أمين عام الحزب الاجتماعي التحرري: المنصف المرزوقي التونسي الوحيد الذي تنبأ بانهيار نظام بن علي

المنذر ثابت لـ «الشرق الأوسط»: أعترف أن جاهزية حزبنا لم تكن مؤهلة لاستيعاب الحالة الثورية

المنذر ثابت
TT

عندما توجهت إلى المنذر ثابت، الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرري التونسي، الذي كان في صف المعارضة المتهمة بولائها لنظام زين العابدين بن علي، لإجراء حديث معه، تساءلت مع نفسي كيف أجري حوارا مع شخص متهم بالموالاة لنظام أطيح به منذ أسابيع قليلة؟ وما هو مقدار الحقيقة من الخيال في علاقته بنظام بن علي، ألا يمكن أن يكون تشويه الصورة السياسية من بين أساليب العهد البائد لتقزيم تلك الأحزاب والتقليل من شأنها؟

وبالفعل طرحت هذه التساؤلات وغيرها على ثابت، وقدم إجابات عن طبيعة علاقته بالأسرة الحاكمة والرئيس بن علي شخصيا.

ودافع ثابت وهو أستاذ فلسفة عن دعوته للزيادة في المدة الرئاسية من خمس سنوات إلى سبع سنوات، وإلى إلغاء السقف العمري عند الترشح للرئاسة؟ وكلا المقترحين كان سببا في تعرضه وحزبه لهجومات. بيد أن لثابت مبررات قد يقبلها البعض وقد يراها البعض الآخر مجانبة للحقيقة. ولكن الحقيقة الأكيدة تبقى هي أن ثابت فاجأته الثورة التونسية، كما فاجأت العديد من السياسيين التونسيين وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته معه «الشرق الأوسط».

* كيف عشت أجواء الثورة التونسية؟

- أولا، لا بد أن أشير إلى أنني شخصيا، والحزب الاجتماعي التحرري، بقينا في سياق فلسفة إصلاحية إلى آخر لحظة. وكنا من الذين آمنوا بإمكانية الإصلاح التراكمي والتدريجي، وإمكانية دفع السلطة إلى مراجعة مواقفها من قضايا أساسية وهامة. وأعترف أن جاهزية الحزب لم تكن مؤهلة لاستيعاب الحالة الثورية. وعند تعيين أحمد فريعة، وزيرا للداخلية قلت في إحدى الفضائيات إن تعيينه هو انتصار للتيار الإصلاحي على الحرس القديم. فالحالة الثورية بالفعل كانت غير مرتقبة وغير متوقعة لدى كل الأحزاب والتيارات السياسية، والدليل على ذلك أن موقف الحزب التحرري الاجتماعي جاء متفقا تماما مع موقفي حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي الحزبين الراديكاليين. ولا شك أن تلك الثورة أربكت الساحة السياسية وقسمتها إلى قسمين تيار راديكالي ساعدته مواقفه السابقة ومكنته من سرعة الالتحاق بالثورة وتيار إصلاحي واجه صعوبات كبيرة في التأقلم مع الحالة الثورية واستيعاب مفرداتها.

* وما الذي سرع وتيرة انهيار النظام حسب رأيك؟

- حقيقة الإطاحة بالنظام لا تخفي عن عيوننا معطى مثيرا للانتباه هو معطى المؤامرة داخل نظام بن علي نفسه، والتداعيات الخطيرة التي أدت إلى العنف المجاني والمقصود الذي تمت بمقتضاه مواجهة المتظاهرين مما أفضى إلى انهيار كلي، وتفكك سريع للنظام السياسي. وذهبت بعض القراءات إلى الربط بين أزمة خلافة بن علي داخل السلطة، والصراع السياسي للأجنحة المختلفة من ناحية، والتورط غير المسبوق لنظام بن علي في الفساد.

وفي قراءتنا وبصفة ارتدادية لم يكن نظام بن علي قادرا على إنجاز إصلاح سياسي حقيقي لفرط تورطه في الفساد، وهذا كان واضحا من خلال تعفن محيط الأعمال، وهيمنة المحسوبية والرشوة والفساد على الإدارة وأجهزة الدولة، وبالتالي أدى هذا الوضع إلى إضعاف الأجهزة الأمنية لصالح العائلة الرئاسية وذلك من خلال هيمنة الأجهزة الأمنية الرئاسية على بقية الأجهزة مع إضعاف مدروس ومتعمد للجيش.

* وكيف وصل الوضع السياسي إلى نقطة اللاعودة في نظرك؟

- لقد شكل قسم ظهر حركة النهضة مرحلة مفصلية في تفكيك الساحة السياسية وضرب المعارضة وبسط الهيمنة المطلقة على الحياة العامة. ومن الضروري أن نؤكد أن جل مكونات الحركة الديمقراطية تورطت في هذه العملية إما بالصمت أو بالمساندة العلنية. هذا الوضع أدى إلى انهيار التوازنات السياسية لكن حركة النهضة ارتكبت جملة من الأخطاء التكتيكية القاتلة فخلال انتخابات 1989 راهنت على استيعاب النظام الجديد، وجازفت قياداتها بنقل التنظيم من السرية إلى العلنية من أجل موعد انتخابي غير محدد لمستقبل الحياة السياسية، وهو ما سهل على السلطات التونسية القبض على كل التنظيم بيسر، ومن خلال المشاركة في العملية الانتخابية التي كشفت كل المواقع.

* لقد قابلت بن علي أكثر من مرة، هل لك أن تصف ما تبقى من انطباعات لديك حول شخصيته التي أجمع الكل على عدم وضوح تركيبتها؟

- قابلت بن علي خمس مرات. وجرى أول لقاء سنة 2007 بدعوة منه، بعد عقد مؤتمر الحزب الاجتماعي التحرري، وعلى اثر استقالة منير الباجي، الذي كان يقود الحزب. فقال لي الرئيس بن علي «أستغرب لماذا لم تطلب لقائي؟»، فأجبته أن مستشاريه أعلموني أنه هو (الرئيس) من يطلب اللقاء برؤساء الأحزاب.

* وماذا دار بينكما في ذلك اللقاء؟

- في ذلك اللقاء، طلبت منه تمكين كل الأحزاب من التمويل العمومي بقطع النظر عن تمثيليتها في البرلمان. بيد أن إجابته كانت غريبة فقد قال لي «أعتقد أن كل الأحزاب ممولة، ووعدني بمراجعة القانون»، وبعد ذلك تلقيت رسالة عبر مستشاريه الذين قالوا لي: «هل بدأت منذ الآن تفكر في الانتقال إلى الجبهة الأخرى؟». وفي كل الحالات يتضح من خلال مختلف لقاءاتي به أن بن علي كان رجلا معزولا، وأن طوقا كان مضروبا حوله من خلال مستشاريه وجهازه الأمني.

* هل أخافك اللقاء الأول مع بن علي؟

- كنت بالفعل خائفا؛ فبعد اعتقال مجموعة من الطلبة سنة 1987 على خلفية تنفيذهم إضرابا عن الطعام لمساندة الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية، ووصفهم لبن علي بأنه «جنرال عميل» و«الذراع القمعية لنظام بورقيبة»، خشيت بيني وبين نفسي أن يكون قد تذكر تلك الحادثة. ولكنه لم ينتبه للأمر. بن علي لم يكن يظهر العداء، ولكنه يصفي الحساب مع خصومه بأساليب ملتوية، عبر تقارير سرية والتشويه الأخلاقي والقضايا الكيدية، وربما إلصاق تهم تعاطي المخدرات. عندما تجلس أمامه لا تدري إن كان متفقا معك أم لا. أذكر أنني طرحت عليه تسوية ملف الحوض المنجمي سنة 2008، وإطلاق سراح الموقوفين، فما كان منه إلا أن أجابني قائلا بعنف: «هل تطالبني بانتهاك حرمة القضاء، أنا لا أوافق». كما طرحت عليه موضوع اتحاد طلبة تونس، وحدثته عن المضايقات التي يتعرض لها عز الدين زعتور أحد رموزه. وكانت إجابته حاسمة هذه المرة: «لماذا تتبنى هذه القضايا، وأنت تعلم أن هؤلاء يناهضون النظام؟».

* هل يعني هذا انك كنت تدافع عن بعض الملفات السياسية، والحال أن الجميع يرى في الحزب التحرري الاجتماعي حزبا مواليا لبن علي؟

- بالفعل دافعت عن العديد من الملفات، وهذا ليس من باب الدعاية لشخصي. طرحت على بن علي ملف المنفيين من الإسلاميين، وتفاعل مع جزء منهم من زاوية إنسانية، وأرجع الكثير منهم إلى تونس بصفة فردية إلا أن تعرض إحدى الحالات للمضايقة الأمنية جعلني أطلب من أصدقائي المقربين من حركة النهضة إعفائي من هذه الوساطة لأن النظام لا يحترم التزاماته، ولا أريد التورط في وعود لا تحترم. لقد كان بن علي يلتزم بأشياء، ويتنصل من التزاماته بصفة مفاجئة. لقد حاولت إقناع بن علي شخصيا بفسح المجال أمام حركة التجديد والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات المعارضين، ورفع التضييق عنهما لأنهما لم يكونا متطرفين، ولكنه كان يصمت ولا يتكلم.

* أنت أمين عام حزب معارض، ولكنك من ناحية أخرى تدافع عن بقية الأحزاب وخاصة حركة النهضة، كيف تفسر هذا الوضع؟

_ لا أخفيكم أنني عشت حصارا كاملا منذ سنة 2006، وكنت في وضع شبيه بالإقامة الجبرية. إذ بعد أن اصدر الحزب بيانا مساندا لهيئة 18 أكتوبر في إضراب عن الطعام ضد قمة مجتمع المعلومات سنة 2005، تعرضت لعنف السلطة حيث هددنا البوليس السياسي بالاعتقال ولو لم أكن منحدرا من حركة اليسار، ولدي تجربة نضالية لما ترأست الحزب في صيف 2006. لقد صرحت داخل الحزب بأن الدور الحقيقي لـ«التحرري» سيبتدئ بعد بن علي، وهذا ما خلق ضغطا من السلطة اشتد بدعوة ثلاثة أحزاب معارضة في رمضان الماضي إلى إصلاحات سياسية جوهرية، وكان رد الفعل قويا من مستشاري بن علي، واتهمت بتكوين تكتل، ومحاولة فرض زعامتي على ما يسمى «الأحزاب الوسطية» إعدادا للترشح ضد بن علي في انتخابات 2014. وأطلقت ضدي حملة تشويه وإدانة شخصية في الصحافة التونسية الصفراء. كما أن نصف هياكل الحزب هددت بالعصيان، واتهمتني بالخروج عن الوفاق. لقد حاولت انتزاع مساحات حرة للحركة الديمقراطية على الرغم من تقديم تنازلات وهذا صحيح، ولكننا يئسنا من إمكانية التغيير الجذري، ولم يكن أمامنا إلا هذا المسار الذي يضمن التواصل التنظيمي للحزب، ومحاولة دفع السلطة نحو تنازلات أخرى بأساليب دبلوماسية.

* وما هو الدور الذي تتصورونه اليوم لحزبكم؟

- إن مرحلة بن علي تحتاج إلى دراسة وتفكيك لأنها مرحلة أفقدت تونس فرصا حقيقية للتطور والتقدم. بيد أن الخوف لا يمكن الفكر السياسي خلال هذه اللحظة الهامة من إنجاز نقد موضوعي وتحليلي لتلك المرحلة. كما أن الفراغ النقدي قد يقود إلى إنتاج ديكتاتورية أعتى وأعنف لأنها هذه المرة ستكون باسم الثورة، وأخشى أن تكون ضد روحها وقيمها. إن الانتصار الحقيقي للثورة لن يكون بمنح الحرية للجميع وإقامة نظام ديمقراطي جمهوري يؤلف بين شرطي الحرية والاستقرار لذلك طرحنا مبادرة الميثاق الجمهوري الذي سيكون بمثابة الضمانة للدستور الجديد. أما فيما يتعلق بإعادة تموقع الأحزاب الوسطية ومن بينها «التحرري الاجتماعي»، فإن حزبنا سيبقى جزءا هاما في بناء المستقبل بما يحمله من قيم الاعتدال والتسامح، وبإمكانه أن يكون حيويا في درء مخاطر العنف الأيديولوجي، الذي أطل برأسه بين التيارات الإسلامية والعلمانية، وربما بين التيارات الإسلامية نفسها لذلك نبه الحزب الاجتماعي التحرري منذ البداية إلى أن المسار الاستئصالي والإقصائي لن يتوقف عند مستوى الأحزاب القديمة، وأنه سيفضي في مرحلة لاحقة إلى نزاع درجات الشرعية الثورية بين القوى الراديكالية والأحزاب الجديدة. نحن لا نريد للثورة الديمقراطية التي أنجزها شباب تونس أن تؤول إلى ما آلت إليه الثورة الروسية التي انطلقت بتصفية المعارضة اليمينية ثم المعارضة اليسارية لإرساء ديكتاتورية أعنف من ديكتاتورية القيصر. لا بد من التوفيق بين منطق الثورة ومنطق الدولة وهو ما نعتقد أنه بدأ في التشكل مع حكومة الباجي قائد السبسي. وما يهم البلاد الآن هو خفض درجة التوتر والشروع دون تأخير في نقاش سياسي معمق حول منوال التنمية وحول الملامح الأساسية للنظام السياسي المستقبلي.

* وكيف هو حال حزبكم بعد الإطاحة ببن علي؟

- حاولنا في الحزب تكريس ثقافة مميزة تبتعد عن الشخصنة والتوجه نحو العمل الجماعي. أنا الآن أسعى إلى لملمة الصفوف، و التوفيق بين مختلف شخصيات الحزب لأنني أعتقد أن التحرري مؤهل حقيقة لأداء دور إيجابي داخل المشهد السياسي على الرغم من الطعنات التي تعرض لها تحت نظام بن علي ومن بعده. نحن على ثقة أن الحزب سيواصل مسيرته، وأعتقد أن دوري في قيادة الحزب قد لا يكون ضروريا. أنا الآن أسعى إلى أن أكون شخصية وطنية حرة.

* من خلال كلامك نشعر بمرارة التجربة؟

- بالفعل التجربة كانت مريرة لأنني شخصيا تعرضت لشتى الضغوطات ومن كل الأطراف. نظام بن علي يعتبرك معاديا حتى وإن حاولت أن تكون أكثر المعتدلين، والأحزاب الراديكالية تعتبرك مواليا لنظام الحكم، وأنك غير جدير بثقتها، وتكيل للحزب شتى النعوت، كما أنك داخل الحزب لا يمكن أن ترضي الجميع مما يصنع لديك معارضة داخلية قد تكون أعنف من البقية بمطالبها المتناقضة وباتجاهاتها المتناقضة كذلك. لن أفرض نفسي على أي هيكل لأنني لم أراهن في حياتي على غير الإقناع، لكنني سأكون دائما على استعداد للنصح ولاستشارة والدعم متى طلب مني ذلك. أنا ليبرالي وموضوعي في أحكامي، ولن أتردد في الاعتراف بالأخطاء وفي إصدار أحكام موضوعية بصدد الآخرين.

* وهل ينتابك شعور بأنك أخطأت في فترة ما؟

- نعم، أعترف أن خطئي المركزي يكمن في أنني قبلت رئاسة الحزب سنة 2006، وأنني لم أقدر حجم الضغوطات القائمة داخل الساحة السياسية. كما أنني لم أتخيل بشاعة الطبيعة البشرية التي تجعل الكثير من الناس يرفضون مصطلح النقد ويشددون الرقابة حولي. أرى الكثير منهم الآن وقد تحولوا إلى ثوريين بصفة مباغتة، وهؤلاء نجدهم في عالم السياسة، كما نجدهم مندسين في الإعلام. الحزب التحرري الاجتماعي لم تدعمه أي قوة خارجية ولم يكن أمامنا أو في إمكاننا تأسيس حزب ليبرالي في كنف السرية. نحن حزب إصلاحي معتدل ولم نكن يوما ما حزبا ثوريا. تلك هويتنا وذاك منهجنا، ومعيار الديمقراطية لدينا هو احترام الحقوق الشرعية للأقليات السياسية، كل الأقليات، حتى لا تقوم في تونس ديكتاتورية الأغلبية.

* اتهمت بعض الأحزاب بتلقي دعم خارجي، هل لك أن توضح هذه النقطة؟

- مما لا شك فيه أن الإعلام الخارجي كان مغلقا في وجوهنا، وأن الإعلام الداخلي كان مراقبا بأكمله. وحين أقول إن حزبنا لا تدعمه أي قوة أجنبية فذلك للتأكيد على أن هناك أطرافا دعمتها حكومات أوروبية وغربية أخرى وبصفة مباشرة.

* ولكن هذا لا يعني أن كل الساحة السياسية تلقت دعما أجنبيا؟

- بالتأكيد، فأنا أعترف شخصيا أن العديد من الشخصيات والتيارات السياسية قدمت تضحيات لا يستهان بها من أجل الحرية لكنني شخصيا تعرضت لكل أشكال الضغط والتهميش والإقصاء من نظام بن علي رغم اتهامي بالموالاة له. لكن تلك التيارات يجب اليوم ألا تدعي احتكار الحقيقة والشرعية، بل لا بد لها أن تعترف أنها أخطأت كذلك، وأضفت أخطاؤها شرعية على نظام بن علي، وكانت ضد الحركة الديمقراطية، في حين كنت أؤكد بعد سنة 1987 أن النظام الجديد بوليسي، وأن مأسسة الحركة الطلابية مغامرة ستقود إلى تدجينها، فإن قلة قليلة فقط انتبهت إلى الأمر.

*هل يعني هذا أن بعض التونسيين نبهوا لخطورة نظام بن علي منذ توليه الحكم؟

- هذا صحيح، فلتاريخ هناك بعض الشخصيات نبهت في تلك الفترة إلى خطورة نظام بن علي، ومن بينهم المفكر التونسي هشام جعيط، والسياسية نزيهة رجيبة المعروفة باسم «أم زياد»، والسياسي عز الدين الحزقي، وما عداهم فقد هللوا للعهد الجديد، وانصهروا في حراك 7 نوفمبر. وأذكر أنني اتهمت باليسراوية، وتمت محاسبتي حسابا عسيرا لمقاطعة المؤتمر 18 الخارق للعادة لاتحاد طلبة تونس. لذلك أقول بكل موضوعية إن الاشتغال على المشروع المستقبلي والنظر في استحقاقاته الفعلية سيفضي بالضرورة إلى إعادة وضع «التحرري» في الخارطة السياسية.

* وكيف ترى المشهد السياسي اليوم بعد الثورة؟

- كل التيارات السياسية تخشى منطق الإقصاء والاستئصال. لقد مثل حل التجمع الدستوري الديمقراطي انتصارا رمزيا ونفسيا ضد أجهزة بن علي، ومن الضروري منح الفرصة لكل الأطراف لتقديم برامجها وتصوراتها ومواقفها، والدخول في جدل خصب يمكن الرأي العام من ثقافة سياسية متينة، حتى ينجز عملية اختيار واعية، وهذا يتطلب من الإعلام حرفية أكثر، كما يحتاج لهيئة شرعية لقياس الحضور الإعلامي للأحزاب، وتنظيمات المجتمع المدني لتحقيق العدالة فيما بينها. ومن الطبيعي أن تحدث طفرة تعددية حزبية بعد حالة كبت لا أقول إنها تمت في عهد بن علي فقط، بل منذ عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. وبالتالي ستكون العديد من الأحزاب مدعوة خلال المواعيد الانتخابية لتشكيل أقطاب وجبهات سياسية، ولعل البعض منها سيكون مدعوا إلى الاتحاد والانصهار. ومنطق الواقع أن يقود ذلك في بعض المنعرجات إلى حدوث انشقاقات وانفصالات تقود إلى تكتلات سياسية أخرى.

* كانت لديكم فكرة عن مقدار الفساد الحاصل في البلاد في عهد بن علي؟

- كنا نشك في وجود الفساد، وكانت لدينا معلومات عن عمليات السطو وفرض الشراكة عند إقامة المشاريع، وأيضا تعطيل الاستثمارات، ولكن تلك المعطيات كانت تصلنا مثلما تصل بقية التونسيين. بيد أن ما كان يحصل على الواجهة الخارجية لا علم لنا به، وللحقيقة أن أول من حرك هذا الملف هو التونسي المقيم بفرنسا، سليم بقة، من خلال مجلة «الجرأة»، ولكن المجلة لم تكن تصلنا، وحصلنا على بعض النسخ منها، وكنا نقول إن هذه المسالة سينظر فيها القضاء، وستكشف الحقائق، ولكن لم يكن لدينا أي معطى، ولم يكن باستطاعتنا فعل أي شيء. ولا شك أن هناك فرقا نوعيا بين أن تعارض النظام التونسي من تونس وأن تعارضه من لندن أو كندا. ففي تونس كانت القضايا الكيدية في انتظار كل معارض، والشارع قد يتراجع في موقفه، ويشك في نزاهة أي سياسي، كما أن المعارضة لم تكن متضامنة وكانت تعيش حالة نزاع على الزعامة الوهمية وهذه المسائل كانت مدمرة للجميع.

* وما هو في رأيكم النظام السياسي القابل للتطبيق في تونس بعد الثورة؟

- شخصيا أميل إلى نظام رئاسي على الطريقة الأميركية، أي نظام يضمن فاعلية الأحزاب، ويحدث معادلة حقيقية بين السلطات ويضمن الاستقرار.

* وهل هناك مكان للنظام الليبرالي الذي يدعو له حزبكم؟

- كان هناك خلط بين الليبرالية الاقتصادية ونظام بن علي، وسيطر خلط ديماغوجي بين الاثنين. منوال التنمية الليبرالي الاجتماعي يبقى السبيل القويم لازدهار البلاد وتقدمها، والدور التعديلي للدولة لا يتناقض مع هذا المنوال. واعتقد أن تنمية المناطق الداخلية التي كانت وراء جزء كبير من الثورة مشروطة بأمرين، الأول يكمن في انتخاب مجالس جهوية تكون بمثابة البرلمانات المراقبة لتنفيذ مشاريع التنمية، والثاني يتمثل في تدخل الدولة لخلق القاعدة الاقتصادية الضرورية لتحريك قنوات الاستثمار.

* هل لك أن تصف للقارئ علاقتك بالأسرة الحاكمة وهل كنت على علاقات مباشرة بها؟

- الواقع انك تقف دوما أمام شخصيات معقدة تشعر في داخلها بالدونية ولكنها تغلفها بتعال ظاهر. في القصر الرئاسي كانوا لا يحبون الاقتراب من السياسيين ربما لعلمهم المسبق بموقف الآخرين منهم. على سبيل المثال لم يكن هناك أي نوع من أنواع الاستلطاف بيني وبين صخر الماطري، صهر الرئيس المخلوع. وكانت لي مواقف معروفة إزاء فكرة إقامة حزب ديني معتدل التي تحدث عنها بعض السياسيين. وكان موقفي آنذاك أنه إذا كان من الضروري الاعتراف بحزب ديني في تونس، فإن حركة النهضة أولى بذلك من أي طرف سياسي آخر. وأصدرت بيانا حول ذلك سنة 2008، واجهته بعض الشخصيات الإسلامية الخارجة عن الحركة بعنف. ومنطق الأشياء يقول إنه إذا تحدثنا عن منطق الشرعية الثورية اليوم فإن حركة النهضة تكون على رأس قائمة الأحزاب السياسية التونسية باعتبارها أكثر من دفع فاتورة مواقفها من النظام السابق.

* الكثير من التونسيين هاجموك عندما دعوت إلى الزيادة في المدة الرئاسية من خمس إلى سبع سنوات، وإلغاء السقف العمري للترشح للرئاسة، واعتبروا ذلك دعوة دستورية لإطالة العمر الافتراضي لنظام بن علي. كيف فكرت في هذه المسألة؟ وهل كنت حقيقة على وعي بآثارها المحتملة على الحياة السياسية في تونس؟

- قبل هذه الدعوة طالبت بمحكمة دستورية لمراقبة انتخابات الرئاسة لسنة 2009، وكانت إجابة عبد العزيز بن ضياء، وزير الدولة المستشار الرئاسي: «أنت تريد أن تعطل صدور أي قانون وهذا مضر بالنظام السياسي». أنا لا أنكر أنني دعوت إلى جعل المدة الرئاسية سبع سنوات، وهذه الفكرة طرحت في فرنسا، ووقع التراجع عنها لاحقا. وكانت الغاية الأساسية من وراء تلك الدعوة هي الفصل بين الانتخابات البرلمانية والانتخابيات الرئاسية حيث تبقى الأولى في حدود خمس سنوات، والثانية مدتها سبع سنوات. وكان المسار حسب تقديري دبلوماسيا يعتمد على تنازل مقابل مكسب، والموضوع لا يزال مطروحا حتى الآن، فقضية الفصل بين المواعيد الانتخابية مسألة ضرورية للتمييز بين الشرعيات، وتمكين الشعب من فرص اختيار حقيقي.

* وماذا عن دعوتك لإلغاء السقف العمري؟

- أعتقد أنه مهما كانت سن رئيس الدولة يجب أن يكون إعلان السن دائما مرفقا بتقرير طبي دوري عن الرئيس تنجزه لجنة وتنشره للرأي العام. واللجنة يجب ألا تكون قارة، كما يمكن إخضاع أعضاء الحكومة أيضا للكشف الطبي. عامل السن لا يمكن أن يكون عائقا للممارسة السياسية والدليل أننا اليوم لدينا حكومة ورموز دولة يتوفرون على خبرة وحكمة ورصانة تؤهلهم بالفعل لقيادة البلاد.

* ولكنك بهذه الطريقة فتحت الباب أمام بن علي للبقاء في سدة الحكم؟

- في الحقيقة أردت أن افتح الباب أمام الأحزاب السياسية فقد عدل بن علي الفصل 40 من الدستور وفصله على المقاس، وأنا كنت ضد كل تلك الشروط.

* هل كنت صراحة تراهن على بقاء بن علي في الحكم؟

- راهنت على عنصر الزمن في مواجهة نظام بن علي، وتكهنت بالانهيار البيولوجي لبن علي. كنت أعلم أن النظام هش ما دام قائما على فرد واحد، وهذا الفرد، صحيا وذهنيا، يتجه نحو الانهيار، والحسابات التكتيكية في مثل تلك الظروف تكمن في إعداد العدة للقطع التدريجي مع النظام، واستثمار غياب اتفاق داخل منظومة الحكم حول البديل، وبذلك تكون السلطة منتهية بصفة منطقية.

* وهل فاجأتك لحظة انهيار النظام يوم 14 يناير (كانون الثاني) الماضي؟

- أتحدى من يقول إنه توقع انهيار نظام بن علي خلال فترة تاريخية وجيزة فالبعض كان يراهن على بقائه إلى حدود سنة 2019. ولكن، للحقيقة التاريخية، فإن التونسي الوحيد الذي توقع سقوط النظام هو المنصف المرزوقي، الذي تنبأ قبل غيره بانهيار نظام بن علي المفاجئ.

*هل أنت خائف من المحاسبة؟ وكيف ترى علاقة المعارضة التونسية ببعضها البعض خلال الفترة القادمة؟

- أنا أقترح التقييم بدل المحاسبة لأننا لا يمكن أن نحاسب شخصا على أفكاره دون أن ننزلق ضد حقوق الإنسان. لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة. أنا أحترم من يقول إنه ليس ديمقراطيا والديمقراطية ليست مشروعي، ولا أحترم من يدعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو يمارس الاستبداد في سلوكه. أخشى أن تنتج المعارضة التونسية نفس أخطائها. فخط السير الحالي قد يقود إلى نفس النتائج لاحقا. ومنطق الإقصاء قد يقود إلى نتائج ضد أصحابه وكل الناس يتذكرون «مأساة دانتون» خلال الثورة الفرنسية، الذي صنع مقصلة للرؤوس فكان من بينها رأسه.