيو للناجين من الهجوم النووي، وعندما وصل إلى العمل يوم الخميس الماضي ألقى التحية على ميكيسو إيواسا، أحد الناجين من القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وزميله في العمل. تحدثا عن حالة الطوارئ النووية واتفقا على حقيقة التقليل من شأن الطاقة النووية مرة أخرى. وقال إيواسا «أنا قلق». فرد عليه تاناكا قائلا «وأنا أيضا».

في ذلك اليوم من أغسطس 1945، كان تاناكا في الطابق الثاني من منزله بينما كانت والدته وأخته في الطابق السفلي. وغمر ضوء شديد الغرفة رآه تاناكا شديد البياض، وبعد أربع أو خمس ثوان تكسرت النوافذ وتطايرت قطع الأثاث بفعل الضغط الشديد. وخلال تلك الثواني، ركض تاناكا على السلم واتخذ وضع القرفصاء في أحد الأركان، بينما اندفعت والدته وأخته نحو الخارج مختبئتين في الغرفة الأمامية الملحقة بالمنزل، ولم يصب أي منهم إصابات بالغة.

لكن بعد التعرض للإشعاع، أفنى تاناكا حياته في معرفة المزيد، فهو يقرأ أي بحث فور نشره، كما درس تأثير الإشعاع على خلايا الدم واحتمال تسببها في التشوهات الخلقية. لقد كان تاناكا مرتعبا من فكرة الإنجاب، فقد كان يشعر بأن خللا ما حدث بداخله، و«ربما في جزء من حمضه النووي». تزوج امرأة من ناغازاكي لم تكن في المدينة وقت الانفجار، لكن أول طفل رزق به وُلد ميتا. وحمّل تاناكا نفسه المسؤولية رغم أن الطبيب أخبره بأن الطفل قد تُوفي نتيجة اختناقه بالحبل السري. لذا حاول الإنجاب مرة أخرى وُرزق بمولود ذكر مصاب بالاكزيما، وحمل نفسه المسؤولية تلك المرة أيضا. وخلال السنوات التالية أرسل تاناكا الكتيب إلى الحكومة التي أضافت إليه صفحات تحتوي على معلومات عن مجموعة كبيرة من الأمراض. لكن بقيت صفحات تاناكا بيضاء مما يدل على صحته الجيدة.

ولدى إيواسا البالغ من العمر 82 عاما كتيب مليء بملاحظات الأطباء. وعلى عكس تاناكا ظل مريضا لشهور بعد الانفجار وظهرت بقع أرجوانية على جلده. وعانى بعد ذلك من الربو وارتفاع ضغط الدم والتهاب في القصبة الهوائية. وأصيب بسرطان الجلد عام 1996، وعاوده المرض عام 1999، ثم أصيب بسرطان البروستاتا عام 2007. لكن على نحو ما، يفكر كل من تاناكا وإيواسا في صحته بالطريقة نفسها، فهما يفكران في المشكلات الصحية التي ربما لا تزال غير واضحة رغم محاولتهما عدم القيام بذلك. وقال تاناكا «الإشعاع النووي سيؤذي خلاياك في النهاية، لكن هذا لا يعني أنه سيحدث فورا. أعتقد أن المرض قدر محتوم على ضحية الانفجار النووي».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»